إسهامات عبدالله علي إبراهيم في تفكيك المعرفة الاستعمارية: ثورة رفاعة نموذجاً

 


 

 

 


ورقة مقدمة بمناسبة الاحتفاء بمرور (60) عاماً من الكتابة عند عبدالله علي إبراهيم
60 Years of Scholarship- Abdullahi Ali Ibrahim
الجمعية السودانية للمعرفة بالتعاون مع اتحاد الكتاب السودانيين
الخرطوم، الثلاثاء 18 يوليو 2017م

بقلم عبدالله الفكي البشير
بريد إليكتروني: abdallaelbashir@gmail.com

مدخل

تجيء هذه الورقة بغرض المشاركة في الاحتفاء بمرور ستين عاماً من العطاء عبر الكتابة عند البروفيسور عبدالله علي إبراهيم، وهو أكاديمي وكاتب وصحفي ومسرحي سوداني، عمل أستاذاً جامعياً للفلكلور والتاريخ بالجامعات السودانية، وأستاذاً للتاريخ الأفريقي والإسلامي بجامعة ميسوري University of Missouri بكولمبيا بالولايات المتحدة( ). وفي اطار قراءتها في إسهامات عبدالله، المنشورة باللغتين العربية والإنجليزية، تقف الورقة عند إسهاماته في تفكيك المعرفة الاستعمارية في السودان، من خلال استخدامه منهج مدرسة ما بعد الاستعمار في دراساته، مع التركيز على دراسته لثورة رفاعة 1946. لقد اندلعت ثورة رفاعة في يوم الجمعة 20 سبتمبر 1946م، بقيادة محمود محمد طه (1909- 1985)، رئيس الحزب الجمهوري، بمدينة رفاعة( )، والسودان آنئذٍ تحت الحكم الاستعماري الثنائي البريطاني/ المصري (1898م- 1956م)، فأنشأت الحكومة الاستعمارية محكمة بمدينة ود مدني، وسط السودان، برئاسة القاضي محمد أحمد مصطفى أبورنات (1902م-1979م)، وكانت التهمة: إثارة الشغب في مدينة رفاعة. حكم القاضي على قائد الثورة بالسجن لمدة عامين بالإضافة إلى وضعه تحت المراقبة لمدة سنة أخرى بعد اتمام مدة السجن، كما حكم على رفاقه لمدد متفاوتة؛ بيد أن الثورة واجهت التهميش من قبل الدراسات الأكاديمية، والإقصاء عن إرث السودان الثوري، ولم يُنظر لها ولم تُدْرَس على أساس أنها ثورة، على النحو الذي فعل عبدالله علي إبراهيم، إلا عند الإخوان الجمهوريين( )، وفي إشارات عابرة عند أحمد يوسف هاشم (1903- 1958)، صاحب صحيفة السودان الجديد( )، وعند المؤرخ التجاني عامر (1908م-1987م) ( ). لقد درس عبدالله ثورة رفاعة، ونشر دراسته باللغة الإنجليزية عام 2011م. أوضح عبدالله بأن هدف دراسته هو إعادة النظر في ثورة رفاعة، من أجل الحصول على فهم أفضل لها، فقدم دراسته مستخدماً منهج مدرسة ما بعد الاستعمار، فأحدث نقلة في فهم ثورة رفاعة، إذ وضعها في اطارها النضالي، وأعاد لها هويتها الثورية ضمن سجل إرث السودان الثوري.
وحتى تنهض هذه الورقة بموضوعها تهيكلت في المحاور التالية: لمحة مختصرة عن اسهامات عبدالله علي إبراهيم- المعرفة الاستعمارية- استخدام عبدالله علي إبراهيم لمنهج مدرسة ما بعد الاستعمار في دراساته- ثورة رفاعة: حقائق ووقائع، ثورة رفاعة عند عبدالله علي إبراهيم، خاتمة، بالإضافة إلى الهوامش.

لمحة مختصرة عن اسهامات عبدالله علي إبراهيم

لقد اتسمت إسهامات البروفيسور عبدالله علي إبراهيم، والتي وصلتنا منشورة في كتب وأوراق علمية ومقالات صحفية، بعدة سمات منها، على سبيل المثال لا الحصر:

أولاً: الاستمرارية، وهذه السمة واضحة، إذ لم ينقطع عبدالله منذ العام 1957م من الكتابة، فقد ظل ينشر باستمرار: الكتاب، والورقة العلمية، والمقال الصحفي، حتى يوم الناس هذا. والاستمرارية في الكتابة تعني دوام التفكير والتفكر والتأمل، وتتطلب بالضرورة المواكبة والتطوير للأطروحات . كذلك الاستمرارية تؤكد الحضور في المشهد الثقافي والفكري، والإسهام في الحراك الوطني ومن ثم الإسهام في تنمية الوعي.

ثانياً: الميدانية. لقد قدم عبدالله بعض الإسهامات الميدانية، في الوقت الذي تميزت فيه الدراسات السودانية بالديوانية، ولم تجد الدراسات الميدانية احتفاءً يذكر، برغم أن شعبة أبحاث السودان، معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية حالياً، قد دشنت هذا النوع من الدراسات، وقد قدم المعهد إسهامات مقدرة، إلا أن الديوانية وليست الميدانية، هي السمة التي غلبت على الدراسات السودانية. كان عبدالله من أولئك الذي انجزوا دراسات ميدانية. لقد كانت الميدانية تتسق مع نشأته وانشغاله الفكري والثقافي بأمر الجماهير والعمال ثم صقلتها تجربته بمعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية، ففي اطار تأسيس دراساته عن التاريخ الثقافي والاجتماعي للسودان وأفريقيا، كانت له مشاريع دراسات حقلية طويلة، منها على سبيل المثال، الفترة التي قضاها ببادية الكبابيش (1966- 1970)، وبين الرباطاب من مزارعي النيل الأوسط (1966 و1984)، وبين قضاة الشريعة في تسعينات القرن الماضي. وقد نشر بعض هذه الدراسات الميدانية، وهو يداخل بين علوم التاريخ الأنثروبولوجيا والفلكلور والسياسة، في دوريات عربية وغربية، وفي كتب، منها: العناصر الاجتماعية والجمالية لمجازات جماعة الرباطاب في السودان لممارسة العين الحارة، 1994 (نُشر باللغة الإنجليزية)، ونشر جزء من دراسته عن بادية الكبابيش، بعنوان: فرسان كنجرت، وغيرهما.

ثالثاً: الانفتاح على الإرشيف القومي السوداني. إن الدارس لإسهامات عبدالله، يلاحظ أنها تتميز بميزة غابت في الكثير من الدراسات السودانية، وهي الانفتاح على الإرشيف، خاصة في دار الوثائق القومية. إذ تجده في دراساته يعتمد على وثائق هي ضمن مقتنيات دار الوثائق القومية، إلى جانب إشاراته للإرشيف الصحفي بدار الوثائق القومية في الخرطوم. فعبدالله من الزوار الدائمين لدار الوثائق، فقد التقيته، وهو ينقب ويبحث، في ردهات دار الوثائق القومية بالخرطوم، خلال عشرة الأعوام الماضية، عديد المرات. كما ظللنا، هو وشخصي، نتبادل الأحاديث والاستفسارات عن الكثير من الوثائق والمعلومات والإرشيف الصحفي بدار الوثائق، بغرض إعانة بعضنا البعض في الوصول للمصادر، سواء بدار الوثائق القومية بالخرطوم، أو في إرشيف السودان في بريطانيا ومصر وهولندا (حيث إرشيف الحزب الشيوعي السوداني وبعض إرشيف الإخوان الجمهوريين) وفي الولايات المتحدة الأمريكية.

رابعاً: استخدام منهج مدرسة ما بعد الاستعمار. تميزت إسهامات عبدالله بالمواكبة للنظريات الأكاديمية ولمناهج البحث العلمي الجديدة، وفي هذا كان عبدالله من أوائل الأكاديميين السودانيين، حسب اطلاعي، الذين استخدموا منهج مدرسة ما بعد الاستعمار، في نقد وتفكيك المعرفة الاستعمارية، وقد ظهر ذلك في عدد من دراساته وكتبه، منها على سبيل المثال، كتاباه:
Assaulting with Words: Popular Discourses and the Bridle of Shari'ah, Northwestern University Press, 1994
Manichaean Delirium: Decolonizing the Judiciary and Islamic Renewal in Sudan 1898-1985, Brill, Leiden, 2008.
وفي عام 2006م نشر كتاباً بعنوان: الشريعة والحداثة: جدل الأصل والعصر( )، ثم نشر كتابه: بخت الرضا: التعليم والاستعمار، 2010.
كما ظهر استخدامه لمنهج مدرسة ما بعد الاستعمار في العديد من الأوراق العلمية، منها:
"Keep These Women Quiet: Colonial Modernity, Nationalism, and the Female Barbarous Custom"، 2011.
وورقة علمية بعنوان: "جغرافيا الاستعمار المانوية ومحنة محمود محمد طه (1985)"، قدمها عبدالله في مؤتمر بتونس، 2015م، وغيرها، وسترد الإشارة لاحقاً لهذه الدراسات، خاصة نموذج ثورة رفاعة.

خامساً: تفرد عبدالله في إسهاماته باستخدامه لأداة من أدوات المثقفين، وهي المذكرات الاحتجاجية الفردية، مثل: "نداء عبدالله علي إبراهيم إلى اساتذة الجامعات بالعالم للاحتجاج على تعيين المكاشفي طه الكباشي، قاضي محكمة الردة عام 1985م، بإحدى الجامعات بالمملكة العربية السعودية، والمطالبة بتنحيته عن التدريس بالجامعات بسبب ايذائه لمخالفيه في الرأي"( ). ففي عام 1988م، وجَّه البروفسير عبد الله نداءً احتج فيه على تعيين المكاشفي طه الكباشي، بإحدى الجامعات بالمملكة العربية السعودية. وضمنه دعوة لمقاومة مادة الردة في القانون الجنائي. كما طالب عبدالله بتنحية المكاشفي عن التدريس والبحث بالجامعات بسبب ايذائه لمخالفيه في الرأي. فالمكاشفي هو رئيس محكمة الاستئناف الجنائية، بالعاصمة القومية، وهي المحكمة التي أصدرت قرارها بتأييد حكم الاعدام على محمود محمد طه وتلاميذه في يوم الثلاثاء 15 يناير 1985م. كتب عبدالله في ندائه، قائلاً:

"وإننا لنعتقد أن سجل الدكتور الكباشي في التخلّص من خصومة الفكريين وارهابهم حتى يلفظوا عقائدهم لا يؤهله لعضوية أي هيئة تدريس، فمن الصعب أن نتوّقع من الدكتور الكباشي، الذي لا يحتمل خصومة الرأي، أن يقبل من طلابه اعتناق آراء غير التي يعتقدها هو، ناهيك عن مكافأتهم على مثل هذه الجسارة الفكرية. وبناء عليه فالدكتور الكباشي قاصر عن كل مطلوب في المعلّم والباحث. وعليه فإننا نناشدكم الكتابة لمدير جامعة الملك سعود معترضين على تعيين الدكتور المكاشفي بالجامعة وأن تسألوه ابعاده من كل وظائف التدريس والبحث. وسنكون ممنونين جدا اذا مررتم هذه المناشدة الى كل المنظمات العلمية التي تشغلها قضايا حرية الفكر وتنتفض للجرائم الموجهة ضدها".

لابد من الإشارة إلى أن عبدالله كان قد أدان محكمة الردة التي عقدت في مواجهة محمود محمد طه، من محكمة غير مختصة، في 18 نوفمبر 1968، ضمن رفاقه أعضاء جماعة "ابادماك" وهو تجمع الكُتاب والفنانين التقدميين، وكان وقتئذ يحتل موقع الأمين العام للجماعة، اصدر جماعة "ابادماك" بياناً، جاء فيه "يستنكر اجتماع الكتاب والفنانين التقدميين"أبادماك" التضييق الذي تمارسه بعض الجهات علي العقل باسم الدين. إن الحرج الذي تعرض له العقل والوجدان بوقوف فكر ومنهج الأستاذ محمود محمد طه أمام القضاء الشرعي لهو حرج في أفئدة كل الذين يريدون لبلادنا أن تستظل بالحوار وأن تسترشد بالحجة والبيان وأن يصان العقل من الاستعلاء والاستعداء. وإننا لنؤكد بالقطع مسئولية الفكر في خلق سودان معاصر في التاريخ والزمان والمكان. لن ننثني أمام محاكم الردة وما اشبه.. ففي عمق رؤانا يعيش شعبنا وتراثه وباسمه نستشرف آفاق المعاصرة والبهاء"( ).

أيضاً، وجه عبدالله نداءات فردية أخرى، منها : "رسالة من البروفسير عبد الله علي إبراهيم إلى رئيس الجمهورية بخصوص حشد 30 يناير 2011م"، كتب في مدخلها، قائلاً:

"سيادة الرئيس عمر البشير.. لست من الكتاب الذين يوجهون الرسائل بالنصح والرجاء لذوي الشأن. فأنا أكتب لرسم أجندة تأتلف عندها الأفئدة والقلوب في يوم قريب. ولكني أخاطبك اليوم أوصيك خيراً بالشباب الذين تداعوا للتعبير عن محبتهم لوطنهم ورأيهم في ولاة أمرهم. وابدأ بنفي أمرين عنهما حتى لا نستبق شاغلهم اليوم بالتخمين والريب. فهم ليسوا رسل أحد. لقد تنادوا أصالة عن أنفسهم لا وكالة عن أحد. وهم ليسوا مجرد نقلة عن تونس أو مصر. فشباب السودان قدوته نفسه لأنه يقف فوق أكتاف ثورتين ساطعتين للديمقراطية تجري فيه مجرى الدم عزيمة وعزة ببلده (انسدلت جدلة عرس في الأيادي). لم يعرف أكثرهم رئيساً غيرك خلال عقدين من الزمان. وهذه مدة أكثر من كافية للحكم عليك بأعمالك".

كما وجه عبدالله في يوم 9 يوليو 2009م نداءً بشأن "إعادة تسمية الكلية العسكرية العليا باسم المرحوم نميري"، كتب في مدخله، قائلاً: "إننى لأتوجه بمناشدة حرى للسيد رئيس الجمهورية أن يعيد النظر في قراره بردة الكلية العسكرية العليا لتسمى باسم المرحوم. واسأله أن ينتظر بأمر المرحوم وإعادة تأهيله حتى قيام البرلمان السوداني ليقرر فيها النواب المنتخبون من الشعب للرجل أو عليه. والخير أردنا". كما وجه في يوليو 2016م رسالة إلى المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوداني، جاءت بعنوان: "رسالة من عبد الله علي إبراهيم إلى المؤتمر السادس للحزب الشيوعي: المثقف والحزب"، بيَّن فيها أسباب تركه للحزب في عام 1978م، وتناول وضع المثقف في الأحزاب السودانية. وغيرها ذلك من الرسائل المذكرات الاحتجاجية.

ولعل نهج نشر المذكرات الاحتجاجية واطلاق النداءات الفردية، على النحو الذي فعله البروفسير عبد الله، هو نهج جديد على السودان، من حيث أنه عمل فردي، ومن حيث أنه محاولة متقدمة لبناء سلطة المثقفين.

أيضاً هناك إسهامات للبروفيسور عبدالله في ميدان الأطروحات الجامعية، حيث أشرف على الأطروحات الجامعية (الدبلوم والماجستير والدكتوراه)، إلى جانب مشاركته ممتحناً لطلاب الماجستير والدكتوراه.

المعرفة الاستعماريةColonial Knowledge

لا جدال في أن المعرفة الاستعمارية قد تسربت إلى حياة وفكر وعقول الشعوب التي خضعت للاستعمار، فظلت هناك جرعات معرفة استعمارية تفعل في فعلها، في مختلف المجالات السياسية والاقصادية والاجتماعية والثقافية، وهذا ما يتجلى بشكل سافر في مختلف المجالات في السودان. فخروج المستعمر من الأرض لا يعني الاستقلال. يقول محمود محمد طه: "نحن حتى الآن مستقلون سياسياً، مستعمرون فكرياً.. فكرك، وفكري، ما عندو غير الثقافة الغربية.. الثقافة المستعمرانا، وقد أخرجنا مستعمرينا من أرضنا، وهي لا تزال تستعمر عقولنا"( ). كان عبدالرحمن عبدالله قد تناول في كتابه: السودان الوحدة أم التمزق، آثار الاستعمار وتمكنها في الحياة السودانية، فقد كتب مشيراً إلى حديث السير جيمس روبرتسون( )، وقوله بإنهم كحكام "شجعوا على التنافس المحموم بين الطائفتين الدينيتين وزعيميهما، وهي سياسة يعترف بآثارها السلبية على السياسة السودانية"( ). إن قول روبرتسون هذا يجد سنده في الإرث السياسي وفي الواقع الراهن، بل لم يخذل ساسة السودان السير جيمس روبرتسون. كما تحدث عبدالرحمن عن الميراث البريطاني الإداري مشيراً لحديث باذل ديفيدسون (1910-2014) ( ) الذي قال: إنه في أغلب الحالات في المستعمرات "فإن التعليم كان من أجل تثبيت الأمر الواقع، والأمر الواقع الاستعماري على وجه التحديد"... وأن نفوذ من احتلوا المواقع استمر "لأن المكاتب التي جلسوا عليها، هي نفسها المكاتب القديمة، وكذلك الملفات التي يعملون عليها، فقد تغيّر الحكام ولم تتغير مؤسسات الحكومة الكولونيالية"( ). وأضاف عبدالرحمن بأن الإرث الاستعماري جمَّد حركة التغيير، وقد استدعي في ذلك الزعيم الهندي نهرو، كتب عبدالرحمن عبدالله، قائلاً: "وفي حقيقة الأمر فإن الميراث البريطاني الإداري لم يشفع للسودانيين لمواصلة الحكم بفاعلية، وكما حدث في الهند فلقد أرسوا دعائم حكم القانون، ولكن، ورغم المظهر الخارجي، كما قال نهرو "جمدوا حركة التغيير"( ). وفي هذا كان عبدالله علي إبراهيم قد أشار في دراساته إلى أن التغيير يرتبط بتفكيك الإرث الثقافي للاستعمار ونقد المعرفة الاستعمارية، الأمر الذي يتطلب الإحاطة بالاستعمار، وأضاف، قائلاً: "إن الإحاطة بالاستعمار كإرث ثقافي متين يلزم في حربه البأس الفكري الشديد( ). وفي هذا كتب محمود محمد طه، قائلاً: "إن الإنجليز قد يجلون غداً ثم لا نجد أنفسنا أحراراً ولا مستقلين، لأن الاستقلال والحرية لا تجىء إلا نتيجة للحكم الواعي الرشيد وذلك أمر لا يتفق اتفاقاً وإنما يجىء عن تعمد وتوخ ودراسة واعية"( ).

كذلك تحدث عثمان سيد أحمد إسماعيل البيلي (1930- 2011) عن الاستعمار باعتباره، كما أشار عبدالله علي إبراهيم في دراساته، لاسيما، كتابه: بخت الرضا: الاستعمار والتعليم، بأن الاستعمار مشروع ثقافي بعيد المدي، كتب البيلي، قائلاً: "والاستعمار ليس فقط نهباً للثروات وتسخيراً للعباد وإنما هو مسخ للهوية وتشويه للتاريخ"( ). وعن آثار التعليم الاستعماري، وخطورة جرعات المعرفة الاستعمارية التي تشربها مثقفو الدول المستعمَرة، تحدث البيلي مشيراً إلى أثر ذلك لدى المثقفين، ولم يستثن بني جيله، حيث وصفهم بأنهم تشربوا معرفة "علمتهم الجدل ومنعتهم العمل"( ). وفصّل، قائلاً: بأنهم ظلوا يتحدثون "عن التغيير دون التحرك والعمل على التغيير، ذلك لأن أولئك المثقفين يمرحون في قيد ثقافتهم التي تعلمهم الجدل وتمنعهم العمل"( ). ويؤكد هذا المعنى البروفسير محمد عمر بشير (1926م-1993م) حينما تحدث عن ميل المتعلمين إلى السفسطة، وكتب عن نمو اتجاه الحسد عندهم، كأحد مخلفات نوع التعليم، الذي غاب فيه التطوير للملكات النقدية، كتب البروفيسور محمد قائلاً: "والتعليم الذي حظي به المتعلمون لم يستطع أن يطور ملكاتهم النقدية. إذ خَلَّفَ اتجاهاً عقلياً يبلغ في دركه الأسفل الحسد. وفي أحسن صوره إحساساً بالانحراف صوب السفسطة والرومانسية"( ).

هذه مجرد إشارات مختصرة، فالشاهد أن المعرفة الاستعمارية أمر ماثل في الحياة السودانية وفي الواقع الراهن السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وهذا ما نجد الإشارة إليه في دراسات البروفيسور عبدالله على إبراهيم التي تناول فيها نقد المعرفة الاستعمارية وسعى لتفكيكها، ولفت الانتباه إلى أننا في السودان قد تأخرنا كثيراً في دراسة المعرفة الاستعمارية، بينما قطعت الشعوب والدول الأخرى التي خضعت للاستعمار شوطاً كبيراً في نقد المعرفة الاستعمارية وتفكيكها( ).

استخدام عبدالله علي إبراهيم لمنهج مدرسة ما بعد الاستعمار

برز خطاب نقد آثار الاستعمار الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والحاجة لتفكيك الذاكرة الاستعمارية، حديثاً مع أطروحات فكر ما بعد الحداثة. تمظهر الخطاب في مدرسة دراسات الاستعمار، ومدرسة دراسات ما بعد الاستعمار. وتمحور حول ضرورة إعادة النظر في البناء الاستعماري للمفاهيم والتصورات لطبيعة القضايا وجذورها، التي خلفتها مرحلة الاستعمار على الشعوب والدول التي خضعت للاستعمار، بما في ذلك نقد التعليم الاستعماري، والدعوة للتحرر من الإرث المعرفي للاستعمار( ). كان إدوارد سعيد (1935- 2003) أحد أهم المنظرين لمدرسة دراسات ما بعد الاستعمار( )، وقد تحدث عبدالله علي إبراهيم عن ذلك في دراساته. ذهبت آنيا لومبا في دراستها: في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، إلى التساؤل قائلة: يمكننا أن نسأل، ليس فقط، متى تبدأ مرحلة ما بعد الاستعمار، ولكن أين يمكن أن نجد ما بعد الاستعمار؟( )، وقدمت تعريفات للاستعمار وما بعد الاستعمار، كما أشارت إلى أن دراسات ما بعد الاستعمار أظهرت أن العملية الاستعمارية غيرت كلاً من "المدينة الحواضرية" و"المستعمرة" بصورة عميقة. وأعيد بناء كليهما وفقاً لذلك أيضاً بواسطة فكفكة الاستعمار. فمقولة ما بعد الاستعمار Post colonialism التي جلبت إلى مجال الخطاب النقدي؛ وهي، في أساسها، "مقولة سياسية" استخدمت أول مرة في مجال النظرية السياسية في السنوات الأولى من عقد السبعينيات لوصف حالة البلدان التي خرجت من تجارب الاستعمار الأوروبي( ).

ففي السودان، الذي شهد الاستعمار الأوروبي، يُعد عبدالله علي إبراهيم، حسب اطلاعي، من أوائل الذين دشَّنوا هذا النوع من الدراسات النقدية، مستخدمين منهج مدرسة ما بعد الاستعمار في دراساتهم. فقد اتبع عبدالله هذا المنهج في كتابه( ): Manichaean Delirium: Decolonizing the Judiciary and Islamic Renewal in Sudan, 1898–1985، وقد عرَّب جزءاً منه ونشره بعنوان : الشريعة والحداثة: جدل الأصل والعصر( ). فعن المنهج الذي اتبعه في هذا الكتاب، كتب عبد الله، قائلاً: إنني اتبعت فيه، منهج مدرسة ما بعد الاستعمار التي شيخها الدكتور إدورد سعيد الفلسطيني الأصل( ). فهو شيخ مدرسة "دراسات ما بعد الاستعمار". وهي مدرسة لا تصوب نقدها لتركة ومغزي الاستعمار فقط بل هي خصم ألد لصفوة الوطنيين التي أخرجت المستعمرين. فمن رأي سعيد أننا لم نقف بعد على جلية الاستعمار على طول ابتلائنا به و"تحررنا" منه. وأشار عبدالله إلى أن سعيد خصص كتابه: الثقافة والامبريالية، ليتلافى نقصاً معيباً في معرفتنا بالاستعمار. فهو يرى (أي سعيد) أن ضوضاء الجيل الوطني لم تنفذ لمعرفة كيف تقتحم الامبريالية ثقافة الذين تستعمرهم وكيف تطبعهم بقيمها، في حين يظنون أنهم قد صرعوا الاستعمار ونجوا من شره. فقد نقرأ رواية "مانسفيلد بارك" للكاتبة الانجليزية جين اوستن كواحدة من عيون الأدب العالمي الذي لا شاغل له بالسياسة. ومن رأي سعيد أن هذه غفلة. وكشف بصفاء كيف أن الثقافة والسياسية تناصرتا في المشروع الاستعماري( ).

استخدم عبدالله كذلك منهج مدرسة ما بعد الاستعمار، في كتابه: بخت الرضا: التعليم والاستعمار، فقد كتب في مقدمته، قائلاً: "تقع هذه الدراسة بصورة أخص في حيز دراسات الاستعمار والمناهج المدرسية"( ). ثم أشار عبدالله إلى إدوارد سعيد، مُطلقاً عقال مدرسة دراسات ما بعد الاستعمار، وإلى الدكتورة لند سميث، التي دعت شعب الماروي النيوزيلندي للتحرر من الاستعمار كمعرفة تشربها( ). كما أشار إلى كتاب: المنهاج الإمبريالي: العقائد العرقية والتعليم في التجربة الاستعمارية البريطانية، لمؤلفه ج. أ. ماقمان، الذي قال: "إننا لم ندرس بصورة كافية الجذور العرقية في التعليم الاستعماري. فالمدارس حقاً تعلم معارف ومهارات ولكن فقط في صور تضمن الخضوع للأيديولوجية السائدة وطغيان ممارساتها"( ). لقد استدعى عبدالله البرنامج الوطني في السودان لمحو آثار الاستعمار، وهو يدفع بما خلص إليه الباحثون بأن "الاستعمار مشروع ثقافي بعيد المدى"، فكتب عبدالله، قائلاً: "فلقد تهافت البرنامج الوطني لـ "محو آثار الاستعمار" لأننا فهمنا خطأ أن الاستعمار "يتبخر" بالاستقلال( ). وعاب عبدالله على الحركات الوطنية أن بوسع الأمة التي تحررت أن تعيد صلتها بتاريخها وثقافتها كأن الاستعمار لم يكن( ).

وفي مقدمة دراسته الموسومة بـ :"جغرافيا الاستعمار المانوية ومحنة محمود محمد طه (1985)"، 2015م، والتي سعت إلى تفكيك المعرفة الاستعمارية عبر منهج دراسات ما بعد الاستعمار، لا سيما غرس الاستعمار للفضاءات الثنائية المتعارضة. تناول عبدالله الفضاءين مشيراً إلى فرانز فانون، فكتب، قائلاً: شق الاستعمار المُستَعمرة إلى فضاءين: حديث وتقليدي. واصطلح فرانز فانون، الطبيب النفساني الفرنسي المارتينكي الأصل، على وصف هذه الجغرافيا ب (المانوية) نسبة إلى ماني، صاحب الديانة الفارسية التي تعتقد في انقسام أزلي للعالم بين نقائض مثل الخير والشر، يدور بينهما صراع درامي أزلي. فما حل الاستعمار ببلد، في قول فرانز فانون، حتى قسمه إلى فضاءين: الحيز الأوربي الذي له الأمر ومستودع القيم المستقبلية، وحيز "الأهالي" المغلوب على أمره ومستودع القيم الآفلة. وقد وصف فانون هذا العالم "المزدوج" المتباغض بهرميته الاعتباطية بقوله إن الفضاءين، الحديث والتقليدي، متعارضان من غير سعى من جانبيهما لبلوغ أي شكل أعلى من الوحدة. وذهب عبدالله متفحصاً واقع الحياة السودانية بعد أن امتزجت بالإرث الاستعماري، إلى أن الفضاءين قد أسفرا عن وجهيهما في كل مناحي الحياة السودانية منذ حل الاستعمار في البلاد. وتجلت بولتيكا الفضاءات الاستعمارية في تكوين القضائية من قسم مدني وآخر شرعي. فقام المدني على قانون وضعي ناظراً إلى القانون الإنجليزي. بينما اختص القسم الشرعي بتطبيق الشريعة الإسلامية في أحوال المسلمين الشخصية وفقاً لقانون صادر في 1902. كان محمود محمد طه قد تحدث عن دور الاستعمار وتدخله في الشؤون الدينية وتقسيمه للقضاء، فكتب، قائلاً إن المستعمر "أنشأ المحاكم الشرعية.. وحدد لها اختصاصا لا يتعدى شريعة الأحوال الشخصية.. وجعل تنظيم أحوال الناس المعاشية، في تعاملهم اليومي، إلى الشريعة الوضعية، وأقام القضاء المدني بإزاء القضاء الشرعي، وجعله فوقه، وأعطاه السيادة عليه، وجعل تنفيذ أحكام القضاء الشرعي في يد القضاة المدنيين. وكانوا، في الغالب الأعم، بريطانيين"( ).

ثورة رفاعة 1946م: حقائق ووقائع

أبادر فأعتذر للقراء عن التوسع في هذا المحور، الذي اقتضته ضرورة التوضيح لحقائق ووقائع تفتقدها الدراسات السودانية، كما أن إيرادها يعين في فهم ما توصل إليه عبدالله علي إبراهيم في دراسته لثورة رفاعة، إذ نفذ إلى ما لم تصل إليه الدراسات السودانية حتى اليوم، وفي يقيني بأنها ستصله بعد حين، وهو قراءة ما حدث في رفاعة على أنه ثورة. وبدون الخروج عن موضوع هذه الورقة، فإنني أقدم لمحات مختصرة عن ثورة رفاعة( ).

إن الثورة التي قامت في يوم الجمعة 20 سبتمبر 1946 بمدينة رفاعة، بقيادة محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري، ما هي إلا حلقة من حلقات نضال الحزب الجمهوري ضد الاستعمار. فقد كتب محمود محمد طه، قائلاً: "عندما نشأ الحزب الجمهوري... أخذ يعارض الحكومة في الطريقة التي شرعت عليها تحارب عادة الخفاض الفرعوني، لأنها طريقة تعرض حياء المرأة السودانية للابتذال، وعلى الحياء تقوم الأخلاق كلها، والأخلاق هي الدين"( ). لقد ظلت هذه الثورة من أكثر الثورات التي وجدت التجاهل من الدارسين، والتقليل من هويتها الثورية في الدراسات التي تعرضت لها، أكثر من ذلك فالتناول الذي تم للثورة في كل الدراسات والمقالات، والتي وقفت عليها، خاصة الدراسات التي استخدمت مناهج بحث حقبة الحداثة، اتسم بالانبتات عن مصادر المعلومات في الإرشيف القومي في السودان، فالمعلومات التاريخية الواردة في تلك الدراسات عن الثورة، ليست غير دقيقة وغير محيطة بالحدث فحسب؛ وإنما ناقصة وقاصرة ومضللة، ومن الطبيعي أن تختل نتائجها. فهذه الدراسات من جهة، لم تقف على المعلومات وحقائق التاريخ في مظانها، كما أنها لم تدرس الثورة باعتبارها حلقة من حلقات نضال الحزب الجمهوري ضد الاستعمار، ومن الجهة الأخرى فإنها لم تستخدم مناهج البحث الجديدة مثل منهج مدرسة ما بعد الاستعمار، وإنما استخدمت مناهج بحث تتصل بحقبة الحداثة، ولهذا لم تتعاط كل هذه الدراسات مع ثورة رفاعة على أساس أنها ثورة ضد المستعمر؛ وإنما، وباعتبار سبب قيامها، وهو قضية الخفاض الفرعوني، هي عمل ضد الحداثة، وضد تحرير المرأة، وهي تعبير عن موقف محمود محمد طه من عادة الخفاض الفرعوني التي أدعى الاستعمار محاربتها. بينما كانت الدراسات التي استخدمت المناهج البحثية التي تتصل بتفكيك خطاب المعرفة الاستعمارية وتتصل بحقبة ما بعد الحداثة Postmodernism، والتي استخدمت منهج مدرسة دراسات ما بعد الاستعمار Post-Colonialism، جاءت بنتائج متفقةً مع محمود محمد طه في موقفه من تشريعات الاستعمار لمحاربة قانون الخفاض الفرعوني. كما أتفق هذا النوع من الدراسات معه في تفسيره للغرض السياسي من مسألة الخفاض الفرعوني، وفي نظرته للكيفية التي يجب أن تحارب بها عادة الخفاض الفرعوني. هذا النوع من الدراسات بدأ الآن في التوسع وفي طريقه ليكون أكثر عدداً من النوع الأول. وتأتي على رأس هذه الدراسات دراسة عبدالله علي إبراهيم، موضوع هذه الورقة، وقد تميزت دراسته عن كل الدراسات بأنها أعادت لثورة رفاعة هُويتها الثورية، وأرجعتها، بعد اقصاء، إلى سجل إرث السودان الثوري.

لم يكن موقف محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري، من عادة الخفاض الفرعوني، قد تبلور مع ثورة رفاعة في سبتمبر 1946م، وإنما كان موقفاً معلناً منذ يوم 10 ديسمبر 1945م في بيان صدر بعنوان: "بيان الحزب الجمهوري عن مشروع قانون الخفاض الفرعوني"، جاء في صدره: "لا نريد بكتابنا هذا أن نقف موقف المدافع عن الخفاض الفرعوني ولا نريد أن نتعرض بالتحليل للظروف التي أوحت به لأهل السودان، والضرورة التي أبقته بين ظهرانيهم الى يومنا هذا، ولكننا نريد أن نتعرض لمعاملات خاصة وأساليب خاصة وسنن خاصة سنتها حكومة السودان أو قل إبتدعتها ابتداعاً وارادتنا أن ننزل على حكم ابتداعها إرغاماً...". إن اصدار الحكومة لتشريع الخفاض الفرعوني، لم يكن غرضه الاشفاق على المرأة أو غرضة الناحية الإنسانية والأخلاقية، كما زعمت، فإذا كان الأمر كذلك، يقول البيان "لماذا لم تتخذ حكومة [بريطانيا الاستعمارية] الهند إزاء استئذان الجنود لسادتهم وسمل عيون الأطفال ما اتخذته حكومة السودان من قانون بشأن الخفاض الفرعوني؟". ومن المعروف أن عادة سمل عيون الأطفال (سمل عينه أي فقأها) من العادات السائدة في الهند التي كانت تحت الحكم البريطاني. فالأمر لم يكن كما صوره الاستعمار. وذهب البيان في توضيح الأمر ودحض حجج الاستعمار، وهو بيان وافي وقد بلغ عدد كلماته نحو (1500) كلمة.

الشاهد أن كل الدراسات التي درست ثورة رفاعة، والتي وقفت عليها، لا تجد فيها أثراً لبيان الحزب الجمهوري عن الخفاض الفرعوني، ولم تتناول ما ورد فيه، وهو البيان الذي تضمن موقف الحزب الجمهوري من التشريع الذي سنه الاستعمار بشأن الخفاض الفرعوني. لقد أشار البيان كذلك إلى المجلس الاستشاري لشمال السودان، وهو المجلس الذي صدر عنه تشريع الخفاض الفرعوني. كان الحزب الجمهوري مناهضاً للمجلس الاستشاري لشمال السودان The Advisory Council for the Northern Sudan الذي تم تأسيسه ليكون قاصراً على مديريات السودان الست الشمالية، ولم تكن المديريات الجنوبية ضمنه( ). الأمر الذي رفضه محمود محمد طه، واعتبر قيام المجلس الاستشاري لشمال السودان نية مبيتة من المستعمر بهدف فصل جنوب السودان، فظل يناهض ذلك المجلس، ورافضاً للقرارات الصادرة عنه. ولم يصدر المجلس، إلى جانب قرار الأمن العام، سوى قرارين: الأول بشأن الخفاض الفرعوني والقرار الثاني يقضي بمنع تعاطي الخمور، ومنع تقطير الخمور الروحية محلياً "العرقي والمريسة"( ). فور اجازة المجلس لـ "مشروع قانون الخفاض" خلال مداولات خلال الفترة 4- 8 نوفمبر 1945( )، اصدر الحزب الجمهوري بيانه عن الخفاض الفرعوني في 10 ديسمبر 1945، مبينناً موقفه من قضية الخفاض الفرعوني، ومتسقاً مع موقفه الرافض لأي قرار صادر عن المجلس. لهذا لا يمكن دراسة موقف محمود محمد طه من الخفاض الفرعوني بمعزل عن بيان الحزب الجمهوري في 10 ديسمبر 1945، وقد أشار لهذا المعنى التجاني عامر، قائلاً: إن "حادث (الطهارة الفرعونية) في رفاعة وهو حدث اجتماعي رفعه محمود إلى مستوى المساس بالدين والوطن"( ). كما لا يمكن دراسة البيان عن الخفاض الفرعوني بمعزل عن موقف الحزب الجمهوري من المجلس الاستشاري لشمال السودان ومن القرارات الصادرة عنه.

كانت الحكومة الاستعمارية قد استبقت مداولات اجراءات الدورة الرابعة، المجلس الاستشاري لشمال السودان (3-8 نوفمبر 1945) ( ) عن الخفاض الفرعوني، بتقديم "مذكرة عن الخفاض في السودان الإنجليزي المصري"( ). جاءت المذكرة بتقديم هيوبرت هدلستون حاكم السودان العام، والشيخ أحمد الطاهر مفتي السودان ونائب قاضي القضاة. وتضمنت رأياً مكتوباً عن الخفاض الفرعوني من السيد على الميرغني، ومن السيد عبدالرحمن المهدي( ). وقد جاءت الآراء المكتوبة في المذكرة، متسقة مع رؤية الحكومة، عدا رأي السيد علي الميرغني، فقد كتب في رأيه المنشور في صدر المذكرة، قائلاً: "ما من بلاد إلا ولها عوائد مستحسنة وأخرى مستهجنة في نظر العلم والعقل، والنوع الثاني يأخذ في الزوال شيئاً فشيئاً لاستنارة عقول معتاديه بنور العلم، والسودان لا يخرج عن هذه القاعدة بداهة... العادات الغير المستحسنة ستختفي وتزول أمام نور العلم والتهذيب"( ).

هذه الوقائع لا يجد الباحث لها أثراً في الدراسات السودانية التي تناولت ثورة رفاعة، كما لم يتم الربط بين ثورة رفاعة وقيام الجلس الاستشاري لشمال السودان، إلا في دراسة واحدة، مما وقفت عليه، وهي دراسة مدثر عبدالرحيم التي جاءت بعنوان: الامبريالية والقومية في السودان: دراسة للتطور الدستوري والسياسي في السودان (1899م-1956م)، غير أن مدثر لم يتناول ما حدث في رفاعة باعتباره ثورة، وإنما وصفه بالصدام. فقد تناول مدثر المجلس الاستشاري، وقضية الخفاض الفرعوني، وأشار إلى رأي السيد علي الميرغني "بأن الختان الفرعوني، كغيره من العادات، سيزول حتماً مع انتشار التعليم والوعي العام"( ). وعلى الرغم من أن مدثر عبدالرحيم قد أورد رأيه من الخفاض الفرعوني وكان يتفق إلى حد كبير مع رأي محمود محمد طه، إذ كتب، قائلاً: "على أن محاولة القضاء على هذه العادة العميقة الجذور بإجراء تشريعي قد دلت، كما كان منتظراً، على أنها غير مجدية، وانتجت أثراً عكسياً"، على الرغم من ذلك فإنه لم يسمِّ ما حدث في رفاعة بثورة، وإنما صدام. فقد كتب مدثر متحدثاً عن ردة الفعل لصدور قانون الخفاض الفرعوني، قائلاً: "ووقع على الأقل في بلدة واحدة وهي رفاعة اصطدام خطير بين المتظاهرين والشرطة"( ). ولم يرد عنده ذكراً لبيان الحزب الجمهوري عن الخفاض الفرعوني.

إن تسمية ثورة رفاعة، بأنها صدام مع الشرطة، كما ذهب مدثر عبدالرحيم، أو "شغب" أو "حوادث رفاعة" وما شابه ذلك، وليس ثورة، أمر له جذور تعود إلى الخطاب الاعلامي للحكومة الاستعمارية آنئذٍ( ). وهو أمر شائع لدى الكثير من المؤرخين السودانيين، فقد كتب عون الشريف قاسم (1933م-2006م)، وهو يتحدث عن محمود محمد طه، قائلاً: "اصدر المنشورات منذ عام 1945م وبدأ البوليس يلاحقه وسجن لعامين في كوبر"( ). هذه تسمية للأشياء بغير مسمياتها، فالبوليس لم يلاحق محمود محمد طه في شأن شخصي وإنما بسبب شأن وطني، فقد طارده البوليس حينما أصدر المنشورات، والمنشورات ضد المستعمر لا يُصدرها إلا المناضلون والأبطال المقاومون من أجل بلدانهم وشعوبهم. وفي تقديري، أن وصف المناضل من أجل طرد المستعمر بأن يقال "كان يلاحقه البوليس"، هو تبني لوجهة نظر المستعمر، وما كان يجب أن يتبنى عون الشريف قاسم وجهة نظر الإدارة الاستعمارية ويسمي نضال محمود محمد طه ومواجهته للمستعمر بـ "ملاحقة بوليسية".

ثورة رفاعة عند عبدالله علي إبراهيم
العمل على تفكيك المعرفة الاستعمارية كون "الاستعمار مشروع ثقافي بعيد المدى"

درس عبدالله علي إبراهيم ثورة رفاعة مستخدماً منهج مدرسة ما بعد الاستعمار، ونشر دراسته باللغة الإتجليزية بعنوان: “Keep These Women Quiet: Colonial Modernity, Nationalism, and the Female Barbarous Custom( ). وترجمة العنوان هي: "يا نسوان كفى: الحداثة الاستعمارية، والقومية، وختان النساء البربري"( ). أوضح عبدالله في مدخل ورقته، قائلاً: " إن ورقة البحث هذه تعيد النظر في ثورة رفاعة (1946) في السودان بقيادة الأستاذ محمود محمد طه، الإسلامي الكبير السن، والمصلح الحداثي، الذي اعدمه الرئيس نميري في عام 1985ـ". وأضاف، قائلاً: "على الرغم من أنه يبجل كشهيد لشجاعته في مواجهة الموت من أجل معتقداته، إلا أن طه قد انتقد بلا هوادة لمعارضته لإجراء يزعم بأنه يهدف لإنقاذ النساء من هذا العرف البربري . ولم يفلح حتى العمل غير المسبوق". ثم أوضح عبدالله بأن ورقته سوف تجادل في أن هذا الرأي المتعارض حول موقف محمود محمد طه من الخفاض الفرعوني، قد نشأ من انقسام محزن حول الدراسات الأكاديمية عن السودان. خاصة وأن زعم الحداثة الاستعمارية بتمدين المواطنين المحليين، مثل إنقاذ نساء المستعمرات، قد قبلت على نطاق واسع. كما بيَّن عبدالله بأن ورقته تعمل على سد الفجوة بين الدراسات النسوية والدراسات القومية السودانية، وذلك لإعادة تأهيل النظرة النسوية فيما يتعلق بأفكار محمود محمد طه "المفكر المتميز ذو الأفكار القومية المغايرة". كما أوضح عبدالله بأن مفهوم الإنقاذ الاستعماري، أو مفهوم إدخال الحداثة، سيتم النظر إليها باعتبارها شكل من الـ "هراء استعماري". وأن هذا الهراء هو نتاج عقم النظرية الاستعمارية، المتمثلة في مشروع الحداثة المزعومة، المتنازعة ما بين مطالب المدنية التي أثيرت في الأعراف الديمقراطية، والقيود الإدارية للمستعمرات الغارقة في ممارسة النسل.

فصَّل عبدالله في دراسته أحداث الثورة ووقائعها، ووقف عند المواقف من الثورة. كان عبدالله يستشهد بآراء محمود محمد طه الواردة في مظانها، ثم قدم نقداً إلى الحداثيين الذين يصورون محمود محمد طه "بأنه ضد الحداثة لقيامه بثورة رفاعة". يمكن الإشارة هنا إلى أن جل دراسات هؤلاء، إن لم تكن جميعها، في تقديري، لم تعتمد على مصادر المعلومات عن الثورة، وإنما أكتفت بالنقل والخيال، وقد أشار عبدالله لذلك، قائلاً: "على الرغم من دعوات الرجل المتكررة لهم ليقبلوا على فكره بعقول مفتوحة و بصيرة". وأضاف عبدالله بأنه لم يشفع للرجل عند هؤلاء المثقفين و لا حتي مناداته بالمساواة التامة بين الرجال و النساء التي طرحها منذ الأربعينات. أكثر من ذلك فقد تتبع عبدالله التنميط الذي تم لمحمود محمد طه بهذه الصورة الرجعية، وقال عبدالله بأن التنميط ظهر على فترات متفاوتة، ففي العام 1968م، كتب سعيد محمد أحمد المهدي (...- 2005م)، قانوني ذو توجه ماركسي، ذكرياته في هذا الشأن. سعيد لم يكن في رفاعة ابان اندلاع الثورة ولكنه التحق بمدرستها المتوسطة عقيب ذلك ووجد "أن الناس كانوا يتحدّثون عن ثورة محمود محمد طه التي سجن من جرائها. ذلك أنه قاد الجماهير الغاضبة من رفاعة إلى مركز الحصاحيصا.... وهذه الثورة رغم أنها رجعية، لأنها تؤيد الخفاض الفرعوني إلا أنها كانت ثورة عارمة ضد الاستعمار" (الصحافة 30 نوفمبر 1968). وأضاف عبدالله تصادف وقتها أن حسن الترابي (1932- 2016)، حداثي آخر، كان طالباً برفاعة الوسطى حين ما قاد طه ثورتها ضد قانون الخفاض. وأضاف عبدالله، قائلاً: "شارك الترابي في تلك الثورة ولكنه لاحقا نفض يده عنها. لقد حدثني في العام 1996 أنه كان غرا ولم يك ذا دراية بالمردود السالب لتلكم الثورة". ثم أشار عبدالله إلى أنه وفي العام 2002 قام خالد المبارك، أستاذ الأدب الإنجليزي، مسرحي وصحفي ذا خلفية ماركسية، قام بآخر حملات وصم ثورة طه بالرجعية، وذلك في عمود له بصحيفة الرأي العام (19 نوفمبر 2002)، ورأى المبارك بأن انتفاضة رفاعة المزعومة ليست من مآثرنا في النضال ضد الاستعمار بل هي من مخازينا . ويقع وزرها بالكامل على طه. وأضاف بأن الأسوأ من ذلك، بحسب المبارك، أن طه لم يراجع موقفه علناً او يذكر مبرراته بعد نيل البلاد لاستقلالها في العام 1956م.

وأشار عبدالله إلى أن صورة ثورة السالبة على المستوى الأكاديمي، قد عبّر عنها خير تعبير الأكاديمي محمد احمد محمود حينما زعم أن طه قد عارض، بسوء فهم، نحو الإدارة لسن قانون تقدمي بغض النظر عن الجهة السانة لهذا القانون. لقد صعّد طه هذا الأمر الباعث لحساسية مفرطة عند الأمة لسوقها لمناهضة الإدارة بناءً على تشكك في نواياها والارتياب عما هي بصدده من سنها لذلك القانون، ويقع اللوم بكامله على كاهل طه كونه هو من وجه "الضربة القاضية" لهذا القانون التقدمي. ويرى محمود أن حتى الحكومات الوطنية التي أعقبت زوال المستعمر لم تستطع اعمال قانون يجرّم تلكم العادة خوفا من استثارة عواطف تذكي أوار ثورة على غرار ما حدث في ثورة رفاعة 1946م.

رأي عبدالله أن في تناول هؤلاء تحاملاً، فذهب في ورقته لمعالجة التحامل، فقد كتب، قائلاً: "يطيب لي ابتدر أن انقاش ما قد اراه "تحاملا" قبل أن أدلف لتكوين أطار نظري فضفاض يعيننا على استجلاء "تحامل" هؤلاء الحداثيون الحساسون تجاه طه". موضحاً بأن "هذا بدوره قد يضعنا وجه لوجه مع تأثيرات الثقافة الاستعمارية على هؤلاء الحداثيين. قد نرى، تأسيسا على ذلك، أنه قد يعوز حتى فلسفة ثورية مثل الماركسية، التي يعتنقها بعض هؤلاء الحداثيون، قد يعوزها طرح أصيل يسلّح المقاومة الوطنية في دأبها لنيل حريتها من مستعمرها. أكثر من ذلك، فبوسعنا ان نرى أن التنوير، الذي يعتمده هؤلاء الحداثيون منسأة يتوكأون عليها، هو ذاته الذي شجّع المبادرة الاستعمارية (أو تجاوز " عن سيئاتها" في أحسن الفرضيات)". وأضاف عبدالله، قائلاً: إن هؤلاء المنتقدون لا يتفقون وكل حركات التغيير الاجتماعي والسياسي التي نفضت يدها عن محاربة تلك العادة. باعتقادهم أن هذه الحركات قد تخلت عن محاربة تلكم العادة خوفا من تكرار تجربة ثورة رفاعة ضدها. ولكن من الواضح أنما توصلوا اليه هؤلاء المنتقدون في عدم فاعلية هذه الحركات يرتكز على مصادر ناقصة. وذهب عبدالله بالتفصيل في أمر تحامل الحداثيين، ونقد رؤيتهم.

استند عبدالله في تناوله لثورة رفاعة، إلى جانب المصادر الأولية المتمثلة في كتابات محمود محمد طه وأحاديثه وكتابات الإخوان الجمهوريين اللاحقة، كان قد اعتمد على خطبة محمود محمد طه في مسجد رفاعة في يوم الجمعة 20 سبتمبر 1946، وعلى مرافعته أمام المحكمة في 16 أكتوبر 1946، وهذا ما لا نجد له أثراً في الدراسات التي تناولت ثورة رفاعة، كتب عبدالله، قائلاً: "وقد وضع الاستاذ محمود يده على الاستعلاء الاستعماري المحيط بحدث رفاعة"، وأضاف عبدالله بأن خط محمود محمد طه في الدفاع خلال المحكمة قد بني على كشف خواء السلطة الادارية وقد قال للمحكمة بأنه لم يحرض الناس في رفاعة للنهوض ضد الحكومة وقد فعلت الحكومة ذلك بنفسها وقد اكتفى بنقد القانون السيء. وقد قال بأن الامر كله نتج عن سلسلة من الأخطاء ارتكبت بواسطة الادارة وتم تحديها بواسطة الناس للدفاع عن شرفهم وسلطتهم. وقد استمر البريطانيون في ارتكاب الأخطاء بكل عنجهية وواصلت الادارة ضربها للناس في رفاعة وقد استمتعت بجنون بضرب ضحاياها وبصرخات الالم الصادرة منهم. ولو كنا نملك السلطة لكنا قد وضعنا تلك الادارة في قفص الاتهام.

نظرت ورقة عبدالله إلى محمود محمد طه بأنه وطنياً متفرداً، وأنه مختلفاً عن الاتجاه التحديثي لمؤتمر الخريجين، فقد كتب عبدالله، قائلاً: "من الواضح أن الاستاذ محمود قد أراد أن يحقق من ثورة رفاعة أكثر من استخدام التقاليد في حجة وطنية فقد كان وطنيا متفردا وقد كان نتاجا للتغييرات الجذرية التى حدثت في الحركة الوطنية في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية". وأضاف، قائلاً: "من الممكن القول بأن الاستاذ محمود قد كان مختلفا عن الاتجاه التحديثي لمؤتمر الخريجين في منهجه بأكثر من الممارسة السياسية".

خرج عبدالله في ورقته بعدة نتائج، منها: أن قانون الخفاض الفرعوني قد ذاب وتبخر لأن (الإداريون في كل مكان كانوا قد استهلكوا بالتحري عن هذا القانون الصعب)، وأضاف بأنه من المناسب هنا أن نجادل بأن هذا القانون لم يكن يحتاج لمحمود محمد طه كذريعة لكتابة شهادة وفاته. فهو ميت منذ وصوله. فالحملة كلها لوقف هذه العادة الوحشية كانت أساساً تصورا سخيفاً.

