إبراهيم دقش: حين طلب منه هاشم العطا العفو والعافية

 


 

 

 

لم تتقاطع طرقي مع المرحوم إبراهيم دقش. ولكنه عرض علي ّخلال بحثي عن التطهير ومراكز النفوذ في نظام 25 مايو. فقد كان المرحوم ضحية ذلك التطهير وملاحقات أخرى كتب بقوة عن معاناته منها في كتابه "في حكاياتنا مايو".
تم فصل دقش من هيئة توفير المياه والتنمية الريفية مع آخرين في ملابسات ضغط "ثوري" في أشهر الانقلاب الأولى. وتشتم رائحة شيوعيين ونقابيين من وراء هذا الضغط للتطهير. ولم ترد في القصة أسماء الناهضين بالتطهير ولا ولاءاتهم. ولكن دقش اهتم بذكر فساد بعض من طالبوا به مما يصعب تصنيفهم بين شيوعيّ ذلك العهد بسهولة. ولكن الواضح في القصة أن من سعت النقابات في الهيئة لتطهيرهم كانوا منتدبين من وزارات أخرى واستثقلهم أهل الدار. ولم يفصلوا مع ذلك بل أعيدوا لتلك الوزارات. ثم انتهى الأمر بإرجاع الوزير عثمان أبو القاسم لهم لاحقاً للهيئة ما عدا دقش الذي تحول إلى وزارته القديمة: التربية والتعليم.
وبعودة دقش للوزارة سعى الدكتور محي الدين صابر، وزير التربية والتعليم، ليبعث به إلى لندن مساعداً للملحق الثقافي لسابق مودته له بصحيفة "الزمان" التي كان يصدرها الأستاذ عبد العزيز حسن في آخر الخمسينات. وكانت دارها بطرف السوق العربي على جهة كلية الطب. وعاد محي الدين يراجع القرار لأن نقابات المعلمين قد لا ترضى. فذهب دقش إلى قادة اتحاد المعلمين اليساريين وهم الأساتذة عبد الله علي عبد الله، نقيب المعلمين، ومكاوي خوجلي، سكرتير الاتحاد، فقالا له إنه لا اعتراض لهما على شخصه أو قرار الوزير. بل ذهب النقيب عبد الله بنفسه للوزير بحسب طلب دقش وبارك الخطوة. ولما طلب الوزير من دقش في يوم آخر أن يأتيه بموافقة مكتوبة ذهب لثلاثة أيام طوال يبحث عن ضابطي اتحاد المعلمين بدار الاتحاد بمدرسة الخرطوم شرق فلم يجدهما. وأشفق عليه صالح خليل سكرتير العلاقات الخارجية بالاتحاد. ووصف دقش المشهد كما يلي:
وقلت لصالح ما عندي بوضوح. والرجل يعرفني حقاً. فعبر لي عن أسفه أن أتردد على مقر اتحاد المعلمين لثلاثة أيام دون نتيجة. وأخيراً ضاق هو مثلي فيما يبدو فطلب مني أن أقص عليه الرواية. وقد فعلت فأنفعل قائلاً: "أصدقك. فمادام الرجلان (ويعني النقيب والسكرتير) قالا ما قالاه أمام الوزير وحضورك فنحن لا نعرف التعامل بلسانيين أو وجهين. فتدخلت هنا وقلت له: حماية لك كسكرتير للعلاقات الخارجية في اتحاد المعلمين أنا على استعداد لرد مكتوبكم للوزير متى أنكر الطرفان المعنيان (أي النقيب والسكرتير) ما قالاه. وقَبِل هو ذلك كوعد شرف. ومن ثم كتب أمامي ما طلبه الوزير صادراً من اتحاد المعلمين. وأفهمني أنه سيتحمل تبعات المواجهة والمحاسبة إذا دعا الحال. ومن ثم كتب لي ما طلبه الوزير. وأكبرت في الرجل حميميته ووعدته بأنه متى ما ثبت له عكس ما أفدته به فأنا متنازل عما طلبت. وأخذ الرجل كلمتي في وقت ندر فيه الصفاء والوفاء."
واجتاز دقش عتبة الرفاق الشيوعيين في اتحاد المعلمين ولسانه كما رأينا يلهج بمروءتهم. ولكن جاءته الطامة من بابكر عوض الله نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ووزير الخارجية. فبينما كان دقش يمني نفسه الأماني بعودة إلى لندن، التي عرفها مبعوثاً، طاشت بأحلامه برقية من بابكر تقول له إنه لا يشرف ثورة مايو أن يكون لها وجهاً في الخارج. وتلتها برقية أخرى من وزارة التربية تقول إنها قد جمدت وظيفة لندن لأجل غير مسمى لعدم الاعتماد المالي.
ومضى دقش يفتش عن سبب غضبة بابكر عليه. فوجد أن محي الدين صابر قد زار بابكر في شأنه. ففتح الأخير درجاً أيمناً وأخرج له ملف دقش "الأسود". وكان فيه قصاصات من صحف. في الأولى مناظرة بين دقش والحاج عبد الرحمن، نائب سكرتير اتحاد العمال، حول إضراب لعمال هيئة توفير المياه. وحوى بياناً وضح فيه دقش، السكرتير الإعلامي بالهيئة، الموقف الرسمي من الإضراب. أما القصاصة الأخرى فقد حوت مقالة لدقش (جريدة الناس 1965) انتقد فيها تعليقاً سلبياً لبابكر عن ثورة أكتوبر. وكان من رأي دقش أنه لا تحق لبابكر تلك السلبية لأنه كان أول من رشحه الناس ليكون رئيساً لوزراء حكومة الثورة فرفض. وأخرج بابكر مقالة أخرى (جريدة السودان الجديد 1968) قسا فيها دقش على بابكر الذي كان يزمع ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية في 1968 ضد الزعيم الأزهري والإمام الهادي. وتعجب دقش لحرص بابكر على هذه القصاصات. وسأل عثمان حسن أحمد الكد، المعروف بالصبر على جمع الوثائق، عمن عساه جاء بهذه القصاصات. فقال عثمان إن فاروق أبو عيسى، وزير شئون الرئاسة، اتصل فيه وطلب منه توفير هذه المقالات ففعل.
وبقية القصة طريفة جداً. حكى دقش فيها عن مجريات مسألته مع بابكر وتداولها في مجلس الثورة والوزراء وفي ما بينهما. وأترك للقارئ أن يطلبها حيث هي في كتاب دقش. واستوقفني مع ذلك منها لقاء لدقش مع المرحوم هاشم العطا عضو مجلس انقلاب النميري وزعيم انقلاب 19 يوليو القتيل. وكان اللقاء بعد خلع هاشم من مجلس قيادة الثورة في نوفمبر 1970. وقال دقش إن هاشم، وكان يقود سيارته، أوقفه عند حديقة الموردة. ولدهشته طلب منه هاشم العفو والعافية لأنه أخطأ التقدير وصدَّق مطاعن بابكر فيه حين عرضوا المسألة على مجلس الثورة. وقال دقش: " أذكر كلماته التي كانت تخرج من بين أسنانه: "لو حسمنا قصتك معه لما كنا خارج اللعبة الآن."
قصوا أحزن قصص التطهير وستحرركم من الباطل وتورثكم الحق والسداد. ورحم الله إبراهيم دقش.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء