المدير الإقليمي لمشروعات الأمن الغذائي والتغذوي لمنظمة الإيقاد (IGAD)، عضو لجنة خبراء الإتحاد الأفريقي وعضو فريق العمل لإعداد التقرير القاري عن الأداء والتنفيذ للبرنامج الشامل للتنمية الزراعية في أفريقيا (2013-2020)
مقدمة: حاولت في المقالين السابقين أن أسرد خلفية تاريخية لمسار تنفيذ البرنامج الشامل للتنمية الزراعية في السودان، ألحقته بسرد وتحليل لقضية الأرض حتى أتمكن من تجهيز الفضاء لنقاشات تأتي بعده، ثم إيراد العوائق التي حالت وتحول دون تحقيق أهداف وإلتزامات هذا البرنامج، حيث من المعلوم أنه يمثل الوسيلة الفاعلة لتحقيق جهود التحول الزراعي (Agricultural Transformation) والشراكات في أفريقيا، وبه ومن خلاله يهدف إلى دعم أنشطتة ذات الأولوية في القطاع الزراعي التي سينفذها السودان والدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي. وهأنا أضع بقية الإشتراطات كرؤوس مواضيع أحاول التطرق إليها في المقالات القادمة بحول الله، كالتالي: • إشتراطات الإصلاح المؤسسي والهيكلي • إشتراطات الإصلاح للقوانين والصلاحيات ولكني رأيت أن أبدأ اليوم بالإشارة إلى الأهمية القصوى للأحصاء وما لها من دور مُقدم ولا يُعلى عليه فى عملية التنمية بمعناها الواسع، لذلك أفردت لنقاشها هذا القسم. الإحصاء وأداء السودان في التقييمين الأول والثاني: وفي هذا الجزء سنحاول البحث في الدور المفقود لنشاط وعمل جد مهم ولا غنى عنه تجاه تحقيق الأهداف المرجوة للتحول في السودان، اعني بذلك عملية الأحصاء بكل حيثياتها وتقاطعاتها. فمن خلال قراءة وتحليل أداء السودان في التقييم الأول للبرنامج الشامل للتنمية الزراعية للعام 2018 والذي تحصل فيه السودان على درجة 1.90 من الدرجة الكاملة 10.00، من نسبة النجاح المطلوبة 3.94 (Bench-mark)، يتضح بأن أداء السودان كان متواضعآ جدآ في تحقيق أهداف البرنامج الشامل للتنمية الزراعية، للعديد من العوائق والمشاكل التي أقعدته عن تحقيق أهداف خطته الإستثمارية للتنمية الزراعية (Sudan National Agriculture Investment Plan [NAIP])، وكانت أكبر تلك العوائق هي الضعف البائن في دور الإحصاء بمعناها الشامل.
لم يستطع السودان إجتياز حاجز النجاح في سبعة عشر (17) مجموعة من إجمالي الثلاث وعشرون مجموعة (23) بنسبة إخفاق بلغت 74%. ولم يتمكن السودان من الحصول على إحصاءات/بيانات تسعة (9) مجموعات تضم ستة عشر مؤشرآ (16) من جملة ثلاث وأربعون (Indicators)، لعدم توفر الإحصاءات الموثوقة والضرورية لقياس التقدم والإنجاز بناءً على الخطة الإستثمارية للتنمية الزراعية في السودان والسابق ذكرها مقارنة بسنة الأساس( (2015) ، (نسبة إخفاق تقارب 53%). وبالنظر إلي ومقارنة هذه المجموعات والمؤشرات، يظهر وبصورة جلية القصور البائن في جمع وتحليل الإحصاءات والبيانات، حيث تمكن السودان من جمع وتحليل 63% فقط من الإحصاءات المطلوبة مقارنة ب 95.5% لرواندا، 89% يوغندا، 88% كينيا و87% في إثيوبيا، وهي الدول الجارة لنا والواقعة في محيطنا الأقليمي (شرق أفريقيا).
فقد أخفق السودان في توفير الإحصاءات الضرورية عن الآتي: 1. مضاعفة الإنتاج الزراعي (الإنتاج والإنتاجية) 2. جهود تخفيض الفاقد من الإنتاج الزراعي لفترة ما بعد الحصاد 3. تعزيز الحماية الإجتماعية بإدماج التدابير لزيادة الإنتاجية الزراعية من خلال مبادرات الحماية الاجتماعية 4. توفير الإحصاءات عن إستدامة النمو للناتج المحلي للزراعة 5. تأسيس شراكة شاملة بين القطاع العام والخاص لتسريع إقامة برامج سلسلة القيمة 6. خلق فرص للشباب في سلسلة القيمة الزراعية 7. تعزيز مشاركة المرأة في الأعمال الزراعية 8. ضمان القدرة على التكيف مع المخاطر المرتبطة بالمناخ 9. الاستثمار في بناء المرونة لمجابهة دورات الجفاف المتكررة
الحال لم يتبدل في التقييم التالي للعام 2020، فقد أخفق السودان أيضآ في تحقيق درجة النجاح المطلوبة (6.66) وحصوله على (3.33)، ومازال القصور في جمع الإحصاءات هو العامل الأهم في عدم قدرة السودان في تحقيق مطلوبات البرنامج الشامل للتنمية الزراعية.
] للحصول على الإحصاءات أعلاه يمكن الرجوع إلى دراسة: البرنامج الشامل للتنمية الزراعية في أفريقيا ... نحو تنمية زراعية حقيقة وتحول إقتصادي شامل في السودان، بالكتابة الى العنوان البريدي أعلاه. [
السؤال ....... لماذا؟
وهنا لا بد من أن يتبادر إلى الذهن سؤالآ هامآ: أين الجهاز المركزي للإحصاء في السودان (Central Bureau of Statistics)، بل أين الإحصاء الزراعي (Agricultural Statistics)، والإحصاءات القطاعية للتعليم، الصحة، البيئة، الشئون الإجتماعية الخ. وهل تقوم بمهامها المخططة لهما من جمع البيانات والإحصاءات وتحليلها؟ وهل تتمتع مع غيرها من أجهزة الإحصاء قوميآ وولائيآ بالحياد (Neutrality) وبالإستدامة (Sustainability)، وهل يتم توفير الميزانيات الضرورية لها وتأهيل الكادر المدرب، وتوفير مُعينات العمل؟ بالتأكيد لا أستطيع الإجابة على هذا التساؤل، لكن وكما يقولون فالخطاب يُقرأ من عنوانه.
وكمحصلة لما سبق فيمكننا أن نجزم بأن وجود أجسام إحصائية قومية وقطاعية يعتبر من الشروط الضرورية لتنفيذ البرنامج الشامل للتنمية الزراعية في السودان والبرامج اللأخرى، من حيث دعم وتقوية الموجود بالكادر البشري المدرب وتوفير الميزانيات اللازمة لتسيير دولاب العمل اليومى.
الأحصاء ودوره المحوري في عمليات التنمية:
الإحصاء وكما هو معلوم، هو علم رياضيات يشمل جمع البيانات والإحصاءات، وإستخدام المعارف والخبرات الفنية المتعلقة بجمع ومعالجة البيانات والمعلومات وتحليلها وتفسيرها، بالإضافة إلى عرض النتائج المستندة إلى البيانات والإحصاءات من خلال تطبيق أدوات وتقنيات مختلفة بعدها تصبح البيانات الأولية ذات معنى وتولد المعلومات اللازمة لصناع القرار. الإحصاءات مهمة للغاية عندما يتعلق الأمر بإتمام اى بحث أو تقديم دراسة أو أي تقييم كما في حالة جمع الإحصاءات لتقييم البرنامج الشامل للتنمية الزراعية في افريقيا (CAADP-BR) وغيره من البرامج والخطط. فالبيانات هي شريان الحياة لصناع القرار والمواد الخام للمساءلة، فبدون بيانات عالية الجودة توفر المعلومات الصحيحة عن الأشياء الصحيحة وفي الوقت المناسب يصبح تصميم السياسات الفعالة ورصدها وتقييمها أمرًا مستحيلًا تقريبًا. وكثيرا ما تستخدم الأساليب والتحليلات الإحصائية لتوصيل نتائج البحوث وإعطاء مصداقية لتلك النتائج واستنتاجاتها. ولتحقيق ذلك فيجب أن يكون هنالك جسمآ متكامل الأركان من حيث الكادر المؤهل والقادر على وضع الإستبيانات والجداول الضرورية لجمع المعلومات والإحصاءات، وكذلك القادر على تحليل الإحصاءات وعرضها، وفوق هذا وذاك التمويل الكافي والمُستدام لإستمرار عملية الإحصاء، من حيث دعم وتقوية الموجود بالكادر البشري المدرب، وكذلك توفير اللأموال الضرورية للقيام بالمهام الموكلة اليهم في متابعة التنفيذ الدقيق للخطط والبرامج المصاحبة للبرنامج. ومن المعلوم بداهة بأن دور الإحصاءات في التنمية الوطنية أمر بالغ الأهمية، ولا يمكن الإفراط في التأكيد على أهمية وتوفر الإحصاءات الموثوقة في الوقت المناسب بشأن الحياة الاجتماعية والاقتصادية لأي دولة ذات سيادة. إن أهمية الإحصائيات ضرورة ملحة، وإنشاء هيئات إحصائية شرط أساسي للتخطيط والمراقبة والتقييم والمساءلة المتبادلة بشكل أفضل، ويجب أن يكون ذلك شاملآ للإحصاء القومي ولإحصاءات القطاعات مثل الزراعة والصحة والتنمية الاجتماعية والطاقة والري والبنية التحتية وغيرها. وذلك يتضح جليآ في دور الإحصاء من أجل التنمية الاقتصادية والاجتماعية لاي بلد تحدده أربع إشتراطات: 1. أهمية توفير البيانات والإحصاءات الخاصة بوضع السياسات القائمة على الأدلة (ُEvidence based) 2. دور الإحصاءات في التخطيط ورصد التقدم وتقييم أنشطة التنمية (Monitoring and Evalauation) 3. دور الإحصاء من أجل المساءلة (Accountability) 4. أهمية تطوير قاعدة بيانات (Knowledge base) موثوقة وحديثة ويمكن الوصول إليها بكل سهولة ويسر للمهتمين والباحثين. تجربة غانا كأفضل تجربة يمكن الإستفادة منها:
تجربة غانا في الآنتقال من دولة لم تكن من الدول التي آجتازت نسبة النجاح في التقييم الأول (2018)، حيث أنها تحصلت على 3.90 لتنضم إلى الدول التي إجتازت نسبة النجاح في التقييم الثاني (2020)، وتحصلت على 6.67، جديرة بالإهتمام وضرورة التمعن فيها لمعرفة ماهو الشيء المختلف الذي قامت به غانا لتحقيق هذا الإنجاز. حيث عملت غانا جاهده لتصحيح مسارها وبإستخدام كل مواردها للحصول على الإحصاءات الضرورية في عملية التقييم الثاني. لذلك وفي مؤتمر إفتراضي (Virtual) تم إنعقاده في 25 مارس 2020 بتمويل من منظمة إطعام المستقبل الأمريكية (Feed the Future) وبمشاركة الإتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد ممثلة للمنظمات الإقليمية الأخرى في أفريقيا. أفادت السيدة جوزفين كواقريني من وزارة الزراعة - غانا عن الشيء الذي قاموا به وكان مختلفآ في تقييم العام (2020) عن التقييم الأول (2018):
أولآ عاينوا التحديات التي جابهتهم: • هنالك بعض المؤشرات (Indicators) ليست لها إحصاءات متوفرة; • وهنالك بعض المؤشرات يوجد لها إحصاءات لكنها ليست بيانات حالية، بمعنى آخر أنها غير حديثة لإنها تُجمع بطريقة راتبة ودورية، قد يكون عمر بعضها خمسة سنوات أو أكثر; • والتحدي الأخير هو عدم توفر الميزانيات الضرورية لجمع الإحصاءات والمعلومات وتحليلها, وكذلك عدم إشراك أصحاب المصلحة منذ البداية (Stakeholders) بل بعد فوات الآوان (Upon hindsight).
ولتصحيح ذلك كان لا بد من عمل التالي: • تم التعامل مع التقييم للبرنامج الشامل للتنمية الزراعية (CAADP-BR) بكل الجدية والمسؤولية; • تم توفير الميزانية الضرورية لإنجاز مهام هذا البرنامج; • تم توفير الكادر البشري والمعينات (الكادر المؤهل والمدرب، وسائل الحركة، أجهزة الكمبيوتر، الهواتف وشبكة الإنترنت) الضرورية لنجاح هذا العمل; • تم تسمية مجموعة أساسية لقيادة أعمال وإنجاز مهام التقييم الثاني (2018)، والتي بدورها أنشأت لجنة أصحاب المصلحة المتعددين، تشمل منظمات المجتمع المدني، ممثلين للقطاع الخاص، الجامعات والأوساط التعليمية، وزارات ومؤسسات الدولة ذات الصلة; • وقد تم تكليف هذه اللجنة بمسؤولية جمع البيانات وإعداد التقارير.
وفقآ لك ذلك فعليه نقترح الآتي: الحلول المقترحة لدعم الإحصاء في السودان:
بناء وتقوية إدارات الإحصاء على المستويات الوطنية والإقليمية والمحلية وكذلك على المستوى القطاعي، بما فيها إعادة الاعتبار والدور المحوري لجهاز الإحصاء المركزي بالسودان، وإدارة الاقتصاد الزراعي والاحصاء التابعة لوزارة الزراعة؛ إستخدام وتأهيل وتدريب الشباب من الجنسين في وظائف إحصائيين وعداديين وإختصاصي تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لجميع هيئات الإحصاء على المستوى القومي، الإقليمي والقطاعي؛ دعم هيئات الإحصاء بمعدات وأدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات المتقدمة والاتصال بالإنترنت السريع من خلال الألياف الضوئية وغيرها من أحدث وسائل ومعدات التحليل والتواصل اللإلكتروني ولجميع بقاع السودان والعالم؛ تحفيز المستخدمون حديثآ بمرتبات جاذبة ودورات تدريبية مكثفة وقصيرة / طويلة ودراسات عليا.
وأخيرآ: ففي كلمة المدير التنفيذي لبنك التنمية الأفريقي (AfDB) في مؤتمر شركاء السودان والذي عُقد في يونيو الماضي، فقد أوضح بأن البنك (AfDB) سيوفر للسودان مبلغ أربعون مليون دولار للقيام بالتعداد الزراعي (Agriculture Census). جزيل الشكر للسيد المدير التنفيذي لبنك التنمية الفريقي، لكن نظن بأن هذا المبلغ صغير مقارنة بما نقترحة ونرجوه من إحصاءات يجب توفرها ليكون للسودان قاعدة صلبة للمعلومات والإحصاءات تكون هي الأساس المتين لكل الخطط والبرامج المستقبلية للتنمية الإجتماعية والإقتصادية.
ولحسن الحظ فإن العديد من المنظمات والجهات المانحة كبرنامج الغذاء العالمي (WFP)، منظمة الأغذية والزراعة العالمية (FAO)، البنك الدولي (WB)، منظمة الصحة العالمية (WHO)، صندوق الأمم المتحدة الدولي للطوارئ للأطفال (UNICEF)، تبدو راغبة ومستعدة لتقديم الدعم للسودان لتقوية وتحديث قاعدة معلوماته الضرورية لإحداث التنمية المرجوة، كيف لا وأنظار العالم تتجه نحو السودان كأحد أهم الدول والتي بالقطع ستساهم في تحقيق الأمن الغذائي والتغذوي للعالم بحلول النصف الثاني للقرن الحادي والعشرين، وهذا بالضرورة يحتم أن يتم إنجازالتالي في المديين القصير والمتوسط:
الإحصاء السكاني الإحصاء الحيواني والنباتي إحصاءات وبيانات الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة، والمراعي والغابات وغيرها إحصاءات الخدمات المتوفر لسكان الريف والمناطق الطرفية (التعليم، المراكز الصحية، مصادر مياه الشرب، خدمات الصرف الصحي إلخ) إحصاءات الأسر الفقيرة وتعزيز الحماية الإجتماعية وإحتياجاتها إحصاءات الصحة العامة (الهُزال، التقزم، السُمنة، سوء التغذية للأطفال دون سن الخامسة والنساء الحمل والمرضعات) إحصاءات وبيانات عن المناطق المتأثرة بتقلبات المناخ والأخطار البيئة،وبرامج إدماج الشباب فيما يٌعرف ببرامج زراعات المناخ الذكية (Climate Smart Agriculture).