إثيوبيا واستراتيجية الأسلحة الكهرومائية

عاد سد النهضة الذي أكملت إثيوبيا إنشاءه وملأه هذا العام، إلى الواجهة، بعد أن تسببت مياهه في فيضانات مدمرة، وفي تغيير بيئي ومناخي أثر على دولتي المصب، السودان ومصر. ولأن السد نفسه كان مثار جدل بين ما يعرف بدول حوض النيل، ولم يتوقف عند حدود الآثار البيئية والفنية وطاقته الإنتاجية الكهرومائية بإنتاج ستة آلاف كيلوواط، وحق إثيوبيا ومزاعمها التاريخية في الاستفادة من المياه المخزنة من وراء بحيرة السد بسعتها التخزينية الهائلة؛ إلا أن المخاوف الاستراتيجية والسياسية، التي أبدتها الدول المتأثرة من إنشائه وطريقة تشغيله تصاعدت، فالمجال الحيوي لهذا الشريان تتقاسمه جغرافيا إحدى عشرة، دولة لديها دوافعها واهتماماتها وبالطبع مخاوفها، ولأن بقيام السد أصبحت إثيوبيا تتحكم في السياسات المائية، فيضانا وجفافا على مجرى النيل الأزرق.
ويدخل السد في جدل قانوني وسياسي واستراتيجي بين ثلاث دول، دون التوصل إلى اتفاق بينها لتضارب التفسيرات حول موقف كل دولة من التهديدات المحتملة، والآثار المدمرة التي تتخوف منها مصر والسودان، مصر باعتبارها المستفيد الأكبر من النيل، وحقوقها في حصص المياه، التي نصت عليها اتفاقيات تاريخية منذ الحقبة الاستعمارية، وكذلك السودان.
ومنذ الإعلان عن بناء السد، بدا أن السياسات المصرية، فوجئت بأن السد الإثيوبي يهدد النيل، في ما يتعلق بالسكان والزراعة والجفاف، وغيرها من مهددات وجودية ترتبط بالمجرى المائي باعتباره شريان الحياة الذي يغطي ما نسبته 90% من احتياجاتها المائية. وفي ظل التوترات الجيوسياسية في هذا الجزء من القارة الافريقية، فإن الخيارات المتاحة أمام صانع القرار المصري والسوداني، لم تعد بمثل فاعليتها قبل قيام السد، فقد أصبح السد حقيقة فيزيائية ملموسة ورمزية سيادية ومحورا قابلا للاستخدام السياسي، بل سلاحا قابلا للاستخدام على طريقة شركة غاز بروم الروسية، على خط امداد الغاز نورد ستريم بين روسيا وأوروبا. وما أطلقت عليه الحكومة المصرية من وصف لحالة الفيضان الأخيرة بالـ»الفيضان الصناعي»، تعبير يحمل نوايا سياسية، تقترب من الفعل العدواني، خاصة أن مصر ومعها السودان يعتبران أن ملء السد، تم دون اتفاق وتنسيق معهما، حسب التزامات يفرضها القانون الدولي، فيما يخص تقاسم المياه، ولكن يبدو أن الأمور خرجت من الحجاج القانوني، إلى المناورات السياسية، ما يكلف الكثير على صعيد التفاهمات أو التنازلات، وقد صعدت مصر لهجتها في بيان خارجيتها إلى مجلس الأمن الدولي، معتبرة أن التصرف الأحادي يشكل أزمة وجودية تمس حياة أكثر من مئة مليون مواطن مصري وسوداني.
ولعل الخطر الداهم الذي واجه السودان بسبب فيضانات، غمرت أجزاء واسعة من أراضيه في ظل ما يشهده من حرب وغياب شبه تام للدولة، ما يجعل درء الكوارث الناتجة عنها صعب التنفيذ، فالانهيارات التي أحدثتها الفيضانات بفعل فتح بوابات السد الإثيوبي من تجريف وإغراق للأراضي السودانية لا تقارن بحجم قوة مصر واستعدادها للمواجهة بما تمتلكه من المقدرات والإنشاءات القادرة على استيعاب والتعامل مع هذه الكارثة البيئية غير المسبوقة. ورغم أن العديد من الخبراء السودانيين، أكدوا فوائد سيجنيها السودان من قيام السد، كوقف للفيضانات المدمرة وتوليد الكهرباء وزيادة حصته من المياه بموجب اتفاقية 1959 وغيرها، مما يمكن أن يفيد السودان، إلا أن إدارة الموارد، هي جزء من إمكانيات الدولة واستقرارها لذا ستظل الأراضي السودانية، إما مفتوحة أمام مياه السد، أو وفقا لما تحدده دولة السد المنبع أو المصب شمالا إلى مصر.
وبهذا المشروع الهائل الذي اعتبرته مشروع القرن، تكون إثيوبيا الدولة المغلقة دون حدود ساحلية، قد تفكر في إعادة استراتيجيتها الجغرافية والمائية، بما فيها مد نفوذها إلى البحر الأحمر في ميناء عصب الإرتيري، كما جاء في تصريحات رئيس وزرائها آبي أحمد وقادتها العسكريين. وهذه الدوافع تتداخل مع خلفية تاريخية امبراطورية ستشعل منطقة القرن الافريقي، وتعيد نزاع الحدود وصراعات المنطقة المتخمة بالصراعات الإثنية داخل إثيوبيا نفسها، ما يجعل إمكانية الاستفادة من مخرجات السد والمحافظة على استدامته مستحيلا. فالمشروع الذي دشنته إثيوبيا كمشروع وطني، له أبعاده التنموية داخليا، ومن المرجح أن تمتد تأثيراته في سياساتها الخارجية مع دول حوض النيل، خاصة مصر، الدولة الأبرز في محور صراع المياه في تطوراتها المرتقبة، التي لن تنتهي عند حدود التفاوض الدبلوماسي والمعاهدات الدولية. ثمة مؤشرات لا يمكن تجاهلها في علاقة الكيان الصهيوني بمشروع سد النهضة في منطقة القرن الافريقي، بكل ما تمثله من ثقل استراتيجي، وبعد دولي حول ما راج عن إمكانية إسرائيل من تطويق مصر من خارج حدودها، بالتحكم في أهم مواردها الطبيعية. وتتمدد علاقات إسرائيل بدول المنطقة في مجالات تعاونية عدة، وتعاونت مع إثيوبيا في مجالات السدود والدعم الدولي والمالي، وتتداخل مطامح إسرائيل في استخدام السد مع أساطيرها التوراتية في تحقيق حلم إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل، إلى الضغط على مصر والاستفادة المباشرة من مياه النيل. فالوجود الإسرائيلي في إقليم دول السد يتعدى المستوى الدبلوماسي إلى الوجود الاستراتيجي المكثف، وفق سياسات بعيدة المدى تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي.
والآثار الطبيعية المترتبة عن جفاف وفيضانات، قد برزت إلى حيز الوجود بما يجعل من وجود السد عنصرا يدخل في سياسات توازن القوة باستخدام مصادر جديدة، ربما تفوق القوة العسكرية، بما يفرض على الخريطة الجيوسياسية احتمال صراعات تمس قضايا لها ارتباطاتها الدولية والقارية في نطاق إقليمي. وستزداد التداعيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين دول المنبع والمصب، بما يرشحها لتصاعد لا يمكن تداركه في غياب تنسيق تفاوضي ينتهي باتفاق ملزم قانونا لكل الأطراف. فهل يكون السد الذي أعلن عن أهدافه الاقتصادية، سلاحا بيد الدولة الإثيوبية تستخدمه متى تشاء ضد جيرانها؟ فالسد الذي يحمل مخاطر تتعلق ببنيته الإنشائية وما يحيط به من عيوب فنية، أبدى الخبراء قلقهم بشأنها فإن إثيوبيا تمضي بحماس شوفيني وهي تستعد إلى الاحتفال بما اعتبرته إنجازا لمشروع قاري تاريخي وربطه بشعارات وطنية كرسالة إلى الداخل الإثيوبي.
وأمام هذه السيناريو في صراع المياه، فقد وضعت دولتا المصب مصر والسودان أمام اختبار وتحد جديدين بوجود خريطة مائية مستجدة، تتعلق بصراع وجودهما ومصالحهما العليا بما يستدعيه النزاع من موقف لا يمكن أن تظل فيه أي دولة في دور الحياد، دون تدخل بقدر تضررها من الواقع الجديد، الذي فرضه سد مائي يتم التحكم فيه من خارج حدودهما. وإذا لم تتسع رؤية الأمن القومي خارج نطاق حماية النظم إلى حماية الدولة في وجودها، فلا شك أن الحقائق الجديدة ستفاجأ بأكثر مما فاجأت النتائج، وذلك بتجاهل المهددات المنصوبة بعيدا عن الحدود. فما الذي يمنع إثيوبيا من تحويل بوابات السد المائية إلى مدافع بعيدة المدى توصل بها سياساتها وسياسات غيرها من القوة التي تتنافس على النفوذ في سياق الصراع الوجودي بين دول المنبع والمصب. فالصراع المقبل يضاف إلى نزاع المياه على خريطة العالم العربي كما هو الحال في نهر الفرات بين تركيا وسوريا والعراق، ونهر الأردن، رغم الاختلافات الأيكولوجية بينها وبين نهر النيل. فالنمو المطرد لكل من مصر وإثيوبيا في زيادة السكان، والبحث الدائم عن موارد متجددة من المياه والطاقة، وحسب تصور الصراع القائم بينهما، قد يحمل من المفاجآت أكثر مما يمكن أن تشير إليه التنبؤات الحالية، مقروءة مع السياسات المتبعة حاليا من الطرفين للتوصل إلى تفاهم يجنب المخاطر البيئية والسياسية، مما يخفف من حدة المواجهة التي تؤدي في نهاية المطاف إلى صدام يصعب تداركه.
نشر بالقدس العربي اللندنية# 07 أكتوبر 2025م

nassyid@gmail.com

عن ناصر السيد النور

ناصر السيد النور

شاهد أيضاً

الأمم المتحدة… الأزمات والخطابات

ما يجري في قاعة الأمم المتحدة في الدورة الثمانين للجمعية العمومية المنعقدة في مقرها الدائم …