آليات الكشف عن (التطرف) حثيثاً (1)

 


 

 

لا نفهم إصرار الكثيرين على إطلاق عبارة العنف موصولة بـ(الديني) إلا إذا كان هناك موقف غير معلن من الدين نفسه!!

لو بدأنا بتصحيح وتشذيب قاموسنا من الحكي والمداولة بحيث يتوافق مع - الجمال - والاحترام للآخر بل واحتماله - لأمكننا حينها حل المشكل..

ما نطلق عليه إرهاباً نمارسه نحن في اللغة بين بعضنا البعض، فقاموسنا اليومي محشو حد التخمة بالإيذاء، ومستودع عنفنا الدلالي والاصطلاحي فيه (داعشية ضاجة)..  

 

ghassanworld@gmail.com

لا مجال للهروب من أننا نعاني (أزمة) تعارض الولاء، وهما ولاء نحتفظ به عميقاً و(وجدانياً) مقيدون لمعاني كثيفة الحضور فينا، والفكاك منها يصعب، ولا مجال كذلك للتخلص من تبعاتها وأذاها المعنوي، والسبب غياب فكرة الزمن في المعرفة، فقد استقر جذرياً في معارفنا أن المعادل الزمني للحقيقة لا يقبل التراجع بل تحكمه حتميات مُقننة وشعارها (أن الوقت لا يؤذي ولا يعض!)، وفي ذلك يترتب معنى جديد كلياً حول الطريقة التي نتبنى بها المعرفة، وهي في نظرنا طريقة معلولة وعلتها تتجلى في غياب الجانب التحليلي في أساسها المعرفي، ولذا فإننا نشاكس الحياة عبر الاصطفاف حول رموز بعينها، وهذه الرموز توفر لنا حماية كسولة، كمن يقر بتبعيته للإمام فلان، أو الشيخ فلان، أو حتى الفيلسوف فلان، إننا قوم موكولون بالحتمية التاريخية إلى إجابات نهائية وأسئلة حيرى، لعله إرثنا من التراث، وعلاقتنا الملتبسة مع الوجود، فلو حصرنا ما نشتبك معه في معرفتنا العربية الإسلامية، فإننا نقع ها هنا على تعارض بين ولاءات متعددة موصوفة بالتنوير والحداثة والقديم، وهنا نقع في مشكلة أكبر وهي مشكلة، تركيب اللغة، فما نطلق عليه إرهاباً نمارسه نحن في اللغة بين بعضنا البعض، فقاموسنا اليومي محشو حد التخمة بالإيذاء، ومستودع عنفنا الدلالي والاصطلاحي فيه (داعشية ضاجة) والحل في إعادة بناء مجالنا اللغوي لأنه حامل للقيم التي نسميها (قيمــــنا)، ولو بدأنا بتصحيح وتشذيب قاموسنا من الحكي والمداولة بحيث يتوافق مع - الجمال - والاحترام للآخر بل واحتماله - لأمكننا حينها حل المشكل الموصوف بـ(التطرف..) من مظاهر غياب الدرس الفلسفي ما نراه اليوم من تعاطي مع قضية حساسة للغاية بل ومكلفة، وهي قضية/مسألة "العنف" فالمتابع لما يكتب ويقال ويعلن عنه بخصوص هذه المسألة سيكشف بلا كبير عناء طبائع من الخرف المبكر في التناول، ولا نفهم إصرار الكثيرين على إطلاق عبارة العنف موصولة بـ(الديني) إلا إذا كان هناك موقف غير معلن من الدين نفسه؟! كما أن البعض يتبرع بسخاء شديد ليصف لك حالنا؛ حال العرب المسلمين اليوم وما انتهوا إليه من غياب كامل عن الحضارة العالمية، ليقول لك أيضاً إننا كنا أصحاب وجود معرفي كبير وواسع في القرون الماضية، وهذا الحديث عن ما يمكن أن ينشأ فيه من التباس وتعارض بل وتزييف يعكس حقيقة الأزمة وهي أزمة التعلق المطلق بالماضي، يتساوى في هذا الحال العلماني والإسلامي، هي أزمة ملازمة للثقافة العربية في وجوه كثيرة، ذلك أن سر هذا التعلق هو غياب البديل الحضاري، ولم نعد نرتضى بالتكرار الأجف مرارة للحديث عن – شخصيات – تاريختراثية (تاريخية – تراثية) تحتل موقع كلمات المتحدثين عن ظاهرة العنف والتطرف، فكيف يمكن وضع بن سينا والفارابي الموغلان في العرفانية المانوية القديمة، تلك التي تفهم العالم بموجب الثنائية هي – الروح والجسد عند بن سينا مثلاً، وهي أيضاً الدولة المحكومة بالفلاسفة الربانيين كما نجد عن الفارابي، والربط بينهما مع الغزالي مثلاً القائل بفتور التدين ووجوب إحياء علوم الدين لربط الفرد بالمطلق، بل ومحاربته الفلسفة متمثلة في مشروع الفارابي وبن سينا، بل وجند معارفه للقضاء على مشروعية وجود الفلسفة الفارابية والسينوية من بعدها، أيعقل وضع البيض كله في سلة واحدة لأجل القول في الماضي لصالح أسئلة الحاضر؟ ومرد هذا الخرف ضعف الدرس الفلسفي في وعي المتحدثين بأزمات الأمة. والحال كذلك يتقول البعض على الإمام أحمد بن حنبل بأن الخليفة العباسي القادر بالله عقد تحالفاً مع الرجل، فيما يطلق عليه (البيان القادري) ويربط البعض بين هذا البيان وحالة الردة في الفكر العربي الإسلامي، بأنه وجه في الأساس ضد تيار المعتزلة الموصوف بأنه التيار العقلاني، هكذا بالمطلق، كأن عقلانية المعتزلة هي منهج كامل لمعرفة العالم والإنسان، وليست شكل يخص بيئتها لمعالجة أزمات تخص إنسان ذلك الوقت، وهذا ما نسميه الفشل في إدارة لعبة (الزمن والمعرفة) ، إنهم هكذا يفعلونها دون أدنى التفاتة للشروط الموضوعية التي صاحبت البيان ولا حتى طبيعة المشكل الاجتماعي والسياسي الذي خرج فيه، والحال كذلك مع الوليد بن رشد فهي رمز موظف من قبل دعاة العلمانية، رغم أنه لا أعرف كيف يستقيم وصف قاضي المسلمين بإشبيلية وقرطبة بأنه رمز (علماني)؟!. إن الجدير بالنظر في مسألة التطرف ليس فقط التاريخ اللغوي للمصطلح وجذوره، بل كذلك النظر إلى تجلياته الاجتماعية وتوظيفاته السياسية، فالعنف، هو العنف ولا يستقيم ربطه بالمرجعية أياً كانت إلا إذا كان المقصود التوصيف في سطح القضية، كأن نقول بـ(العنف الإسلامي) أو (العنف المسيحي..اليهودي..البوذي) ونحن هنا نتحدث عن مرجعيات تقوم بكامل طاقتها الإيديولوجية بتنفيذ خطة للعنف، ويتوجب عندئذ أن تكون مملوكة بالكامل لمعنى العنف بل ومسئولة عن تدبيره، لكن السؤال كيف يمكن أن تكون هناك مرجعية ثابتة للعنف؟ وإن تم ذلك فإن العنف هنا لا يصبح عنفاً! كيف.. فطالما أن ثمة بُنى تُزحزح من قبل فاعلين لإيجاد غطاء آيديولوجي يوفر العنف معنىً وصورة، فأنه لا يستقيم أن تكون ذاتها المصدرة للعنف تحمل في طياتها أدوات ضد العنف، وهنا نحن ندعو إلى التفريق بين البنية والفاعل الاجتماعي، أي التفريق بين (الجريمة = باعتبار العنف جريمة؛ وبين الدين) لأن في هذا تعميم وغرض، فالأديان لا تحرض على العنف أي أن تفويضها للممارسة الاجتماعية لا يحتفظ بالعنف في نظامها الوجودي، ولا يعقل أن نحاكم أسرة بكاملها لأجل أن حفيدهم قرر أن يتحول لعبوة ناسفة، وحتى الإسلام يصر في نص القرآن على الحيطة والحذر من تعميم قاتل كالذي تستخدمه المنهجية الغربية وترسله لنا عبر وسائل إعلامها، يقول تعالى في سورة الأنعام الآية (164) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. حتى ما يستشهد به دعاة العنف من الآي الكريم يتم اقتطاعه من السياق الذي ورد فيه، بل ويفرغ من معناه الحقيقي وهنا مكمن الأزمة، (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) من سورة التوبة، لا نجد أنفسنا بحاجة إلى توضيح السياق الذي ورد فيه (قتل المشركين) فالصورة واضحة تماماً، إلا من يريد أن يثبت أن للنهار دليل غير الشمس، أما الآلة الغربية ونحن هنا لا نعني بالغرب الجغرافيا بل هو تقسيم استعماري هو من بدأ بوصفنا (شرق)، نقول إنه التعسف في المعرفة والإصرار غير المبرر عن ربط – الجنسية والدين والهويات الفردية والجماعية بفعل اجتماعي وهو العنف. الحق يقال بأننا نعاني أزمة قيم، وهذه المعاناة مصداقها في طبيعة العلاقة مع التراث؛تراثنا ونعني ذاكرتنا الاجتماعية بكامل حمولتها، فقد تبنت تيارات إسلامية صورة تخص جهدها ووعيها في مسألة العنف، وبات من المؤمل عندنا أن نركن لمعنى قاتل من الحضارة، أي أن يغيب عنا تراث تسامح ويتراجع لصالح تركة عنف قادرة على إيجاد مبرراتها من وقائع السياسات العالمية، ولكن أزمتنا أيضاً في انكارنا للحق بتنفيذ خطة معرفية تخصنا؛ تخص الوعي الذي ندرس به العالم، أن يؤمن هذا العالم بالنسبية الأخلاقية.. نواصل.. 

 

آراء