مسلسل التراجع : بدأت ظاهرةُ التراجعِ السوداني، تتفاقم منذُ الاستقلال، غير أن الإحساسَ بها قوِيَ في منتصفِ السبعينات. ولقد رصد الأكاديميون، وغيرُ الأكاديميين، تلك الظاهرةَ رصدًا واسعًا. لكني أود أن أشير هنا إلى الدراسات الأكاديمية التي وثقت لمسيرة التراجع السوداني، التي كتبها كلٌّ من: منصور خالد؛ غراهام توماس؛ ديدار روسانو؛ محمد سليمان محمد؛ حيدر إبراهيم علي؛ شريف حرير وتراجي تفيدت؛ فرانسيس دينق؛ عبد الغفار محمد أحمد؛ عطا طه البطحاني، يوسف محمد علي، وعبد الغفار محمد أحمد، وآخرون لا يتسعُ المجالُ لذكرِهم كلِّهم.
مع ذلك التراجعِ نادرِ الشبيه، لم يكن غريبًا أن "تأيقنت"iconized ، في مخيِّلاتِنا صورةُ عقديْ الستيناتِ والسبعيناتِ، من القرنِ الماضي. فبسببِ انغلاقِ الأفقِ أمامَ بارقاتِ الأملِ، أضحى هذان العقدانُ ملاذًا لخواطِرنا، وواحةً تفي إلى ظلالِها عقولُنا التي أنهكها هجيرُ الأحوالِ المضطربة، ومرأى كوابيسِ وأشباحِ المستقبلِ القاتمِ، مبهمِ الملامح، وهي تزحم فضاءاتِنا، ليل نهار.
كان عقدا الستيناتِ وجزء يسير من السبعيناتِ، موْسمَ حصادٍ جنتِ فيه النخبُ الحضريةُ السودانيةُ ثمارَ بناءِ الدولةِ الحديثةِ، التي ثبّت قواعدَها المستعمر. فما ساد من استقرارٍ وانضباطٍ إداريٍّ نسبيٍّ، ومناخ من الحريات الشخصية، وأمن معيشي نسبي، خاصة وسط قطاع الأفندية، أعان على ازدهار التعبير الإبداعي. ولقد بدأ ما يسمى " الزمن الجميل" منذ العشرينات، خاصة بعد إخماد ثورة اللواء الأبيض، وما أعقب ذلك، من خروج المصريين. فبنهاية ثورة اللواء الأبيض، تحول العمل ضد الاستعمار إلى نشاط مقاومة مدنية، انتهجت نهجًا تفاوضيا، ساعدته كثير من الظروف الدولية، فأدى في النهاية إلى استقلال السودان.
لم تسمر تلك الحالة العابرة، في العقدين اللذين تليا خروجِ المستعمرِ، إلا بطاقة الدفعِ الممتدةِ من الحقبةِ الاستعمارية. كما لم تمس تلك الحالة من البحبوحة من رغد العيش النسبي، والاطمئنان على المستقبل المعيشي، إضافة إلى ما صحب ذلك من ازدهار في التعبير، وانتعاش في حياة الشعور والوجدان، سوى النخب المتعلمة تعليما مدنيًا. كان لعامة الناس وجدانياتهم الشعبية، وأصبحت للنخب وجدانياتها الحداثية، التي شاركهم فيها عامة الشعب، خاصة فيما يتعلق بالغناء الحديث، والسينما. أما الشعر والتشكيل فقد بقيا صفويين، وهما نشاطان سيطر عليهما، إلى حد كبير، اليسار السوداني. وقد بقي دور الشعر والتشكيل محدودًا، بحكم ضيق دائرة التعليم.
أيضًا، كان التعليم منقسمًا، بين تعليم مدني، مثلته كلية غردون، ثم المدارس الثانوية، ثم جامعة الخرطوم، والمعهد الفني، وتعليم ديني مثلته المعاهد الدينية، ومعهد أم درمان العلمي، ومن دونها الخلاوي والبقاع الصوفية. ولذلك، أصبح للثقافة السودانية تياران؛ حداثي نهض به التحرريون من الأفندية بمختلف توجهاتهم، وتقليدي، وقف وراءه المحافظون من الأفندية مسنودين برجال الدين، ومعلمي التربية الإسلامية، والاسلاميون الذي خلقوا تيار الإسلام السياسي في مختلف تخلقاته. ومن علامات ذلك الصراع المبكرة، ما تعرض له الشاعر التجاني يوسف بشير، من تكفير وفصل من معهد أم درمان العلمي، في ثلاثينات القرن العشرين وما تعرض له الطلاب الجمهوريون من فصل، من ذات المعهد، في ستيناته، وما تعرض له الأستاذ محمود محمد طه من تكفير في ستيناته أيضا، ومن إعدام بتهمة الردة في ثمانيناته. فتلك قصص لها دلالاتها البارزة، على هشاشة ذلك السياق، وعلى ضمور قيم الحداثة فيه.
الشاهد أن الحداثة التي استخدمت التعبير الحر في الشعر الغنائي، فعلت ذلك وهي مستظلة بالظل الاستعماري، لا أكثر. تحت ذلك الظل، أسرف شعراء الحقيبة، في الوصف الغرافيكي لتفاصيل الجسد الأنثوي. وتغني الجيل الذي أعقبهم بالقبلة السكري، وبكؤوس الخمر، وقيل بالغلمان أيضًا. فالمستعمرون كبتوا الحريات السياسية، وفتحوا الباب على مصراعيه، للحريات الشخصية. بل بلغوا أن قننوا لبيوت البغاء، في قلب المدن السودانية الكبرى، وجعلوا له فيها أحياء بكاملها. ولم يستطع، حينها، أي فقيه، أو شيخ طريقة، أن يرفع عقيرته معترضًا. ويمكن القول، عمومًا، أن قبول السودانيين لنمط الحياة المنفتحة في النصف الأول من القرن العشرين، كان ردة فعل للكبت الطهراني المهدوي، الذي عانوا منه منذ اندلاع الثورة المهدية، في بداية ثمانينات القرن التاسع عشر، واستمرار ثقافتها المتزمتة، التي فرضتها على الجميع، حتى نهاية القرن.
الغزو البريطاني الذي قضى على الدولة المهدوية، عسكريًا، لم يقض عليها ثقافيًا، تماما. فكثير من المزاج الديني المهدوي بقي مختبئا تحت إهاب رقيق. فجرثومة الهوس الديني المهدوية ظلت حية تحت السطح، رغم تخلص قطاع كبير من الناس منها بزوال الأوهام الدينية، والأشواق الدينية العريضة، بموت المهدي. خاصة أن موت المهدي تمخض عن حالة مهدوية جديدة في عهد خليفته، اتسمت بالدموية وبالعسف، والظلم، وبالفشل الشديد في الاحتفاظ بالوحدة القومية السودانية، التي سبق أن بلورها توحد الشعور الديني وراء المهدي، لدى أغلبية السودانيين. باختصار، أخرجت فترة حكم الخليفة عبد الله المضطربة المهدية من نفوس الناس، ومع ذلك بقيت الأشواق الدينية مترسبة، وهي لا تزال كذلك، حتى يومنها هذا.
مع بوادر اقتراب أوان مغادرة البريطانيين للبلاد، بدأ الهوس الديني، المترسب في القاع، يندفع إلى السطح. فالمطالبة بالدستور الإسلامي بدأت منذ لحظة الاستقلال. وقد وضح ذلك جليًا في مداولات اللجنة القومية للدستور 8. وكما هو واضح وضوح الشمس، فإن الزمن الذي تلا لحظة الاستقلال، اتسم بتراجع حرية الضمير، وتراجع الحريات الشخصية، والمفاهيم العصرية، والفكر التحرري. كما أخذت الطاقة الإبداعية تتناقص، في الوقت الذي ظل ينمو فيه كل ما هو ضدها، إلى أن بلغنا الحالة التي نحن عليها اليوم.
العجز عن تفكيك الإرث الاستعماري: السودانيون الذين جلسوا على كراس البريطانيين، جلسوا عليها بعقليات بريطانية زائفة، لم تأخذ من السمت البريطاني سوى شكلياته. أخذت أكثرية الأفندية المظهر الغربي، وشرب الخمر، والقمار، واعتمار البرينطة، وتدخين الغليون، وتدليل الذات بصنوف الملذات، ولم تأخذ التفكير الاستراتيجي بعيد المدى، والانضباط الإداري، ومجمل خصائص بنية الوعي اللائقة بالدولة الحديثة. لم تع النخب السودانية الحاكمة، التي خلفت المستعمر على كرسي الحكم، خطر السياسة الاستعمارية التي حولت الاقتصاد السوداني، في بلد ضعيف البنية الاقتصادية كالسودان، من الانتاج من أجل تأمين الغذاء، إلى الانتاج من أجل التصدير. اتسعت المشاريع الزراعية في انتاج سلع التصدير وتراجع نقص الغذاء، بصورة مضطردة. ولذلك، ما أن بلغْنا منتصفَ عقدِ السبعيناتِ، حتى بدأتْ ملامحُ التراجعِ تتضح، بعد أن كانت خفيةً في النصفِ الثاني من الخمسيناتِ، مرورًا بالستيناتِ، ووصولاً إلى منتصفِ السبعينات. وقد قاد مسلك نظام جعفر نميري الذي توجه توجها اشتراكيا، بدأه بتأميم الشركات الخاصة، ثم ما لبث أن ارتمى كليًا في حضن الرأسمالية العالمية، إلى إغراق البلاد في الديون، وإلى تفاقم الهجرة من الريف إلى المدينة، بل وإلى الهجرة خارج القطر 9.
كانت فترةُ الحصادِ التي جنت فيها النخبُ المتعلمةُ ثمارَ الجهدِ الاستعماري في بناءِ الدولةِ السودانيةِ الحديثة، بالغةَ القِصر. ولقد اتسمت، في مجملِها، بإنفاقِ ما خلّفه المستعمرُ، بطيشٍ وتبذيرٍ شديدين. فقد أصبحت الوظيفة الحكومية أداة للبريستيج الشخصي، خصمًا على المال العام. أسرف الأفندية في استخراج تصاريح السفر بالقطارات والطائرات والبواخر، وولغوا حتى الثمالة في تخصيص المخصصات من المال العام. لم تدرك النخبُ التي ورثتِ السلطةَ عن البريطانيين حجمَ التحدياتِ التي كانت مندسَّةً في تلافيف حالةِ الاستقرارِ والرفاهِ النسبيةِ تلك. فهي، في ظل السياق الذي حدثت فيه، لم يكن من الممكن أطلاقًا، سوى أن تكون مجرد حالة عابرة. فحالة الاستقرار والرفاه النسبي التي نعمت بها طبقة الأفندية، كانت تركة موروثة مما أنجزه الإداريون البريطانيون، ولم تكُ نتاجًا عضويًا للتراكمِ الطبيعيِّ للسياقِ التاريخيِ السودانيِّ. لقد كانت، على التحقيق، نتاجًا لروافدَ أجنبيةٍ، ولحالة استقرار اقتصادية واجتماعية، كان البطش والحزم البريطانيين هما سببها الرئيس. كما أنها حالة انحصرت وسط النخب المتعلمة ولم تلمس عامة الناس. أيضًا صحب تلك الحالة تصوُّرٍ للذاتِ كان، في مجمله، أجنبيَ المنشأِ، أجنبيَ التطلعات. ولذلك، ربما أمكن القول، وإلى حد كبير، أن حالة الحداثة السودانية بقيت، في مجملها، حالةً مُستجلَبةً. وهي حالة عجز طلائع المتعلمين عن هضمها، ومن ثم، عن توطينِها، وتمليكها للسواد الأعظم من جمهور الشعب. وهذا ما جعلها تتسرب من بينِ أصابِعهم، لتُصبحَ، في بضعِ عقودٍ أثرًا بعد عين. الشاهدُ هنا، أن كلَّ ما توهّمناه انجازًا لنا، كان في حقيقةِ الأمرِ، نتاجًا لحالةٍ طارئةٍ، عابرة، هي الحالةُ الاستعمارية. فتواصليةُ السيرورةِ التاريخيةِ السودانيةِ انقطعت بفعلِ حقبتينِ استعماريتين؛ هما الحقبةُ الخديويةُ (1821 -1885)، والحقبةُ البريطانية (1898 -1956). لذلك، ما أن عبر القطرُ السودانيُّ تلكما الفترتين العارضتين من الحكمِ الأجنبيّ، اللتين امتدتا، لمائةٍ واثنتينِ وعشرينَ عامًا، حتى عادت أحوالُه، في مجملِها، إلى ما يُشبه نهاياتِ الحقبةِ السنارية، مع اختلافٍ في بعضِ الوجوهِ، تسببت فيها الحداثةُ والمظاهر العصرية، التي فرضها الاستعمار البريطاني. وهذ المظاهر الحداثية التي انحصرت وسط النخب المتعلمة هي نفسها التي أدت عبر مسار معقد إلى تفشي الفساد والمحسوبية، وانتهاء ثروة البلاد ومقاليد السلطة فيها، في أيدي قلة قليلة.
جوهرُ الفكرةِ التي وددت عرضها في هذه الورقة، تتلخص في أن تلك الحالةِ من الحيويةِ العقلية، ومن الاشتعال الوجداني، ومن الدفق الإبداعي، الذي ظهرت في غنائنا، وفي شعرنا، وفي تشكيلنا، والتي لا نفتأ نذكرُها بالخير، ويعصفُ بنا إليها الحنينُ الجارفُ، كانت حالةً عابرةً، موقوتةً. ومهمتُنا الآن، فيما أرى، أن ننظرَ إليها من هذه الزاوية، على وجهِ التحديد. فمقاربتَنا لها من هذا المنظورِ، هي التي تمكِّنُنا من نسفِ وهْمِ تملُّكِنا الأصيل لها. وهذا هو ما يفتح لنا الباب للخروج من أسر النوستالجيا، الغرة، الساذجة، والانصراف إلى مواجهة التحديات التي تنتظرنا. فما نحتاجه هو تملك الحداثة تملكا أصيلا، ومن ثم توطينها. هذا مهمٌ للغايةِ، إن نحن أردنا أن نؤسسَ لحداثةٍ أصيلةٍ متجذرةٍ في تجربتِنا التاريخية، تملك القدرة على الانفتاح والإفادة الذكيةِ من الروافدِ الحداثية، وما بعد الحداثية الوافدة، وتملك، في نفس الوقت، القدرة على الاستمرارية.
ينبغي أن ننظر إلى تلك حقبة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، من منظورٍ بعْدِيٍّ؛ أي، retrospectively، لنموضعَهَا في إطارِها الصحيح؛ وهو أنها كانت حالةً صفويٍةً معلّقةً في الهواء، لم يتملكها الفضاء العام، إلا في حدودٍ ضيقةٍ جدًا. لقد كانت عملاً صفويًا انحصر في القلة التي انشغلت بالسياسة، وبالعمل في الدوائر الاقتصادية المحيطة بتلك الصفوة القليلة. فما تسرب منها إلى الطبقة الوسطى، التي يغلب عليها المهنيون، تبخر بفعل الهجرة التي اضطرت إليها الطبقة الوسطى، بفعل فساد الأحوال وسوئها وتنامي الغلاء وتدهور سعر العملة. وأكبرُ دليلٍ عندي على أن حالة الازدهار تلك كانت بلا جذور سودانية، وكانت عارضةً وغريبةً على التكوين الاجتماعي التاريخي العضوي للمجتمع السوداني، أن انهيارًا ملحميًا ألأم بها، ولم تصمد أمامه. وهو انهيارٌ لا تزال حلقاتِه وهزات زلزاله الارتدادية تتسلسلُ وتتناسلُ، واحدةً تلو الأخرى، حتى هذه اللحظة.
...................................................... 8. بدأ الحديث عن الدستور الإسلامي في اجتماعات اللجنة القومية للدستور التي شكلها مجلس الوزراء في 22 سبتمبر 1956، أي بعد تسعة شهور فقط من الاستقلال. تقدم ميرغني النصري باقتراح بإضافة كلمة "إسلامية" إلى مسمى جمهورية السودان، وقال إن تعديله ينبني على الرغبة الشعبية الواضحة التي ما فتئت تنادي بالدستور الإسلامي "حتى غدا مطلبًا شعبيًا تبلور في سياسات الأحزاب الكبرى". وايد الاقتراح بالتعديل عمر بخيت العوض، مشيرا إلى مناداة الحزب الوطني الاتحادي بالدستور الإسلامي، مضيفًا أن جماهير حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي لا تريد غير الإسلام. راجع: يوسف محمد علي، السودان والوحدة الوطنية الغائبة، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أمدرمان، السودان، 2012، ص ص 44 – 60. وراجع أيضًا: محمد سعيد القدال، الإسلام والسياسة في السودان، دار الجيل بيروت (1992) (ص. ص. 149- 155).
9. راجع: عبد الله محمد قسم السيد، التنمية في الوطن العربي، دار الكتاب الحديث، سرت، ليبيا، (1994)، ص ص79 – 87. أيضًا راجع، ديدار روسانو، السودان إلى أين؟، (ترجمة: مراد خلاف)، الشركة العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، الخرطوم، السودان (2007)، ص ص 193-230.