أَبْيَض ومُحُمَّد في بلاد السُّلْطَان سِنْ- أبْ لِحَايّة، قصصٌ مِنْ التُّراثْ السُّودانَي-الحَلَقَةُ الرَابِعَة والعُشْرُون، جَمْعُ وإِعدَادُ عَادِل سِيد أَحمَد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت زوجتا السُّلْطَان عقيمتين، لا تنجبان...
ومرت سنواتٌ عديدةٌ على هذا الحال، إلى أن مرَّ رجلٌ مَغْرَبِي بالبلاد، وعلم بأمر زوجتيه، فأعطاه (حبة دواء)، وأوصاه أن يقسمها بين زوجتيه، فنفذ السلطان أمر المغربي، فأعطى كلٍ منهما نصف حبة، وتناولت الزوجتان الشريرة، والحنونة الدواء، بالتساوي.
وبعد مُرورِ أقل من عام، أنجبت المرأتان، كل واحدةٍ ولداً من السُّلْطَان.
أما الشريرة، فقد أسمت ولدها أَبْيَض، أمّا الحنونة فقد إختارت لولدها أسم (مُحُمَّد).
وشبَّ الأخوان، أَبْيَض ومُحُمَّد، منذ طفولتهما الباكرة، صديقين عزيزين، ومتلازمين لا يفترقان أبداً، وكان ذلك نقيض، وعلي عكس هوى ورغبة زوجة السُّلْطَان الشريرة (أم أَبْيَض)، والتي أعيتها الحيلة وفشلت جميع محاولاتها للتفريق بين الأخوين، مُحُمَّد الحاذق الذكي (النجيض)، وابنها الذي كانت فيه الكثير من السذاجة والمسكنة (النَي)، واستعانت (أم أَبْيَض) بامرأةٍ عجوزٍ، حكيمةٍ، علها تستطيع أن تساعدها في التفريق بين الأخوين، الصديقين.
ووافقت العَجُوُز، وبحثت عنهما، فوجدتهما يلعبان، فنادت علي أَبْيَض:
- تعال، فلدي لك... سرٌ خطير!
فقال لها مُحُمَّد:
- لا أسرار بيني وبين أخي أَبْيَض، وسيخبرني بما تقولين له، وبالتفصيل، فلا تتعبي نفسك في مالا طائلَ من ورائهِ.
فاستنكرتِ العَجُوُز ذلك عليه، وتحدتهُ، وحلفت له قائلةً:
- إنَّ أَبْيَضاً لن يُخبركَ بما سأقوله له، إن انطبقت السماءُ على الأرض! وسأقطعُ شطري، إن هُو فعل.
ولما جاءها أَبْيَض همست له، ووشوشت في أذنه:
- وش! وش...
ولما عاد أَبْيَض لأخيه مُحُمَّدٍ، سأله الأخير:
- ماذا قالت لك المرأةُ العَجُوُز؟
فرد عليه أَبْيَض:
- قالت لي: (وش... وش!).
ولم يصدقه مُحُمَّدٌ، وظن أنه يخفي عنه السر الكبير الذي إئتمنته عليه المرأةُ العجوز، ولم يحتمل تكتم أخيه، وصديق عمره، علي ذلك السر: فتخاصما، وتوطدت بينهما قطيعة دامت لسنوات.
وفي أحد الأيّام، بينما كان (أَبْيَضٌ) يسبحُ في مياهِ النَّهْر، إذا بمركبٍ، فخمةٍ، مُزركشةٍ، تحملُ فتاةً فاتنة وفي غايةِ الجَّمَال، تمر به.
ولمّا صارت المركب قبالته، لمحته الفتاةُ، ففكّت ضفائرها، وأخرجت إبرةً من شعرها، ونقرت بها على سِنِّها، والمركب يتهادى فوق النهر دون أن يتوقف، ثُمَّ أعادت الإبرة إلى شعر رأسها، وهي تبتسم، فجنّ جُنُونُ (أَبْيَض)، وأدرك إن هذه الإشارات إنما هي رسالة له، ولكنه لم يدرك كُنهها، ولم يفقه فحواها، ولم يفهم معناها، وهنا، بانت الحاجة (لمُحُمَّد)، أخيه وصديقه، وآنت حَوْبته، فتذكره (أَبْيَضٌ) على الفور، موقناً ألا أحد بمقدوره مساعدته، وفكُّ شفرة حسناء المركب، إلا هو!
وذهب إليه، وبادره بالإعتذارِ أولاً، وصرح له بأنه نادمٌ على القطيعة بينهما، وأنه أتى بغرض الصلح، فقبل مُحُمَّدٌ الاعتذار.
وبعد الصلح، فاتَح (أَبْيَضٌ) أخاه في أمر حسناء المركب... وبعد الإستماع بإنتباه لما يقوله أبيض، فسر له مُحُمَّدٌ الرسالة، وقال له:
- لقد قالت لك الفتاة: (أنا إبنةُ السُّلْطَان سِنْ، وبلادي في المكان الذي يدُق فيه الحلبُ الإبَار).
فأعلن أبيضٌ لأخيه محمد عن نيته في الذهاب إلى تلك البلاد، ووافقه محمد، فأعدا عُدتهما للسفر إلى بلاد (السُّلْطَان سن)، تلبيةً لرغبة أَبْيَض، الذي سكنه الوجدُ، وتملكه الشوقُ، وذاب هُياماً بحسناء المركب.
وفي الصباح الباكر، ركب أبيضٌ ومحمد المركب السُّلْطَانية، وانطلقا بها، بطول النهر ، بحثًا عن بلاد السُّلْطَان سن.
وتكلل بحثهما بالنجاح، ووصلا إلى بلاد السُّلْطَان سن، ووجدا (شجرة طُندب ظليلة)، فنزلا من المركب واستراحا تحتها، واستظلا بها.
ثُمَّ قطع مُحُمَّد عوداً من الطُّنْدُبة، وانطلقا نحو قصر (السُّلْطَان سن).
وهناك، وجدا خادم بنت السلطان سن، فأعطياه عود الطُّنْدُب وجلسا جوار القصر، ينتظران.
وبعد فترة، عاد الخادم إليهما، ومعه سخلة ، فسأله مُحُمَّدٌ:
- ماذا فعلت الأميرة، وماذا قالت بنت السُّلْطَان سن، عندما استلمت عود الطُّنْدُب؟
فقال الخادم:
- هي لم تقُل شيئاً، ولكنها أمسكت حجراً، وعصرت به نهدها، ثُمَّ أعطتني هذه السَّخَلَة.
فقال مُحُمَّدٌ لأَبْيَضٍ:
- إنها تقول لك: ( قابلني تحت شجرةِ الطُّنْدُب، في المغارب، وقت حليب الماعز!).
وذهب أبيضلإ إلى شجرة الطندب، وجلس تحتها ينتظر قدوم الأمير بنت السلطان سن، ولمَّا أتت، وتعارفا، بادلته مشاعر الود، والحب في الحال.
وأرسلت خادمها ليجلب لها (فِركتها ) ليناما تحتها هي وأَبْيَض، حتى شق الصباح.
ولكن، قبيل الفجر، مر بهما أحد المصلين في طريقه إلى المسجد، فوجدهما وهما متلبسين بممارسة الحب، فما كان منه إلا أن قيدهما بسلاسلٍ كان يحملها معه، وذهب إلى صلاته.
وسألت الأميرة بنت السُّلْطَان سِنْ أَبْيَضاً
- ماذا سنفعلُ، الآن؟ وكيف سنخرج من هذه الورطة؟
فأجابها:
- لا أدري ما العمل.
فقالت له:
- ومن كان يُفسِّر رسائلي إذن؟ أذا كنت أنت لا تستطيع الخروج من ورطةٍ، بسيطةٍ، كهذه؟
فحكى لها أبيضٌ عن أخيه وصديقه مُحُمَّد، وتفسيره لرسائلها، وأفهامه محتواها، فسألته بتشوق:
- وأين مُحُمَّد الآن؟
- ينتظرني خلف الجبل!
فنادت الأميرة على خادمها، الذي كان قريباً من مرقدهما تحت شجرة الطندب، وأمرته بأن يذهب خلف الجبل، وقالت له:
- عندما تصل إلى هُناك، صح بأعلى صوتك: (يا زارع! زرعك حِرِقْ...).
وهكذا، وصلت الرسالةُ إلي مُحُمَّدٍ، عبر صوتِ الخادم، وعبرت أذنيه إلى ذهنه، وفهم المقصود، وعرف ما حَاقَ بأَبْيَضٍ وحبيبته الأميرة (بنت السُّلْطَان سن)، فأسرع إلى شجرةِ الطُّنْدُب، وفك السلاسل التي كانت تقيد العشيقين، وجرت الأميرة نحو القصر، ولما وصلته دخلت إلى غرفتها كأن شيئاً لم يكُن.
أما مُحُمَّد، فقد قيَّد نفسَه بنفس السلاسل، مع أخيه أَبْيَض، ثُمَّ تغطى الأخَوَان بالفركة، واستغرقا في نومٍ عميق.
في تلك الأثناء، كان الرَّجُل الذي قيد الأميرة (بنت السُّلْطَان سن) إلى أَبْيَض بالسلاسل، قد أنهى صلاته.
وهرعَ إلي قصر السُّلْطَان سن، وهو يجأر بالفضيحة، التي حاقت بسلطانِ البلاد.
واستمع السلطان إلى روايته، وذهب ومعه الجنود إلى شجرة الطُّنْدُب... فوجدوا مُحُمَّد وأخيه أبيض مقيدين، ولا أثر للأميرة، واشتكى محمدٌ للسلطان وهو مقيدٌ تحت الطندبة:
- نحنُ ضيوفكم، فكيف تسمح لنا بأن نُهان في بلادك، وتُسآء ضيافتنا؟
فغضب السُّلْطَانُ غضباً شديداً، واعتذر لأبيض وأخيه محمد عما جرى لهما، وأمر بقطع رأس الشاكي، فقُطع رأسُهُ في الحال.
amsidahmed@outlook.com