أشار عبدالله إلى أن القوميين لم يكونوا مدركين لتداعيات هذه الحملة ولكن توقيت هذه الحملة نبهتهم، بأن هذه الممارسة الوحشية أدت لاعتقاد القوميون بأن ينظروا للمستعمر البريطاني بأنه يريد تجديد الانتداب ليحكموا هؤلاء المتوحشين بدون نهاية تلوح في الافق. غير أنه لم تفت على محمود محمد طه معرفة غايات هذه الحملة لمكافحة الخفاض من المستعمر، فالمستعمر يريد تخليد أسمه ويمد في أيامه التي حان أوانها ليخرج. فالحملة البريطانية والتي أثير السؤال عنها في البرلمان البريطاني في 26 يناير 1949م، قوبلت بالجهاد. في خطبة الجمعة في رفاعة طه خطب في المصلين ( هذا ليس يوم العبادة في الخلوة أو الزاوية هذا هو وقت الجهاد).

المهم، عند عبدالله كما أوضح، هو أن الجدل بين السودانيين عن دور محمود محمد طه في ثورة رفاعة ضد الخفاض اججت قضية الاستعمار وبعثت في النفوس الوطنية طرق مكافحته. فكان من البديهي أن يصل الناس بأن هذه القضية لفقت زورا من قبل المستعمر. ثم أضاف قائلاً: إن تجربتنا الاستعمارية وضعتنا في مصيدة الحداثة بوسائل نظرية بنيت على اعتقاد (الحديث) (وتقاليد) المجتمعات. صلاحية هذه النظريات ارتكزت على التنوير الذي صاغ النظرات من قبل الأوربي للآخرين من خلال العلوم، والفلسفة والامبريالية لأنظمة محددة وواضحة التصنيف. فنظرية الحداثة وذروة التنوير كانت تحت نار "النقد" وكان الاستقطاب (بين التقاليد والحداثة). فذهب النقاد الى أبعاد قصية دون تمحص. النقاد تحديدا أخطأوا في النظرية بإهمال قوة جذور ثنائية المعارضة. محمود محمد طه بكل وضوح كان ضحية حكومة الحقيقة التي نشأت ووضعت لبنة نزاع القوة الاستعمارية. ووصفت محمود محمد طه الذي لم يكن تقليداً بأي معنى أو مدلول فوصمته "بالتقليدية" من قبل مشروع الاستعمار الذي حاد وانحرف. شخص محب للحرية مثله وجد نفسه قد حط من قدره لأجيال قادمة وذلك لانقاذ الادارة الاستعمارية المرتبكة. إن نقاد محمود محمد طه لكي لا يعزلوا انفسهم من تثبيت الحملات الاستعمارية لم يروا أن هناك عادة محددة استهدفت الاصلاح كمثل جزء من مجموعة من النساء في خطر في احدي المستعمرات.

أشار عبدالله إلى أن الحساسية الثقافية في اسلوب الكتابة عن الخفاض الفرعوني في السودان فشلت في التأثير على النهوض بالقومية السودانية. عكس اسلوب كتابة المستعمر من الحداثة والحضارة والمواطنة، "مثل إنقاذ نساء المستعمرة من اضطهاد الرجال" التي وجدت موافقة واسعة. وأضاف، قائلاً: إن مصطلح الانقاذ الكولنيالي أو الحداثة التي ظهرت هنا كقالب "الكولينيالي الفارغ" هذا الحديث الاجوف هو دليل على عقم الاستعمار لتزعم مشروع الحداثة فتمزق بين مطالب المدنيات كإعادة لطرح الديمقراطية وإجبار الاداريون في المستعمرات في الخوض في وحل العادات والتقاليد بقوة.

الشاهد أن عبدالله خرج في دراسته متفقاً مع موقف محمود محمد طه وأقواله بشأن ثورة رفاعة وقضية الخفاض الفرعوني. رأى عبدالله بأن العادات السيئة لا تحارب بالقوانين، وأن قانون الخفاض ولد ميتاً، وقد أشار محمود محمد طه لذلك قائلاً: "كل أمة عندها عادات حسنة وعادات سيئة.. عادة الخفاض الفرعونى عادة سيئة لكن العادات السيئة في الشعوب ما بتحارب بالقوانين وإنما بتحارب بالتنوير والتعليم والاقتناع"( ). كما رأى عبدالله بأن المستعمر لم يكن غرضه من إثارة قضية الخفاض الفرعوني، كرامة المرأة، وإنما كان غرضه إيجاد مبرر للاستمرار، وفي هذا كتب محمود محمد طه، قائلاً: "الإنجليز ما غرضهم كرامة المرأة، هم في الحقيقة فتحوا للمرأة سوق النخاسة.. فتحوا للمرأة كل الأبواب التي لا تكون بها كريمة، لكن الغرض الحقيقي من إثارة موضوع الخفاض الفرعوني أنه –وهذا أثير في البرلمان البريطاني كان – الغرض من الإثارة وهذه أن يقولوا للعالم، في رد على حركتنا الوطنية، أنه السودانيين لا يزالوا همجيين يمارسوا عادات مثل هذه وأنه مابنفتكر أنهم بلغوا الرشاد البيستحقوا بيهو حكم أنفسهم"( ).

كما أتفق عبدالله مع أسماء عبد الحليم، قائلاً: إن عبدالحليم كانت على حق عندما استثنت منتقدي محمود محمد طه "على ما يبدو لم يكن طه ورجال مدينة رفاعة مسؤولين عن عدم قدرة المجتمع ليرى أذي الخفاض"، وذكرت عبدالحليم بأن "تعقيد هذه القضية أكبر من هذه الحادثة المنفردة"( ). وأضاف عبدالله بأن عبد الحليم اتفقت مع رقية أبي شرف "في أن فعالية قوانين الخفاض كان شرط لقدوم النساء في الجبهة المتقدمة كمدافعات ناشطات لمحاربة هذه العادة... وعندها يطالبن بحقوقهن"، وأضافت رقية أبو شرف بأن ختان الإناث عادة لها تاريخ وقامت حولها قصص وتحيط بها ثقافة وطقوس لا يمكن أن تحارب بقانون يدفع به للتطبيق دون السعي لدراسة التقاطعات الثقافية والتاريخية لهذه العادة( )، وأتفق عبدالله كذلك مع إستيف هاوردW. Howard Stephen الذي يرى بأن "من انشغل بحقوق المرأة وتحريرها وضرورة مساواتها بالرجل، حال الأستاذ محمود، لا يمكن أن يوصف بأنه وقف ضد الحداثة فيما يتعلق بالخفاض الفرعوني"( ). كما أتفق مع جينس بودي Janice Boddy التي تناولت قضية الخفاض الفرعوني ضمن كتابها الموسوم بـ: ( ) Civilizing Women: British Crusades in Colonial Sudan. فقد خلصت دراسات هؤلاء متفقة مع محمود محمد طه في الرأي، بأن الخفاض الفرعوني كعادة متأصلة ومتجذره لا تحارب بالقانون والبوليس وإنما بالتعليم والتنوير والوعي. كما أن دعوة الإدارة الاستعمارية إلى محاربة الخفاض الفرعوني بالطريقة التي تمت بها ما هي إلا دعوة استعمارية تفسر في اطار المعرفة الاستعمارية وفي اطار تحقيق الأغراض وخدمة السياسات والمصالح الاستعمارية. فماذا قدم المستعمر لرفاهية المرأة وتحريرها حتى يتلهف إلى تطبيق قانون الخفاض الفرعوني؟ وكيف للقانون يعلن وينفذ ويطبق قبل وضع الترتيبات اللازمة من الخطط الصحية والتنويرية والتعريفية لعامة الناس؟ وإن قانون الخفاض الفرعوني يفسر في اطار الآثار الاستعمارية، وهذه ما خلصت إليه الدراسات التي استخدمت منهج دراسات مدرسة ما بعد الاستعمار، في تحليلها ومعالجتها لثورة رفاعة والخفاض الفرعوني.

غير أن عبدالله علي إبراهيم تميز عن الجميع بأنه درس الحدث في أفقه الثوري، وخرج به من مصاف قضية اجتماعية ثقافية، إلى حقيقة أنه ثورة ضد الاستعمار، وثورة من أجل التحرير. نجح عبدالله في تحرير ثورة رفاعة من التنميط، وفي نقد أحكام المتحاملين. وبهذا فإن عبدالله علي ابراهيم من أوائل الأكاديميين السودانيين، حسب علمي، من غير الإخوان الجمهوريين، الذين درسوا ثورة رفاعة باعتبار أنها ثورة، وخلص إلى نتائج جاءت متفقة مع آراء محمود محمد طه وموقفه بشأن قضية الخفاض الفرعوني.

تجدر الإشارة إلى أن عبدالله علي إبراهيم يعمل الآن على ترجمة دراسته عن ثورة رفاعة إلى اللغة العربية، بنية اصدارها في كتاب، وقد علمت بأن الترجمة في مراحلها الأخيرة.

خاتمة: العمل على تفكيك المعرفة الاستعمارية لاستكمال الاستقلال
دعوة لتنظيم مؤتمر عن المعرفة الاستعمارية في السودان

إن الإرث المعرفي الاستعماري لا يزال ماثلاً في واقع السودان السياسي والثقافي والاجتماعي والثقافي، بل يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك، ونقول بأن المعرفة الاستعمارية لا تزال تسيطر على العقول، وبالتالي فهي لا تزال تتحكم في مسار السودان. ولهذا فإن الحاجة ماسة وملحة إلى نقد الإرث المعرفي للاستعمار في السودان. والحاجة ماسة أيضاً، إلى ضرورة تفكيك البناء الاستعماري المعرفي للمفاهيم والتصورات لطبيعة القضايا وجذور المشكلات. والحاجة ماسة كذلك، لضرورة تفكيك الذاكرة الاستعمارية التي أصبحت ضمن ذواكر أخرى تتفاعل في ثنايا السيرورة التاريخية. لا شك أن هناك بعض الجهود قد تمت في نقد الإرث الاستعماري في السودان، ولكننا في حاجة للمزيد من الدراسات التي تأخذ بمنهج مدرسة ما بعد الاستعمار، إلى جانب جهود عبدالله علي إبراهيم.

وبهذه المناسبة تدعو هذه الورقة اتحاد الكتاب السودانيين، وقد سبق أن وجه كاتبها في العام 2012م الدعوة للمؤسسات الأكاديمية ومراكز البحوث والدراسات في السودان، إلى ضرورة تبني عقد مؤتمر عن المعرفة الاستعمارية، بهدف الفحص والتمحيص والكشف عن أهدافها ومراميها وأبعادها والتفكيك لمفاهيمها والدراسة لآثارها الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية في السودان. إن الإرث الاستعماري في السودان بحقبه المختلفة، هو في حاجة لدراسات مكثفة ومعمقة، حتى نستكمل استقلال السودان. أشار محمود محمد طه إلى ضرورة أن السعي "باستمرار لنستكمل استقلالنا، من النواحي الاقتصادية، ومن النواحي الاجتماعية، ومن النواحي الفكرية"( ). وقد أشار البروفيسور عبدالله على إبراهيم في خاتمة كتابه: بخت الرضا: الاستعمار والتعليم، إلى أن المؤسسات الأكاديمية في الدول التي خضعت للاستعمار، قد قطعت شوطاً كبيراً في دراسة المعرفة الاستعمارية، وأضاف بأننا تأخرنا في دراسة المعرفة الاستعمارية، في الوقت الذي تسود بين غيرنا مدرسة دراسات ما بعد الاستعمار وتكتشف في الاستعمار سوءات تقعد بنا دون التحرر والسيادة( ).

عبدالله الفكي البشير
الاثنين 17 يوليو 2017م


الهوامش

( ) وُلد عبدالله في قرية القلعة ريفي مروي بشمال السودان. وترعرع في مدينة عطبرة، وتلقى تعليمه الأولي بأبي حمد. والأوسط والثانوي بعطبرة. تخرج في كلية الآداب بجامعة الخرطوم عام 1965م. واشتغل كمساعد تدريس بها في 1966م، وحاز منها على الماجستير. تفرغ للعمل بالحزب الشيوعي السوداني في عام 1970م حتى عام 1978م، حيث تقدم باستقالته من الحزب ليواصل مشواره السياسي المستقل. عاد لجامعة الخرطوم وبعثته الجامعة للحصول على الدكتوراه من جامعة انديانا بالولايات المتحدة. عاد منها عام 1987م واشتغل بالتدريس بمعهد الدراسات الأفريقية بجامعة الخرطوم وترأس قسم الفلكلور فيه، وتحرير مجلة الدراسات السودانية حتى عام 1991م. ثم عاد للولايات المتحدة يدرس التاريخ الأفريقي والإسلامي بجامعة ميسوري التي انضم الي هيئة تدريسها في 1994م، وحصل منها على درجة الأستاذية في التاريخ، وهو الآن أستاذ فخري بها professor emeritus. المصدر: كتاب تعريفي ببروفيسور عبدالله مرشح رئاسة الجمهورية. عنوان الكتاب هو: تفاءلوا بالوطن تجدوه، د. عبدالله علي إبراهيم، مرشح رئاسة الجمهورية 2010م، كلمة في وقفة عيد الاستقلال، أحاديث للصحف ومواقف، وسيرة ذاتية.
( ) تقع مدينة رفاعة وسط السودان، شرق النيل الأزرق وعلى بعد نحو (125) كلم جنوب شرق الخرطوم.
( ) لقد نشر الإخوان الجمهوريون بعض الكتب، منها: الإخوان الجمهوريون، الخفاض الفرعوني، الخرطوم، 1981م؛ إبراهيم يوسف فضل الله (من الإخوان الجمهوريين)، ثورة رفاعة المجهولة: لوحة مشرفة من النضال الوطني وأول ثورة أرغمت الاستعمار، الخرطوم، 2004م. إلى الجانب العديد من المقالات الصحفية. للمزيد أنظر: "ثورة رفاعة (الخفاض الفرعوني)، سبتمبر 1946" ضمن: عبدالله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2013م، ص 404- 450.
( ) "في رفاعة والحصاحيصا ثورة وتجريدة"، صحيفة السودان الجديد، الجمعة 27 سبتمبر 1946.
( ) التجاني عامر، "ذكريات: من مذكرات التجاني عامر"، صحيفة الصحافة، العدد 4772، 16 أبريل 1975م.
( ) عبدالله علي إبراهيم، الشريعة والحداثة: جدل الأصل والعصر، مركز البحوث العربية والإفريقية، القاهرة، 2006م. (ملاحظة: هو تعريب لجزء من كتاب: Manichaean Delirium المشار إليه أعلاه).
( ) يحتفظ كاتب هذه الورقة بنسخة من نداءات عبدالله علي إبراهيم هذه، وقد وصلته من عبدالله في أوقات مختلفة.
( ) من ملف أبادماك بدار الوثائق القومية ضمن وثائق الأحزاب السودانية. وقد أهداني البروفيسور عبدالله علي إبراهيم، نسخة من أصل ملف "أبادماك"، وهو نفس الملف المُودع بدار الوثائق القومية. وقد أودعه البروفيسور عبدالله. ويتضمن الملف البيان المشار إليه أعلاه، ويحتفظ المؤلف بنسخة من الملف.
( ) محمود محمد طه، الدعوة الإسلامية الجديدة، ط1، أم درمان، 1974م، 7-11.
( ) كان آخر سكرتير إداري في السودان. بدأ عمله في السودان عام 1922م من أول السلم الإداري كمساعد مفتش مركز، وتجول في مناطق السودان المختلفة ثم أصبح فيما بعد سكرتيراً إداراً لمدة ثمان سنوات انتهت عام 1953م، بعد أن أخذ السودان يخطو نحو الاستقلال. نشر روبرتسون مذكراته بعنوان: التحول في إفريقيا: من الحكم المباشر إلى الاستقلال، واستل الأستاذ مصطفى عابدين الخانجي مها الجزء المتعلق بالسودان وترجمه ونشره عام 1996م تحت عنوان: السودان من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الاستقلال. المصدر: جيمس روبرتسون، السودان من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الاستقلال، تعريب مصطفى عابدين الخانجي، دار الجيل، ط1، بيروت، 1996م، ص 5.
( ) عبدالرحمن عبدالله، السودان: الوحدة أم التمزق، ترجمة الفاتح التجاني، ط1، شركة رياض الريس للكتب والنشر، 2002م، بيروت، ، ص 76.
( ) باذل ديفدسن هو مؤرخ بريطاني. عمل إدارياً في بعض المستعمرات البريطانية، لا سيما السودان. نشر العديد من الكتب والدراسات عن إفريقيا. صدر كتابه الموسوم بـ: إفريقيا تحت أضواء جديدة، في طبعته الأولى باللغة الإنجليزية Africa under new lights عام 1959م. وقام بترجمته إلى اللغة العربية جمال محمد أحمد (1915م-1986م) في عام 1961م.
( ) عبدالرحمن عبدالله، مرجع سابق، ص 73.
( ) المصدر السابق، ص 76.
( ) عبدالله علي إبراهيم، بخت الرضا: الاستعمار والتعليم، سلسلة كاتب الشونة، ط1، دار المصورات للنشر، الخرطوم، 2010م، ص 7.
( ) محمود محمد طه، "بيانات الحزب الجمهوري على الموقف الداخلي"، صحيفة أنباء السودان، العدد 166، بتاريخ الأول من نوفمبر 1958م.
( ) عثمان سيد أحمد إسماعيل البيلي، "المثقفون في العالم الثالث"، ضمن: بعض أوراق هموم عربي إفريقي، ج 1، مكتبة المتنبي للنشر والتوزيع، الدوحة، 1992م، ص 126.
( ) المصدر السابق، ص 51-82.
( ) المصدر السابق، ص 36.
( ) محمد عمر بشير، تاريخ الحركة الوطنية في السودان (1900م-1969م)، ترجمة هنري رياض وآخرون، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، بدون تاريخ نشر، ص 143- 165
( ) عبدالله علي إبراهيم، بخت الرضا: الاستعمار والتعليم، مصدر سابق، ص 56.
( ) للمزيد أنظر: عبدالله الفكي البشير، "المعرفة الاستعماريـة وإرث السـودان السيـاسـي قراءة في إسهامات البروفيسـور عثمان البيلي النقديـة"، جهود أ. د. عثمان البيلي العلمية وعطاءاته الإنسانية (ندوة علمية)، مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، المدينة التعليمية، الدوحة، قطر، الاثنين 26 مارس 2012م، الدوحة، قطر.
( ) إدوارد سعيد، الإمبريالية والثقافة، ترجمة كمال أبو ديب، ط3، دار الآداب، بيروت، 2004م.
( ) آنيا لومبا، في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، ترجمة: محمد عبد الغني غنوم، ط1، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2007م، ص 28.
( ) يحيىى بن الوليد، "خطاب ما بعد الاستعمار"، من موقع الطليعة العربية في تونس، استرجاع (Retrieved) بتاريخ 23 أغسطس 2011م، الرابط:www.goutaliezzedine.maktoobblog.com
( ) Abdullahi Ali Ibrahim, Manichaean Delirium: Decolonizing the Judiciary and Islamic Renewal in Sudan, 1898–1985, Printed in the Netherlands,LEIDEN • BOSTON, 2008.
( ) عبدالله علي إبراهيم، الشريعة والحداثة: جدل الأصل والعصر، مصدر سابق.
( ) عبدالله علي إبراهيم، "إدورد سعيد في بيت الخليفة"، من موقع سودانيز أونلاين على الإنترنت، استرجاع 10 سبتمبر 2009، الرابط:
http://www.sudanile.com/index.php?option=com_content&view=article&id=5559:2009-09-10-07-53-09&catid=56:2008-12-01-11-26-03&Itemid=55
( ) المصدر السابق.
( ) عبدالله علي إبراهيم، بخت الرضا: التعليم والاستعمار، مصدر سابق، 2010م، ص 3.
( ) المصدر السابق، ص 6.
( ) المصدر السابق ، ص 3.
( ) المصدر السابق ، ص 6-7.
( ) المصدر السابق، ص 7.
( ) محمود محمد طه، محمود محمد طه يدعو إلى تطوير شريعة الأحوال الشخصية، ، ط1، أم درمان، 1971م، ص 8.
( ) تعود قصة قيام ثورة رفاعة إلى أن امرأة من أهالي مدينة رفاعة، أجرت عملية خفاض فرعونى لبنتها، في الأول من سبتمبر 1946م، فحكم عليها بأربعة شهور سجناً لمخالفتها قانون منع الخفاض الفرعوني. واتفق أن جاء محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري، في يوم 9 سبتمبر في زيارة لمدينة رفاعة لأداء واجب عزاء، فجاء إليه بعض أهالي رفاعة وأخبروه بأمر سجن المرأة. وكان للحزب الجمهوري موقف معلن في بيان عن الخفاض الفرعوني، كما ورد آنفاً، وموقف معلن أيضاً من المجلس الاستشاري لشمال السودان، حيث المقاطعة لكل قرار يصدر عنه وعدم الالتزام به، كما ورد آنفاً، ذهب محمود محمد طه ومعه بعض أعضاء الحزب الجمهوري، لمقابلة المفتش وتناقشوا معه في الأمر، فوافق المفتش على اطلاق سراح المرأة. إلا أن المفتش عاد في 19 سبتمبر وأمر بالقبض على المرأة مرة أخرى واودعت السجن برفاعة. عاد أهالي رفاعة إلى محمود محمد طه وأخبروه بما حدث للمرأة، فطلب منهم الانتظار حتى يوم الغد الجمعة 20 سبتمبر. وفي نهار يوم الجمعة وعقب الصلاة، خطب محمود محمد طه في الناس بشأن المرأة، فخرجوا بأعداد غفيرة بقيادته، وتوجهوا إلى مركز المطالبين باطلاق سراح المرأة، وازاء غضب الجماهير والاصرار، أمر المفتش بإطلاق سراح المرأة. غير أنهم عادوا وقبضوا عليها ليلاً، ونقلوها إلى مدينة ود مدني. وعندما علمت الجماهير بذلك، اتجهت ثائرة في اليوم التالي صوب الحصاحيصا، ورابطت عند مكتب المفتش، ولم تغادره، حتى أمر نائب مدير الجزيرة باحضار المرأة من ود مدني، فأحضروها وتم تسليمها للجماهير التي عادت بها إلى رفاعة. وفي اليوم التالي جاءت قوة عسكرية من الخرطوم، وقامت باعتقال محمود محمد طه تبع ذلك أن تمت محاكمة محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري، بمحكمة مدنى الكبرى في يوم الأربعاء 16 أكتوبر 1946م، وكانت التهمة: إثارة الشغب في مدينة رفاعة. مكث محمود محمد طه في السجن 24 شهراً (731 يوماً) بدلاً عن 18 شهراً، بسبب مخالفته لأوامر السجن (معلوم أن العام في قوانين السجون يعادل 9 أشهر)، قضى منها، نحو ثلاثة شهور بسجن مدينة ود مدني، امتدت من يوم المحاكمة 16 أكتوبر 1946 وحتى منتصف يناير 1947م (تقريباً). ثم وبعد مواجهات قادها مع إدارة السجن، استطاع فيها أن ينتزع حقوقه كسجين درجة ثانية بدلاً عن الدرجة الثالثة، بسلاح الصيام الصمدي، تم نقله إلى سجن كوبر بمدينة الخرطوم بحري، بالعاصمة السودانية الخرطوم، ذلك لأن سجن مدينة ود مدني لم تكن به درجة ثانية. وقد تم اطلاق سراح محمود محمد طه في يوم الثلاثاء 21 سبتمبر 1948م. للمزيد أنظر: "ثورة رفاعة (الخفاض الفرعوني)، سبتمبر 1946" ضمن: عبدالله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، مصدر سابق، ص 404- 450.
( ) محمود محمد طه، "خطاب الاسبوع: [سعيد يتساءل] "، صحيفة الشعب، العدد رقم: (8)، السبت 27 يناير 1951م.
( ) "مذكرة ايضاحية: قانون المجالس الاستشارية سنة 1943"، اجراءات الدورة الأولى 15- 18 مايو سنة 1944، المجلس الاستشاري لشمال السودان، دار الوثائق القومية، مجموعة المجلس الاستشاري لشمال السودان Advisory Council: 1/2/16، الخرطوم.
( ) اجراءات الدورة الرابعة 3- 8 نوفمبر 1945، المجلس الاستشاري لشمال السودان: "وقائع الدورة الثالثة" دار الوثائق القومية، مجموعة المجلس الاستشاري لشمال السودان Advisory Council: 1/6/28؛ "القرارات الثلاثة التي اصدرها المجلس الاستشاري لشمال السودان في دورته الثالثة"، صحيفة السودان الجديد، 1 يونيو 1945؛ أحمد خير المحامي، كفاح جيل: تاريخ حركة الخريجين وتطورها في السودان، الدار السودانية للكتب، الخرطوم، 2002م، ، ص 76-78.
( ) دار الوثائق القومية، مجموعة المجلس الاستشاري لشمال السودان Advisory Council: 1/6/28، الخرطوم.
( ) التجاني عامر، "ذكريات: من مذكرات التجاني عامر"، مصدر سابق.
( ) دار الوثائق القومية، مجموعة المجلس الاستشاري لشمال السودان Advisory Council: 1/6/28، الخرطوم.
( ) دار الوثائق القومية، مجموعة المجلس الاستشاري لشمال السودان Advisory Council: 1/11/48؛ "مذكرة عن الخفاض في السودان الإنجليزي المصري"، دار الوثائق القومية، مجموعة المتنوعات: 1/78/971، الخرطوم.
( ) تكونت المذكرة من (14) صفحة، وقد أعدها كل من: الدكتور أ. د. بريدي، مدير المصلحة الطبية السودانية- الدكتور أ. الورنزن، نائب مدير المصلحة الطبية السودانية الدكتور أ. كروكشانك، كبير الأطباء بالمصلحة الطبية السودانية- الدكتور ج. س. هوفل، جراح واختصاصي في أمراض النساء- الدكتور د. ر. ماكدونالد، مفتش طبي أول بالمصلحة الطبية السودانية- الدكتور على بدري، مفتش طبي بالمصلحة الطبية- الدكتور عبدالحليم محمد، مفتش طبي بالمصلحة الطبية- الدكتور عبدالله عمر أبو شمة، مفتش طبي بالمصلحة الطبية- التجاني الماحي، طبيب بالمصلحة الطبية. المصدر: دار الوثائق القومية، مجموعة المجلس الاستشاري لشمال السودان Advisory Council: 1/11/48، الخرطوم؛ "مذكرة عن الخفاض في السودان الإنجليزي المصري"، دار الوثائق القومية، مجموعة المتنوعات: 1/78/971، الخرطوم.
( ) على الميرغني، "مقدمة صاحب السعادة السير السيد علي الميرغني باشا"، ضمن: مذكرة عن الخفاض في السودان الإنجليزي المصري، دار الوثائق القومية، مجموعة المتنوعات: 1/78/971، الخرطوم.
( ) مدثر عبد الرحيم، "الامبريالية والقومية في السودان: دراسة للتطور الدستوري والسياسي في السودان (1899م-1956م)"، دار النهار للنشر، بيروت، 1971م، ص 135.
( ) المرجع السابق، ص 135.
( ) عندما قامت الثورة في يوم الجمعة 20 سبتمبر 1946، كانت هناك أخبار وتقارير صحيفة ترد عنها بشكل يومي، ففي اليوم الثاني من قيام الثورة، يوم السبت 21 سبتمبر وسمت صحيفة الرأي العام ما حدث بالــ "المظاهرات في رفاعة"، ثم غيرت الوسم في اليوم الثالث، فاطلقت عليها في يوم الاثنين 22 سبتمبر "الاضرابات في رفاعة"، ثم غيرت موقفها في يوم الأربعاء 25 سبتمبر لتطلق عليها "حوادث رفاعة". بينما خرجت صحيفة السودان الجديد، ومن الوهلة الأولى، وكانت صحيفة اسبوعية، في أول اعدادها، بعد اندلاع الثورة، حيث جاء العدد في يوم الجمعة 27 ديسمبر، لتصف ما حدث بالثورة، وقدمت تحت عنوان: "في رفاعة والحصاحيصا ثورة وتجريدة"، وصفاً الأحداث باعتبارها عملاً بطولياً وثورياً، فما لبث أن صدر بيان رسمي من الحكومة نُشر في صحيفة الرأي العام، في يوم الاثنين 7 أكتوبر، مسمياً الثورة بـ "الشغب في رفاعة". بعد ذلك خرجت صحيفة الرأي العام في يوم 16 أكتوبر واصفة الثورة بـ "مأساة رفاعة". ثم استقرت بعد ذلك التسمية في الأخبار والتقارير الصحفية وفي صحيفة الرأي العام على "مأساة رفاعة" و "الشغب في رفاعة" و "حوادث رفاعة".
( ) عون الشريف قاسم، موسوعة القبائل والأنساب في السودان وأشهر أسماء الأعلام والأماكن، الجزء الثالث، ط1، شركة آفروقراف للطباعة والتغليف، الخرطوم، 1996م، ص 2244.
( ) Abdullahi Ali Ibrahim, “Keep These Women Quiet:” Colonial Modernity, Nationalism, and the Female Barbarous Custom, Hawwa: Journal of Women of the Middle East and the Islamic World 9, 2011, PP. 97–151
( ) تمت ترجمة العنوان بالتشاور مع كاتب الورقة عبدالله علي إبراهيم، وتم اعتماد العنوان أعلاه بعد التفاكر معه في الوصول لهذه الصيغة.
( ) محمود محمد طه، "لقاء الأستاذ محمود بمندوبي معهد الدراسات الأفريقية والأسيوية"، السبت 22 نوفمبر 1975م، المهدية، الحارة الأولى، أم درمان، من موقع الفكرة الجمهورية على الإنترنت، استرجاع (Retrieved) بتاريخ 27 أكتوبر 2011م، الرابط: http://www.alfikra.org/interview_view_a.php?talk_id=11
( ) المصدر السابق.
( ) Asma M. Abdel Halim, Sudanese Women in the United States: The Double Problem of Gender and Culture, the Edwin Mellen Press, New York/ Queenstown, 2006, p39.
وترجمة العنوان، كما وصلتني من المؤلفة، هي: المرأة السودانية في الولايات المتحدة: مشكلات النوع والثقافة.
( ) Rogaia Mustafa Abusharaf, “We Have Supped So Deep in Horrors”: Understanding Colonialist Emotionality and British Responses to Female Circumcision in Northern Sudan, History and Anthropology, Vol. 17, No. 3, September 2006, pp. 209–228.
"لقد تجرعنا من كأس الأهوال: نحو فهم لعاطفة المستعمر وردود الفعل البريطانية على ختان الإناث في السودان الشمالي"، تمت ترجمة العنوان بالتشاور مع المؤلفة.
( ) Howard, W. Stephen, Mahmoud Mohammed Taha and the Repuplicant Sisters: A Movement for Women in Muslim Sudan, Ahfad Journal, Vol. 23, No. 2, December 2006, Omdurman.
( ) Janice Boddy, Civilizing Women: British Crusades in Colonial Sudan, Princeton University Press, Princeton and Oxford, 2007.
( ) محمود محمد طه، الدعوة الإسلامية الجديدة، مصدر سابق، ص 7-11.
( ) عبدالله علي إبراهيم، بخت الرضا: الاستعمار والتعليم، مصدر سابق، ص 56.

 

آراء