أعظم ابطال السودان كانوا من النوبة
شوقي بدري
28 June, 2011
28 June, 2011
في سن الطفولة يبحث الاطفال عادةً عن أبطال , في محيط العائلة و محيط الحي , أو المدينة أو القطر . بعد السينما صار ممثلي السينما هم أبطال الصغار . و صار الأبطال حتى في السودان هم جيري كوبر و راندولف سكوت و روبرت ميتشم و ريد كاميرون و ألن لاد . كنا نقلد مشيتهم و حركاتهم و طريقة كلامهم بكلمات انجليزية بسيطة . و في المدرسة الأولية درسنا عن البطل السويسري وليم تيل الذي قتل الحاكم السويسري الظالم بسهمه الذي كان لا يطيش . و وليم تيل هو الذي أجبره الحاكم أن يصيب التفاحة على رأس ابنه بسهمه , و إلا سيقتل الاثنان . و الحاكم الظالم كان قد وضع قبعته في السوق و أجبر الجميع للأنحناء لها .
كما تعلمنا كذلك عن البطلة البريطانية فلورنس نايتنقيل . و هي الممرضة التي خدمة بتفاني غير مسبوق في علاج جرحى الحرب . و نايتنقيل تعني طائر البلبل . و قام أحد مدريسينا في الأولية برسم طائر البلبل بالطبشيرة الملون على السبورة . و كان طائراً جميلاً كبيراً بألوان زاهية . و الآن عندما اشاهد طائر البلبل كل صباح اصخر من حالنا و مدرسنا المسكين . فطائر البلبل هو طائر صغير أغبر اللون اقرب الى السواد و هو بعيد جداً عن اللوحة التي رسمها الاستاذ . و هذه اللوحة لا تزال موجودة في رأس السودانيين عندما يفكرون في البلبل .
لقد صدمت عندما عرفت أن اغلب الاوربيين لم يسمعوا بفلورنس نايتنقيل و لم تهمهم بأي شئ . و لماذا ندرس أبطال الآخرين ؟ . لقد تجنب المصريون و الانجليز تدريسنا عن بعض ابطالنا لأن في هذا اساءة الى تاريخهم . و كما تألمت كذلك عندما عرفت من سائحة سويسرية قابلتها في براغ في الستينات , أن البطل وليم تيل لا وجود له في التاريخ السويسري . بل هو حجوة يروونها للأطفال . و شخصية لم تكن موجودة في الحقيقة .
عندما كنا نلعب العاب الحرب في طفولتنا , كان الاغلبية يريدون أن يكونوا البطل عبد الفضيل الماظ . و البعض يرفض المشاركة في اللعب اذا لم يسمحوا له بأن يكون عبد الفضيل الماظ . ولهم الحق , لأن هذا بطل سوداني حقيقي . و أذكر أن احد الاصدقاء كان يحمل بندقيتين من الخشب و يقول أن عبد الفضيل الماظ بعد ان قتل صديقه , أخذ ماكسيم صديقة و كان يطلق النار بيديه الاثنين و يصرع جنود الانجليز في سنة 1924 .
كل السودان كان يشيد بعبد الفضيل ألماظ , لأنه بطل حقيقي , و كان بطل كل السودانيين , و كنا نسمع بأنه من النوبة و قال البعض بأنه من المورو , و هنا التباس . البعض يظن أن المورو هم قبيلة المورو في الاستوائية . و المورو في الاستوائية يشبهون الزاندي و أرتبطوا بهم و جاوروهم . و بعد أن رجعنا من جنوب السودان كان معنا الاخ فلو من امادي . و لقد عمل في مصنع البيرة فيما بعد في الخرطوم بحري , و كان يأتي لقضاء يوم الجمعة معنا بعجلته الفليبس , ثم رجع الى امادي فيما بعد . و أذكر انه كان يشتكي انعزاله و وحدته في مدينة بحري . المورو الذين نقصدهم هم جزء من النيمانق و هولاء هم أهل جبال النوبة . و كان اغلبية جنود الجيش السوداني من النيمانق و القلفان و أهل جبال النوبة .
البطل الذي يذكر كبطل قومي سوداني و يطلق اسمه على المدراس و المؤسسات هو على عبد اللطيف . و علي عبد اللطيف بالرغم انه من الدبة في شمال السودان , إلا انه يحمل دماء النوبة و الدينكا , الذين يطاردون اليوم و يتعرضون للقتل و التقتيل . و علي عبد اللطيف قد رفض ان يحيي احد المسئولين الانجليز لأنه لم يكن مرتدياً ثيابه الرسمية . و كان فخوراً بسودانيته و معتزاً بنفسه . و عارض الانجليز و ضحى بمنصبه و سجن . و كان صديقاً لوالدي ابراهيم بدري . و ابراهيم بدري كان احد الخمسة الذين كونوا جمعية الاتحاد و هم توفيق صالح جبريل , جمال ابو سيف , عبيد حاج الامين , و صالح عبد القادر .
و من عباءة جمعية الاتحاد السرية خرج تنظيم اللواء الابيض بقيادة البطل علي عبد اللطيف و عبيد حاج الامين . و على عكس جمعية الاتحاد , كان لجمعية اللواء الابيض ذراع عسكري . بعد سفر الولاء و هو وثيقة قدمها اعيان السودان و على رأسهم السيد عبد الرحمن المهدي و الهندي و الميرغني , و هو طلب قدمه اعيان السودان يعلنون فيه ولاءهم للأنجليز . و يطالبون الانجليز بالانفراد بحكم السودان . و لقد قال الشاعر عبد الله البنا قصيدة عجز أحد بيوتها يصف رجال الدين و الدين الذي يمثلونه بـ( دين يداس عليه بالاقدام ) . و لقد حسب الشريف الهندي بأنه المقصود بهذا الكلام و رفع قضية كتابية بخط يده للسلطة . و هذا الكلام سمعته في الفصل بلسان الوالد الاستاذ عبد الله البنا . و هنالك بيت الشعر الذي استفز القادة الدينيين :
الا اقول و كلميني رجال الشرع صاروا كالمعيز
ايا ليت اللحى صارت حشيشا فتعلفها خيول الانجليز
عندما حضر اللورد المبي قال الشاعر توفيق صالح جبريل , أبو الوطنية السودانية بلا منازع :
ايها القوم لا تجروا الذيولا *** يأنف المرء ان يعيش ذليلا .
و كتب ابرايهم بدري مجموعة من المقالات في الحضارة , تحت عنوان نفثت مصدور , و كيف نصنع أمة . و لتوفيق صالح جبريل كذلك قصيدة تحت عنوان نفثت مصدور .
حوادث 1924 تمرد الطلبة الحربيين وكانت حالة الغليان في الشارع السودان . 35 من الشخصيات السودانية المؤثرة و على رأسهم السيد عبد الرحمن المهدي و الهندي و الميرغني يدينون الحركة و ما موجود في الحضارة , فقد تحدثوا عن الغبار الذي يثيره ابناء الأمة ( و يقصدون ابناء الجواري ) . و هذا الغبار أثر على الحياة الاجتماعية و التجارية . و أن أمة يقودها ابناء الامة امثال علي عبد اللطيف لأمة وضيعة . في تلك الوثيقة كان اسم بابكر بدري الخامس و العشرين . و شملت الوثيقة عمد و تجار و نظار . كما شملت السيد الثري صالح جبريل . و الذي كان يسكن في منزل ضخم عرف بالقلعة . و كان ابنائه توفيق و شقيقه من مؤسسي حركة 1924.
للتخلص من المصريين في السودان دبر البريطانيون مكيدة اغتيال السير لي استاك في شوارع القاهرة . السير لي استاك مدفوعاً بهوس عظمة الامبراطورية البريطانية كان مصاباً بالسرطان . فدبر حادث اغتياله . لانه لم يكن عنده إلا فترة قصيرة ليعيش .
قائد الجيش المصري احمد بك , كان يقول على رؤوس الاشهاد بأنه اذا صدرت الأوامر برحيل الجيش المصري , فأنه سيقوم بدك معسكرات الانجليز . لأنه هو الذي يسيطر على المدفعية الثقيلة . و صدق الجنود السودانيون . و كان أغلبية الجيش السوداني من ظباط و جنود يتكون من قبائل غير قبائل وسط السودان . و كانت الاغلبية من النوبا و الجنوبيين .
عندما أتت الأوامر برحيل الجيش المصري تحرك الظباط و الجنود السودانييون من معسكر المقرن . و هذا في الصباح الباكر . و كانت تتبعهم الذخيرة على عربة كارو . انا اكتب الآن من الذاكرة . و لكن كل هذا مدون في كتاب مؤرخ السودان الاستاذ محمد عبد الرحيم . و يا حبذا لو استطاع هاشم بدر الدين محمد عبد الرحيم من اعادة طباعة كتب جده . هذه المجموعة تقول بالمفتوح انهم ذاهبون ( لدواس الانجليز ) . و كانوا يهتفون و يهزون اسلحتهم . و أسرعت بعض الأسر الأوربية لأخذ اطفالهم من مدرسة اليونتي . و هذا ما دفع بمديرة المدرسة للاتصال بالمسئولين . و سارع الجيش الانجليزي بقفل كبري بحري . الذي كان يمرر القطار . و كبري النيل الازرق لم يكتمل الى في سنة 1927 . و بدأت المعركة . و لم يتحرك المصريون . فذهب الظابط سيد فرح المحسي الذي كان يجيد السباحة , سباحةً الى بحري . و اصيب برصاصتين الى انه واصل . و طالب المصريين بالتحرك و ردهم كان ( ما جاتناش اوامر ) . و كما أورد قائد الجيش المصري في السودان فيما بعد , قائد السرب حسين صبري ذو الفقار , و كما اورد في كتابة سيادة السودان , فأنه قد عرف لأول مرة من ابراهيم بدري في اجتماع 1952 , أنه بينما كانت المعركة دائرة , كان الظباط المصريون في السوق يشترون الاناتيك و البضائع , و يحزمون الاسلحة و الذخائر التي كان من المفروض ان يخضوا بها الحرب بجانب السودانيين .
و حارب الابطال السودانيون بالرغم من قلة عددهم الى ان نفذت ذخيرتهم . فأتجه عبد الفضيل الماظ الى المستشفى العسكري لوجود ذخيرة هنالك . و بينما هو يقوم بكسر باب المخزن انقض عليه ظابط بريطاني . و تبدأ عملية مصارعة . يحسمها اثنين من الاطباء السوريين الذين يتدخلا لصالح البريطاني و يقوما بالأمساك بالبطل عبد الفضيل الماظ . و هنا يتدخل البطل الجندي الغير معروف كودي . و كودي هذا اسم نوباوي مائة في المائة . و يقتل كودي البريطاني و الطبيبين الشاميين . و يتحصل عبد اللطيف على الذخيرة . و تستمر المعركة . و يموت كل من يحاول الاقتراب من المستشفى . و اخيراً يضطر الانجليز لهدم المستشفى على رأس الابطال عبد الفضيل و الجندي كودي . و في الصباح يجد الانجليز جثمان البطل عبد الفضيل . و البطل كودي كان مصاباً و لكن كان لا يزال فيه عرق ينبض . و هنا تنتهي سيرة البطل كودي . و لا نعرف هل تعالج و أعدم مع الآخرين ام انه قضى نحبه . فمن يهتم ؟ و لم يعرف اي انسان من أي جبل اتى كودي؟ و من هو والده و اخوتة ؟ . بالرغم من انه دفع حياته للسودان .
بعد نفاذ الذخيرة و التأكد من الخيانة المصرية تراجع السودانييون . و تركوا احد الجنود عند المقرن . و هذا ما عرف بعسكري الماسورة . و النوبة كانوا رائعيين في اصابة الهدف . و قام عسكري الماسورة بأصطياد البريطانيين من داخل ماسورة تصريف مياه الامطار . فأوعز الانجليز لبعض الجنود التعايشة بأن الثوار يريدون ارجاع التركية . فقاموا بأشعال النيران من جانبي الماسورة و مات عسكري الماسورة بالأختناق و بالأيادي السودانية .
ترك المنسحبون الى امدرمان اثنين في الجزيرة التي تحت اقدام الكبري الآن . و تمركز احدهم في وسط الجزيرة . و تصادف مرور الباخرة التي أرجعت الجنود البريطانيين و و كانت في طريقها الى الدويم . و من الباخرة قتلوا السوداني المتمركز في وسط الجزيرة لتغطية انسحاب البقية , مخاطراً بحياته . و نزل تسعة من الجنود البريطانيون لحمل جثة الجندي السوداني و استعادة سلاحه . و لكنهم لم يعودوا لانه كان هنالك سوداني اخر و ما عرف بعسكري العشرة , فقلد اصطاد التسعة و اذكر انني قلت في قصيدة : ( يا عسكري العشرة براك بأبعشرة جدعتهم عشرة ) و اب عشرة طبعاً هي البندقية التي كان كانت معروفة وقتها . و لكني ارجح ان الجندي كان يحمل ماكسيم و إلا لما استطاع ان يصطاد تسعة من الجنود . و المكسيم كان سلاح الظباط . و كنت اسمع في امدرمان بان ما قتلهم هو الكابتن قسم السيد خلف الله والد الظابط خلف الله قسم السيد و الاخوة عبد الرحمن و علي و محمود و حليم و أحمد . و لم تثبت إدانته , إلا انه طرد من الخدمة . و أجبر مع آخرين على مشاهدة شنق زملائه . و هذا البطل عمنا قسم السيد خلف الله هو الذي تبرع بمنزله الفاخر في أكبر شارع في السودان , شارع الموردة , ليكون نادياً للظباط السودانيين . و لقد ارتحل الى منزل من الجالوص في فريق السروجية بالقرب من قبة الشيخ البدوي بالعباسية . و من يعرف الآن العم قسم السيد ؟ . و أبنه خلف الله قسم السيد كان من أول الظباط الذين طردتهم المخابرات المصرية من الخدمة عندما استلم نميري السلطة . و لقد قال السادات بأن الروس قد طلبوا منه التدخل لأنقاذ عبد الخالق إلا انه طلب من نميري ان يقضي عليه . و عبد الخالق قد سماه والده على الصاغول المصري و مأمور امدرمان . و التي كانت جنازته في امدرمان الشرارة التي اشعلت انتفاضة 1924 .
المصريون كان يشتكون كل الوقت بأن الانجليز كانوا يعاملونهم بأحتقار , و عدم احترام . و كان القائد المصري يقول لهم أن السبب هو أن الجندي أو الظابط السوداني لا يتقبل الأهانة . و كما ورد في كتاب دفع الافتراء للأستاذ محمد عبد الرحيم , فلقد استشهد أحمد بك القائد المصري بأن المفتش الانجليزي قد اطلق النار على بغل كان يأكل في جنينته , و هذا في كادقلي . فأتت المفتش الانجليزي رسالة من الظابط السوداني , بأن البغل يساوي 12 جنيهاً سودانياً و هذه ثروة وقتها , و اذا لم يدفع الانجليزي المبلغ الى نهاية اليوم , فسيلحق بالبغل . و اضطر البريطاني على دفع المبلغ صاغراً . و مبلغ 12 جنيهاً كان مبلغاً كبيراً . و لا بد أن الانجليزي قد استدانه أو تحصل عليه بصعوبة . هذا الظابط هو حسن فضل المولى الذي كان أحد الاربعة الذين حكم عليهم بالأعدام لقتلهم الانجليز في حوادث 1924 . و هؤلاء الابطال هم ثابت عبد الرحيم , حسن فضل المولى , سليمان محمد , و علي البنا . و استبدل حكم الاعدام على علي البنا الى السجن . و مشى الآخرون بثبات نحو الأعدام , و لقد اشاد بشجاعتهم الانجليز . و هؤلاء كانوا يحملون دماء من يتعرضون الى القتل و التقتيل الآن . لأنهم ليسوا من ابناء الوسط .
في الستينات كانت مجموعتنا في الموردة تتكون من شقيقي الشنقيطي و حسن اميقو و عبد المنعم عبد الله حسن عقباوي و عثمان ناصر بلال و تؤام الروح بله . كانت الزعامة الى من هم أكبر منا سناً الجاك الماظ و حسن مسار رحمة الله على من ذهب . و الجاك الماظ كان لاعب كرة في فريق الموردة قديماً و هو عم لاعب فريق الموردة السني الماظ الذي لعب كذلك في الموردة عندما كانت الموردة ( بتلعب ) . و السني و شقيقه عبد الرحمن يشاركونا السكن في كوبنهاجن .
و يبقى عبد الفضيل الماظ اعظم الابطال السودانيين , و الآن يهاجم اهله و اهل البطل كودي الذي كذلك حارب الى آخر رمق . بالنسبة لجيلنا و كما تعلمنا في امدرمان , فهؤلاء أهلنا و ابطالنا و قدوتنا و لم يكن هنالك تفرقة بين الناس . و الآن في الانقاذ يجرم الناس أو يكرموا بسبب شكلهم و سحنتهم . و سيظل عبد الفضيل الماظ و الذي يحمل دماء المورو أعظم ابطال السودان . و التحية لأسرة الماظ .
التحية ع. س. شوقي بدري
Shawgi Badri [shawgibadri@hotmail.com]