بعد عقدين من الحرق والاغتصاب والقتل والتهجير، يعود صوت المقهورين من أعماق المخيمات. الجراح التي سالت في دارفور لن تمر مرور الكرام؛ يوم القصاص قد بدأ.
اليوم، في لاهاي، حيث يلتقي التاريخ بضمير الإنسانية، تسمع دارفور أخيراً صوت العدالة. دوّت الكلمة التي انتظرها الضحايا طويلاً: الإدانة. فقد دانت المحكمة الجنائية الدولية علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بـ(علي كوشيب)، في 21 تهمة من أصل 31 تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ليصبح أول من يسقط من رموز الإبادة التي طبعت عهد الطاغية عمر البشير بدماء الأبرياء.
كوشيب، قائد ميليشيا الجنجويد وذراع النظام في وادي الموت، لم يرتجف وهو يسمع القاضية جوانا كورنر تتلو الأحكام. بقي صامتاً، وكان صمته اعترافاً آخر: التاريخ حين يتكلم، لا يترك للجلادين سوى وجوههم العارية أمام العدالة. وها هي العدالة، وإن تأخرت، لا تعرف النسيان.
بعد عشرين عاماً من التواطؤ والصمت، تعود المحكمة لتكتب باسم الضحايا ما حاول الطغاة شطبه من الذاكرة: أنّ الفظائع لم تكن فوضى حرب، بل خطة حكومية مُحكمة للإبادة، جرى فيها تسليح القبائل وتحويل الجنجويد إلى آلة قتل جماعي.
لم يكن كوشيب مجرد جلاد محلي، بل تجسيداً لعقل السلطة التي أنجبته، ووجه النظام الذي حوّل السودان إلى مسرح دم. أحرقت القرى، اغتصبت النساء، وطُورد الأطفال، كل ذلك بإشراف منظومة جعلت من الدم وسيلة للحكم، ومن الرعب لغة للبقاء.
من وادي صالح إلى نيالا، ومن رهيد البردي إلى معسكرات اللجوء، يعرف الناس أنّ هذا الحكم ليس سوى بداية الطريق. المأساة كانت أوسع من كوشيب وحده، مؤامرة على وطن بأكمله، على نسيجه، على إنسانه. الإدانة ليست نهاية، بل بداية سلسلة المحاسبة التي طال انتظارها.
العدالة لا تُعيد الموتى، لكنها تُعيد للضحايا كرامتهم المسلوبة. أرواح هؤلاء الضحايا لا تطلب الدم، بل تطلب أن يُروى تاريخها كما كان: عذاباً هائلاً، وصمتاً مريباً، ثم بروزاً خافتاً نحو النور.
واليوم، إذ تفتح المحكمة الجراح، فإنها تضع الملح على كذب الكيزان وألاعيبهم، التي حاولت أن تُلصق الجرائم بغير الجناة، وتبرئ الجنجويد وتُجرّم الضحايا. وهيهات.
إنها المرة الأولى التي تُدين فيها المحكمة مجرماً في حرب دارفور، لكنها لن تكون الأخيرة. خلف كوشيب، تقف ظلال شركائه: عمر البشير، عبد الرحيم محمد حسين، أحمد هارون، ينتظرون أن يدور الزمان دورته.
ودارفور، تلك الأرض التي عرفت كيف تحيا بعد كل موت، تكتب اليوم فجرها الجديد بحبر من الدموع والكرامة. قد ينسى القاتل أسماء ضحاياه، لكن الأرض لا تنسى من أُحرِقوا فوقها. يوم القصاص قادم، ولو طال المدى.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم