في رحاب مدرسة الركابية … سجع الذكرى ورونق التاريخ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قد سرني أن كان لي في مجلسي خلان كلما أستحضرت معهم عبق التاريخ أنهالوا علي بالحادثات و المواقف و الذكريات التي تحفظها أدمغتهم عن ظهر قلب .
وفي رحاب مدرسة الركابية الأبتدائية جعلنا لتلك الأيام الخالدات رونقا بهيا ، أرغمنا كلما أجتمعنا في مجالس أنسنا أن نبكيها ، يجرفنا حنين عاتي أليها لما تمتلئ وتفيض به طوارق تلك الأيام من مواعين الصدق و التجرد و الأخلاص .
قررت أن أقلب الماضي ، أنفض الأتربة من دفاتره وأستعيد ذكرياتي في تلك الفترة الجميلة، يحملني بساط من الشجون ، و يطربني لحن الحياة ، و يدفعني حب لرفاق الدرب الذين جمعتهم معي قاعة الدرس و أزقة و خيران أحياء أم درمان القديمة .
لقد جملوا في عيني ذكراها و ليتهم أكتفوا بذلك ، غير أنهم خلطوا أمرها و حالها بأمر و حال هذه المدينة المكفهرة الوجه دائما و المقفرة المنفرة التي أحتضنت مدرستنا و سماها أهلها أم درمان ، ثم نعتها أستاذنا المثقف الضليع معاوية محمد نور رحمه الله مدينة السراب و الحنين .
فكلما جلست في ضفاف نيلها تذكرت وصفه البليغ و تصويره الدقيق لها عندما قال عنها أنها مدينة ذات شمس محرقة وبيوت صغيرة وأزقة ضيقة ، الأغاني الشعبية هنا يرددها الكل ، من أكبر كبير الى الأطفال في الطرقات و الشوارع .
تسمع فيها صوت البوري يرن حزينا شجيا ، و ترى فيها صبيا واضعا رجلا على رجل في حماره القصير ساهم النظر مفتوح الفم ينظر الى بعيد من الأفاق .
مدينة تشعر بلهيب حرارتها تسري في جسدك كالنار في الهشيم ، لا ظلال تأويك من حرها اللافح ولا شجر ، فقط هو النيم و الهجليج و العشر وتبقى الحياة رغم ذلك مستمرة فيها .
فلهذه المدينة الحنينة صورها المميزة التي حفرت في بواطننا و لا تغيب عن أذهاننا أبدا منذ كنا في سبحات المهد ولدان .
ففي حي ودنباوي الذي عشت ردحا من الزمان فيه ، تجد أمام دكان النعيم منذ الصباح الباكر شيخا بلغ من الكبر عتيا ، يحمل في يده اليمنى المذياع ، يقربه لأذنه بشدة ليسمع كامل نشرة أخبار السادسة صباحا ( هنا أم درمان ) المحلية ينتظر بعدها بترقب نشرة الوفيات .
وهذا طفل يحمل جردله الصغير ويقف أمام منزله وقد أرسلته أمه ليشتري رطلان أو ثلاثة من الحليب من موسى سيد اللبن الذي يمر كل يوم شاقا شوارع الحلة بحماره الضعيف و الذي أنهكه طول خدمته لصاحبه وظل رغم ذلك دون شكوى أو أنين وفيا له .
وفي وقت الظهيرة تجد ود دباغ الحلبي بائع العدة ( الأواني المنزلية ) و بول الجنوبي بائع التسالي و الفول المدمس ، و حماد بتاع حلاوة قطن ببوقه الشجي المعروف يشقون طريقهم وسط الحلة كل بهمة و نشاط يسعى وراء رزقه .
وهذه أصوات ذكر حيران مسجد الشيخ قريب الله تشنف آذاننا وتزكي أرواح جميع المارة وأهل الحي وسط حركة دؤوبة للموظفين و التجار و الطلاب كل الى مكان عمله و درسه .
ولا يستقيم الحديث عن ودنباوي ألا بذكر عمنا الهادي نصرالدين الشهير بالهادي الدلالي صاحب اللسان الرطب بالطرفة و الذاكرة المتينة و المعرفة العميقة بكل أبناء و بيوت أبناء أم درمان .
كان كلما يلقاني في مناسبات الأسرة يذكرني بأنني لولا أن جدك ( من جهة أمي ) هو بدوي مصطفى الشيخ لما قبلناك ولما أعتبرناك من ناس أم درمان ، فأنت و والدك و كل حوش الشيخ الجعلي في ودنباوي مجرد دخلاء و مهاجرين ألينا في أم درمان من قرية كدباس مقر الطريقة القادرية و شيخها أحمد الجعلي .
وعن خلاني دعوني أبدأ الحديث بأخي عمار ميرغني و معه أخي قريب الله زكريا ، فقد كانوا من أولئك الركب الذين حملتهم معي قافلة الزمان في هذه المدرسة .
الأول يسكن في حي الركابية والثاني يسكن في الجانب الآخر من الشارع العام الرئيسي في حي القلعة ، وكلاهما من حفنة الناس الذين أذا جلست أليهم تقتات منهم لذات الكلام وعذوبته ومزحه وفكاهته .
أنهمك صديقنا قريب الله زكريا في أعداد مجلسنا في منزله بحي القلعة و الذي أعتدنا أن نقيمه عاما بعد عام ، وأحيانا أعواما بعد أعوام ، لنجتر فيه ذكرياتنا الخوالي .
وأعد حادي ركبنا أخونا عمار نفسه لتلاوة مرافعته التاريخية لكي ما يعود بنا أغوار بعد أغوار نحو الوراء لتذكر أحبتنا الذين تشتت بهم الشمل وتفرقت بهم السبل وفرقتهم عنا أقدار الحياة .
كان أثر هذه المدرسة علينا أثرا جميلا ، بقدر ما تكون الأثار الجميلة في النفس ، فقد شكلت شخصياتنا و عجنتها بخميرة الحب و الهيام ، وخلف كل ذلك معلمين نذروا كل الغالي و الرخيص من أجل بناء ناشئة متسلحين بالعلم و الثفافة و مغرمين حتى الثمالة بحب هذا الوطن .
ذكرت لهم سيرة أستاذنا الراحل ميرغني معلم مادة الجغرافيا ، ومن منا يستطيع أن ينساه ، وهو الذي دأب على أن يحرك بكلامه أفئدتنا بهوى هذه الأرض و يحرق معها نضو أحشاءنا و أكبادنا بعشقها .
طوف بنا هذا المربي الفاضل في حصصه الأفاق بين مدن السودان و قراه و حلاله شرقا و غربا ، شمالا و جنوبا ، حتى جعل تدريسه لهذه المادة منبعا لفيض لا ينضب من الثقافة و الروح الوطنية التي جذرها في نفوسنا .
حفظنا منه رحلة القطار عندما تبدأ الرحلة من فلادفستك الى غيرها من الأسماء الأعجمية الكثيرة ، وتعرفنا على خريطة العالم و حفظناها عن ظهر قلب بمواقعها في أطلس العالم فكانت نافذتنا للخارج قبل قدوم العم قوقل بخريطته الأسفيرية.
جلسنا نحصي مآثره ونعدد جميل خصاله ، نستذكر مزيج شخصيته الحازمة و المرحة و الساخرة ، ونقارن بينه وبين أقرانه الذين زاملوه في نفس المدرسة ، وكانت أحيانا تأخذنا المقارنة لأبعاد سحيقة و شتى تجبرنا على تذكر حتى وصف و أحساس ضرب سياطهم على مؤخراتنا !
ربما كان الضرب وقتها في غاية العنف و القسوة ، وقد شكت أشجار النيم في مدرستنا لطوب الأرض مأساتها معنا وهي تفقد كل يوم فرع من فروعها يستخدمه أساتذتنا كسوط ، لكنك ورغم ذلك كنت ترى لهذا الضرب قيمة و معنى ، و توقن أن من يضربك كانت له رغبة حقيقية لتصحيح مسارك العلمي و التحصيلي و أرجاعك لجادة الطريق .
رحمك الله أستاذي ميرغني فلو أن لنا عشق لهذه الأرض وصبر على هذا الوطن الحبيب اللعين كما وصفه أستاذنا الطيب صالح ، لكنت أنت صاحب القدح المعلى في تشكيل هذه المشاعر الدفاقة و الأحاسيس النبيلة .
وأني لا أجد أبدا لرثاءك من كلمات أبلغ من تلك التي رثى فيها شاعرنا أبي الطيب المتنبئ محمد بن أسحق التنوخي :
ماكنت أحسب قبل دفنك في الثرى أن الكواكب في التراب تغور
ثم جاء الحديث عن أستاذة حسونة هذه المعلمة التي كانت مربية للدفعة خمس سنوات أرتبطت فيها وجدانيا مع كل فرد منها .
كتب لي أخي المهندس زياد كمال مذكرا شخصي عن مآثرها أنه يدين و الدفعة بأكملها لهذه المربية الفاضلة في أنها أول من علمهم ثقافة الأعتصام و التظاهر السلمي طلبا للحقوق المهدرة .
كان ذلك عندما قررت أستاذة حسونة تنظيم رحلة للفصل فقامت بتجميع أشتراكات رمزية منهم كان القصد منها تدريبنا على التكافل و الترابط الأجتماعي ، و بالفعل تفاعلنا مع الحدث و قمنا بنشاط بتجميع مشاركتنا من أفراد الفصل .
ثم شاءت الأقدار أن لا نخرج الرحلة و يتم إلغاءها لأسباب أدارية ، ووقع علينا الأمر وقع الصدمة وشعرنا ببراءة الطفولة بالضيم و القهر وضياع الأموال الكبيرة التي جمعناها من أجل تنظيمها حسب مخيلتنا البسيطة في تلك الأيام !
وقتها أنبرى للموقف أخونا د.عبدالمجيد محمد أدريس و الثائر دوما عمار ميرغني و شكلوا لجان للمعارضة و التظاهر و الأعتصام و أقنعوا كمية مقدرة منا لتسيير مظاهرة من المدرسة لمنزل أستاذة حسونة ظللنا نهتف فيها يا أستاذة حسونة يا أستاذة حسونة ... أدينا قروشنا والله معانا !
لقد أنهمر الدمع السخين على مجاري الخد بعد أن تذكر القلب الصديع هذه القصة المؤثرة ، فقد كان لأستاذة حسونة دوما في جنبينا حب وأخلاص و عرفان .
جلسنا نتبادل القفشات و نسرف في اللغو و أستحضار المواقف الطريفة ، وبينما نحن كذلك أخرج لنا أخونا قريب الله صورة من الزمن السحيق ، يقول أنها للرعيل الأول من دفعتنا عندما كنا في الصف الثالث الأبتدائي .
هذا هو أخونا الفاتح الطيب وبجواره زياد كمال و مهدي بابكر و لؤي عطية و خالد عمر و قريب الله و عمار و محمد حيدر و خالد كمال و عبدالمجيد محمد أدريس وأحمد دفع الله و في وسطهم مربية الفصل الفاضلة رحمها الله أستاذة أم الحسن الملقبة بست حسونة أنسانة كأنها من جوهر مصفى .
هداكم الله يا رفاقي لقد كانت أشكالنا بريئة ونحن بالأردية الزرقاء و البنية و القمصان البيضاء ، ونفوسنا متصالحة و متوائمة مع ذلك الزمن الجميل .
ربما أصلح حديث يقال بعدها هو أن نردد مع جميل بن معمر ألا ليت أيام الصفاء جديد ، ودهر تولى يا رفاق يعود ... ويا ليته يعود .
teetman3@hotmail.com