من المهدوية قفزًا إلى الحداثة: خرج السودانيونَ من الحقبةِ المهدويةِ الطهرانيةِ المتزمتةِ، ومن حالةِ العسكرةِ والتشميرِ التي امتدت لسبعة عشر عامًا، وهم ممتلئين حنينًا دافقًا لعيشٍ طبيعيٍّ هادئ. فقد ناصروا المهديةَ بقوةٍ، في بدايةِ أمرِها، من أجلِ أن تخلّصَهم من عسفِ الحكمِ الخديويِّ التركيِّ المصريِّ، وفسادِ ولاته، وإدارييه، وموظفيه، وتجاوزاتِهم الشنيعة. غير أن المهديةَ، ما لبثت، هي الأخرى، أن انقلبت عليهم، فأصبحت أكثرَ عسفًا وعنفًا، بل وخنقًا للحياة، التي هي بطبيعتها طاقةٌ معبِّرة، لا تحتمل الكبت ولا القولبة في القوالب الضيقة. فبسبب حالةِ الإرهاقِ النفسيِّ والبدنيِّ الطويلةِ، وبسبب المجاعةِ الطاحنةٍ، وحالةِ عدمِ الاستقرارِ التي كانت السمةَ الرئيسةَ للحكم المهدوي الرساليِّ، ذي الطموحاتِ التوسعيةِ التي تعدّتِ الترابَ الوطنيَّ، إلى غزو الخارج، إضافةً إلى تحوّلِ نظامِ الخليفةِ عبد الله التعايشي، إلى نظامٍ باطشٍ، ومؤسسته العسكرية إلى قوةٍ مطلقة السراحِ للسلبِ والنهبِ، أصبح قطاعٌ معتبرٌ من السودانيين كارهًا للمهدية، وأكثرَ تشوُّقًا لأحوالِ العيشِ الطبيعي [15]. ولذلك، حين جاءَ الغزوُ الإنجليزيُ المصري، كان المجتمعُ السوداني منقسمًا أشدَّ ما يكونُ الانقسام. وتجلى ذلك الانقسام الحادُ في الشعورِ الوطنيِّ، في ترحيبِ قطاعٍ معتبرٍ من أهل الشمالِ والوسطِ النيليِّ، بالجيشِ الغازي، بل وبالتخابر معه [16]. من ميز المهدوية السودانية أنها نَحَتْ إلى تملُّكِ الإسلام، فقد قال محمد أحمد المهدي: "هؤلاء الأئمة جزاهم الله، فقد درّجوا الناسَ ووصّلوهم إلينا، كمثَلِ الراوية وصلّت الماء من منهلٍ إلى منهل، حتى وصّلت صاحبها للبحر، فجزاهم الله خيرًا. فهم رجال، ونحن رجال، ولو أدركونا لأتبعونا. وأن مذهبنا هو الكتاب والسنة، وقد طرحنا العمل بالمذاهبِ، ورأيِ المشايخ "[17]. قامت المهدوية بانقلابٍ كبيرٍ على جبهتين. فمن جهةٍ، اقتلعت الفقهَ المدرسيَّ الرسميَّ الذي استجلبته الخديوية معها لتستخدمَه ذراعًا لتثبيتِ سلطانها. بل تعدت ذلك، إلى حدِّ إلغاء العمل بالمذاهب، نفسِها. وقد وضعت المهدية بذلك، الفهم السني للإسلام، في مكانه الطبيعي، بوصفه رأيًا في الدين، وليس الدين في ذاته. كما أنجزت المهدوية كسرًا لاحتكارِ رجالِ الدينِ لتفسيرِ الدين، كما اختطت بذلك، أيضًا، وعيًا بالذات السودانية، على الرغم مما عُرف عن المهدية من محدوديةٍ الأفق المعرفي، وضعف قاموسها اللغوي، وقلةِ نصيبِها من الحداثة. غير أن المهدية، قضت، من الناحية الأخرى، على التصوفِ الذي خرجت من عباءته. وقد عاش التصوف في الدولة السنارية لثلاثةِ قرونٍ، قبل الغزو الخديوي، فشكل إطارًا للتعايش والتساكن السلمي بين مكونات المجتمعات السودانية المختلفة. والغريبُ أن البريطانيين حين قضوا على الدولة المهدوية، عمدوا إلى محاربةِ التصوفِ وتهمّشيه، بزعم أن المهدويةَ إنما خرجت أصلاً من عباءته، قائلين إن خلاويه تفرخُ التطرف [18]. فأعادوا المؤسسة الدينية التي صنعتها الخديويةُ إلى الحياةِ، مرة أخرى، بعد أن قضت عليها المهدوية، أو أعادت صياغتها في قالبها هي. جمعتِ المهدويةُ حولها القطاعاتِ الرعويةِ، بإيقاظِ الحماسةِ الدينية، وروحِ الأسطورة، وأخبار المنتظر المخلِّص. وقد التقى ذلك مع استعدادِ السودانيين للثورةِ ضد الحكم الخديوي التركي المصري، الذي أراهم صنوفًا من العسفِ والاستبدادِ ومن الجبايات الباهظة، لم يعهدوها. في الحقبة المهدوية بدأت حالة الانقسام السودانية، التي لا تزال مستمرةً، حتى زمانِنا الراهن. كان مبتدأ ذلك الانقسام، العداءُ الذي نشبَ بين المهدويين وطائفةِ الختمية. ضيّق المهدويون الخناقَ على زعماءِ الطائفةِ الختميةِ، وهجموا مقرهم في كسلا، حتى اضطروهم لمغادرة البلادَ، ليعودوا إليها حلفاء للغزو الإنجليزي المصري في عام 1898. وبعد أن استتبتِ الأحوالُ للحكمِ الثنائي، شرعَ البريطانيون في إذكاءِ روحِ التنافسِ بين هاتين الطائفتين، وهو ما أدى لنشوءِ حالةِ الانقسامِ وسطَ طلائع المتعلمين، واشتدادِ التنافسِ بين قطبِ التبعيةِ للمصريين ونزعة الانتماء المشرقي، من جهة، كما لدى طائفة الختمية وقسمٍ كبيرٍ من طلائع المتعلمين، الذين عُرفوا بـ "الأشقاء" و"الاتحاديين"، وقطبِ النزعةِ الاستقلاليةِ، التي كانت تميل إلى البريطانيين، من الجهة الأخرى، كما لدى طائفة الأنصار، وقسمٍ كبيرٍ آخر من طلائع المتعلمين، كانوا جزءًا من طيف "الاستقلاليين". بين هذين التيارين الكبيرين نشأت القوى السياسية التي تسمى بالقوى الحديثة التي حاولت الاستناد إلى سلطةِ المعرفةِ، في مواجهةِ سلطةِ الدينِ والولاءِ الطائفي. غير أن هذه القوى انقسمت أيضًا على محوري الدين والعلمانية، أو ما يمكن أن نصفه أيضًا بالانقسام بين قطبي اليسار واليمين. وقف الشيوعيون والبعثيون والناصريون في معسكر العلمانية في تمثُّلاتِه اليسارية، وساندهم قطاعٌ عريضٌ من الليبراليينَ المتعاطفينَ مع اليسار. أما التحالف الذي ضم القوى الطائفية والإخوان المسلمين فقد بقي على مدى عقودٍ تحالفًا ملتبسًا، ينجمعُ على بعضه حينًا، وينفر من بعضهِ حينًا آخر. عقبَ ثورةِ أكتوبرَ 1964، اكتسحَ الحزبُ الشيوعي السودانيُّ دوائرَ الخريجين. ومنذ أكتوبرَ تصعّد الصراع بين الشيوعيين من جهة، وبين الطائفيةِ والإخوانِ المسلمين، من الجهةِ الأخرى. حاولت ثورةُ أكتوبر وحكومتُها الانتقالية اليسارية سد الطريق أمام القوى التقليدية، فارتفع حينها شعار "لا زعامة للقدامى". كما جرى رفع شعار "التطهير واجب وطني". ثم ما لبثت القوى التقليدية أن استجمعت طاقتها، وانقلبت على اليسار فحلت الحزب الشيوعي وطردت نوابه المنتخبين ديموقراطيًا من البرلمان. وما أن جاءت مايو، عاد اليسارُ ليأخذ بثأره، خاصةً أن مايو، حين جاءت، زعمت أنها امتدادٌ طبيعيٌّ لثورةِ أكتوبر. وبين انقلابات اليسار التي قادها الشيوعيون والمايويون مجتمعين ومتفرقين، منسجمين ومتنافرين، وبين حادثةِ حلِّ الحزبِ الشيوعيِّ، وانقلابِ يونيو 1989، وانتهاجِ الإخوانِ المسلمين نهجَ "التمكين"، والسيطرةِ المطلقةِ على كلِّ شيء، وخنقِ الفكرِ والتعبيرِ الحر، اكتملت دورةُ اعملِ المجهضِ للحالةِ السودانيةِ، التي كانت واعدةً، أشدَّ ما يكونُ الوعد. الفكرُ الوافدُ في صيغتيه: الماركسيةِ اللينينيةِ، وبعدِها الأممي، والإخوانيِّ الإسلاميِّ التبسيطيِّ القادم من مصر، ومن الهند وباكستان، وتوجههِ الأمميِّ، أيضًا، أخذا بخناقِ الحلمِ السوداني، فكتما أنفاسه عبر مسلسلٍ طويلٍ من الثاراتِ المتبادلة. لذلك، فإن الازدهارَ الثقافيَّ الذي وسم عقديْ الستيناتِ والسبعينات كان حالةً عابرةًن غريبةً على السياق التاريخي للقطرِ السوداني. فالتجذير للوعي بالذات السودانية، لدى الشيوعيين والإخوان المسلمين، كان ينتهي إلى جذرٍ يقعُ ثِقَلُهُ خارجَ حدودِ الترابِ الوطني، وخارجَ السياقِ التاريخي للحالة السودانية، ذاتِ الجذورِ الكوشيةِ، المسيحيةِ، الأرواحيةِ الصوفية.
خاتمة : تزدهر الفنون والآدابُ حين تكون هناك دولةٌ، وحين تكونُ هناك طبقةٌ وسطى، وحين يكونُ هناك حلمٌ وأملٌ في المستقبل. وأهم من ذلك، حين يجري تحييدُ الطهرانيةِ الدينيةِ، وإبعادُها عن السيطرةِ على المجال العام. هذه العناصر تحققت، إلى حدٍ كبيرٍ في عقود حكم الحقبة الاستعمارية البريطانية، فازدهرت فنوننا وآدابنا، حتى توهمنا أننا قد تملكنا الحداثة، والانفتاح العقلي. ولكنها كانت، في حقيقةِ أمرها، حالةً زائرةً عابرة. لم ينتبه المنظرون للهوية السودانية لإسهامين هامين: الأول هو اسهام الأستاذ محمود محمد طه في قضية التجديد الديني. فالفنون في السودان ينظر إليها بريبة، ويمارسها كثيرٌ ممن من يمارسونها بشيء من الشعور بالإثم. في هذا الباب كتب الأستاذ محمود محمد طه كتابه "الإسلام والفنون" الذي نحا فيه إلى تجاوز النصوص والملابسات التي ربطتها بالحرام. أما الإسهام الثاني فهو اسهام عبد الخالق محجوب في توطين الماركسية وربطها بالثقافة الإسلامية. وهو أمر تجاهله الشيوعيون السودانيون ولم يدركوا، في تقديري، عمقَ مغزاه. فقد ظل العلمانيون الأقحاحُ منهم يظنون أن الدينَ ظاهرةٌ عارضةٌ، مرتبطةٌ بطفولةِ العقل، ولن تلبثَ أن تنقرضَ بمرور الزمن. وقد وضح أن هذا التصورَ تصورٌ خاطئ. ولقد وضح خطأه في السودان، أكثر من أيِّ مكانٍ آخر. فأوروبا لم تنعتق من الرؤى الدينية المنغلقة عن طريق الفلسفةِ، والفنونِ، والآدابِ، وحدها، وإنما عن طريق الإصلاح الديني، في المقام الأول. يورد عبد الرازق الداوي رؤيةَ ماكس فيبر لدور الحوافزِ الأخلاقيةِ والدينيةِ الفعال في سلوكِ البشر، وفي الحياةِ الاجتماعيةِ للشعوب، منوهًا أن فيبر منح الأولويةَ في التأثيرِ على التحولاتِ الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ، للعواملِ الثقافيةِ والدينية. فالثورةُ الرأسماليةُ في الغربِ، كما يراها فيبر، كانت ثورةً ثقافيةً في المقام الأول، استندت على الإصلاحِ اللوثري والكالفيني [19]. ولذلك ينبغي، من وجهة نظري، أن نتخذ من تأمل تجربة ما بعد الاستقلال، واخفاقاتها، ومن انحسار المدِّ الإبداعيِّ في الفكرِ وفي الآدابِ وفي الفنونِ في السودان، فرصةً لإعادة تأمل التجربة الإبداعيةِ الصفويةِ العابرة، التي عاشت عمرها القصير، معلقةً في الهواء، ثم ما لبثت أن تبخرت، أو كادت. يقول جون قرنق: "فلنتقبل أنفسنا كسودانيين، أولاً وقبلَ كلِّ شيء، العروبةُ لا تستطيعُ توحيدَنا، الأفريقانيةُ المضادةُ للعروبة لا تستطيعُ توحيدَنا، الإسلامُ لا يستطيعُ توحيدَنا، المسيحيةُ لا تستطيعُ توحيدَنا، لكن "السودانوية" تستطيع توحيدنا". غير أن "السودانوية"، لا تزال شعارًا مجملاً، يفتقر، رغم صحته كهيكلٍ جامع، إلى التعضيد المعرفي. ومن التعضيد المعرفي لهذا الشعار، مراجعةُ التاريخ السوداني، خاصة انقلابَ المزاجِ الديني الذي أحدثته الخديوية، وتغيير طبيعة التصوف السناري المعارض للسلطة، والمتصالح مع التنوع، وإلحاقه بالمؤسسة الفقهية التابعة لها. أيضًا، لابد في تقديري، من أن يخلع قطاعٌ مؤثرٌ من النخب المثقفة، الخوذة العقلية الغربية، التي تسببت في حالة الانفصال من الجذر والشخصية الحضارية للبلاد. باختصار شديد، نحن بحاجة لمراجعة التركة المثقلة لمائة واثنتين وعشرين سنة من الاستعمار الخديوي والبريطاني. يضافُ إلى ذلك، مراجعة ستين عامًا من الاستقلال الزائف، اللامثمر، بمنهجٍ جديد، وشفافيةٍ عالية. وإن لم نفعل ذلك، فإن البلاد سيتخطفها الجيران، ومن ورائهم القوى الدولية، بعد أن تغرق، أولا، في أتون من الفوضى والدم، والدمار الماحق. ........................................................ 15. روى الشيخ بابكر بدري في مذكراته، وهو في حالة حيرةٍ واستغراب من تبدل الأحوال الذي ألمَّ به، في نهايات الحقبة المهدوية، قائلاً، إنه في بدايات التحاقه بالمهدية، كان يفتح صدره لرصاص الأعداء، غير مبالٍ بالموت. غير أنه، في يوم كرري كان واقفاً على تلةٍ، ليس بعيداً من الخليفة عبد الله، وهو يرقب جريان المعركة. غير أنه، وفقًا لما ذكر، كان يراقب مجريات المعركة، ، بشعورٍ اتسم بالحياد. بل لقد نمّ عنه، من وصفه لحاله، ما يشير إلى أنه كان منتظراً أن تنتهي تلك المعركة بنصر الجيوش الغازية، ليتم إغلاق ذلك الفصل من حياته، الذي يبدو أن حالة الإرهاق منه، قد بلغت به مبلغاً عظيماً. 16. راجع: محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث 1820-1955، (ط2)، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أمدرمان، السودان، (2002)، ص ص 290 – 298. 17. مكي شبيكة، السودان عبر القرون، (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، (1964) ص 309. 18. هارولد ماكمايكل، السودان، (ترجمة محمود صالح عثمان صالح)، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، السودان (2009)، ص، 110. 19. عبد الرزاق الدواي، في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة وبيروت، (2013)، ص 59