من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
منبر بنيان: مقالات من بطون كتب
أولًا: مدخل إلى الظاهرة
لم يعد الاغتراب في العصر الحديث مجرد رحلة عمل خارج الوطن، بل أصبح منظومة حياةٍ متكاملة تتقاطع فيها الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.
وفي دولٍ عديدة مثل السودان ومصر والفلبين، تحوّل المغتربون إلى دعامات اقتصادية غير رسمية تسند الاقتصاد الوطني عبر تحويلاتهم المنتظمة التي تمثل في بعض الأحيان أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
بهذا المعنى، أصبح ما يمكن تسميته بـ”اقتصاد الإعالة” أحد الاقتصادات الخفية التي تحرك العجلة المعيشية من خارج الحدود.
ثانيًا: تحليل المفهوم
اقتصاد الإعالة (Support Economy) هو منظومة مالية اجتماعية تنشأ حين تعتمد شرائح واسعة من المجتمع على تحويلات نقدية من أقربائهم العاملين في الخارج.
ورغم أنه ليس قطاعًا إنتاجيًا بالمعنى التقليدي، فإنه يسهم في تحقيق الاستقرار الأسري والاجتماعي، ويُعد في كثير من البلدان النامية صمام أمانٍ في وجه التضخم والبطالة والفقر.
تتمثل أهم ملامحه في:
استدامة التدفقات النقدية من الخارج للأسر.
إعادة توزيع الدخل خارج القنوات الرسمية.
مساهمة التحويلات في سداد تكاليف التعليم والصحة والاستهلاك اليومي.
تأثيرها على أنماط الادخار والاستهلاك المحلي.
ثالثًا: التحويلات كعصب الاقتصاد السوداني والعربي
في السودان، بعد اندلاع الحرب وتعطل القطاعات الإنتاجية، أصبحت تحويلات المغتربين الرافد الرئيس للعملة الصعبة.
وتقدّر بعض التقارير (2024) أن التحويلات غير الرسمية قد تفوق الرسمية بثلاثة أضعاف، ما يشير إلى اقتصاد ظلٍّ حقيقي يقوم على الثقة والأهلية لا على المصارف.
أما في مصر، فتُعد التحويلات المصدر الأول للنقد الأجنبي، حيث تجاوزت 33 مليار دولار سنويًا وفق بيانات البنك المركزي المصري (2023).
وفي المغرب والفلبين، تمثل التحويلات أكثر من 7% من الناتج المحلي، وهي ركيزة في خطط التنمية المحلية.
رابعًا: الآثار الاجتماعية والنفسية للتحويلات
تؤدي التحويلات إلى تخفيف الفقر ورفع مستويات المعيشة، لكنها تُحدث أيضًا تحولات اجتماعية خطيرة:
تراجع دور الإنتاج المحلي لصالح الاعتماد على التحويلات.
تفاوت طبقي جديد بين الأسر التي تتلقى تحويلات وتلك التي لا تتلقاها.
انفصال وجداني بين المهاجرين ووطنهم، إذ يصبح الوطن “مكانًا تُرسل إليه النقود لا تُستثمر فيه الحياة”.
ورغم ذلك، تبقى التحويلات شريان حياةٍ إنساني، تجسد التكافل العائلي في صورته المعاصرة.
خامسًا: سياسات الدول تجاه التحويلات
تباينت سياسات الدول في إدارة التحويلات:
الفلبين أنشأت وزارة خاصة بـ”شؤون العمال في الخارج”، وقدمت حوافز استثمارية للمغتربين.
المغرب أسست بنوكًا خاصة لتسهيل التحويلات وتحويلها إلى مشاريع صغيرة.
مصر ربطت التحويلات بمشروعات الإسكان والبنية التحتية الوطنية.
أما السودان، فما زالت معظم التحويلات تمر عبر قنوات غير رسمية، ما يحرم الدولة من موردٍ حيوي لتقوية احتياطياتها النقدية.
سادسًا: نحو تحويل التحويلات إلى استثمار منتج
التحويلات ليست فقط أموال إعالة، بل رأس مال اجتماعي واقتصادي يمكن تحويله إلى استثمار.
ويقترح الخبراء عدة مسارات لذلك:
إنشاء صناديق استثمار للمغتربين بمشاركة الدولة والقطاع الخاص.
تشجيع المغتربين على المساهمة في المشروعات الزراعية والصناعية عبر حوافز واضحة.
تحويل جزء من التحويلات إلى ادخار استثماري منتج بدلًا من الإنفاق الاستهلاكي.
سابعًا: الخاتمة
اقتصاد الإعالة هو الوجه الإنساني للعولمة، يعكس قدرة الأفراد على سد فجوات الدولة.
غير أن استدامته تتطلب إصلاحات هيكلية تجعل من التحويلات رافدًا استثماريًا منظمًا لا مجرد إعانات استهلاكية.
وفي حالة السودان وسائر الدول النامية، فإن تحويل الاغتراب من عبء إلى فرصة هو السبيل لبناء اقتصاد حقيقي قائم على المشاركة والمسؤولية.
المراجع والمصادر:
- World Bank (2023). Migration and Remittances: Recent Developments and Outlook. Washington, D.C.
- IMF (2022). Remittances and Economic Development in Low-Income Countries.
- Ratha, D. (2021). Leveraging Remittances for Development in Africa. World Bank Policy Note.
- البنك المركزي المصري (2023). تقرير ميزان المدفوعات السنوي.
- وزارة المالية المغربية (2022). تحويلات المغتربين ودورها في الاقتصاد الوطني.
عبد العظيم الريح مدثر
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم