في كوخ من أكواخ السكن العشوائي حول أمدرمان تعيش أرملة شابة مع طفلتيها الكبرى في التاسعة والصغرى في السابعة من العمر، أما الأرملة الأخرى فقمرية عشها في شجرة السيال التي تتوسط ساحة الكوخ وهي أخر أثر لأحراش من أشجار السلم والسيال والطلح والهيجليج والعشر والطندب والأعشاب البرية التي كانت تموج بأشكال من الحياة، فقد كانت مدينة أمدرمان يحدها النيل شرقا وحزام من الحياة البرية شمالا وجنوبا وغربا، وقد خرج أليف القمرية ذات صباح ولم يعد انتاشه صبي بحجر أو اختطفه صقر جائع أو صعقته الكهراء التي تمتد أسلاكها المعلقة في كل أنحاء المدينة تتعدد الأسباب والموت واحد.
تنهض الأرملة الشابة في الرابعة صباحا لعواسة الكسرة واعداد ملاح الغداء لطفلتيها من الويكة مع قليل من الزيت والبصل والقديد أو الملوخية أو البامية المفروكة مع قمامة اللحوم والأمعاء التي تأتي بها من السوق الشعبي كيفما تيسر، وتضع الطعام في معاليق تتدلي من شجرة السيال مثلما كانت تفعل أمها في كردفان في الزمان الأول قبل التوجه الي الحقل، وبعد تناول الشاى باللبن تصحب طفلتها حتي باب المدرسة حيث تدس مفتاح الكوخ في حقيبة طفلتها الكبرى مع ثمن حشوات الفطور وتوصيها بالاعتناء بأختها والعودة مباشرة الي البيت والأخت الكبرى أم، ثم تتوجه الأرملة الشابة الي السوق الشعبي للعمل في صنع وبيع الشاى والقهوة ، فقد تركزت كل عواطفها وغرائزها في طفلتيها اليتيمتين والطاقات والغرائز الحبيسة تنحرف اذا لم تجد لها هدفا وموضوعا وقيما وتطلعات ودوافع أسمي.
أما جارتها القمرية فتخرج معها في نفس الوقت طلبا لرزقها ورزق عيالها لكن حياتها خالية من التعقيد لأنها تلتقط رزقها من الطبيعة مباشرة ولا تحتاج للتعامل مع بني جنسها، وليس عليها سلطة تصادر حريتها وتقاسمها في رزقها ورزق عيالحا، فقد كانت الحضارة التي صنعها الانسان بيديه وبالا عليه خوفا وتعاسة واستغلالا وسخرة.
عندما كانت هذه الأرملة الشابة فتاة صغيرة تسعي خلف الأغنام في تخوم القرية كانت سعيدة هانئة بمحيطها وعالمها الصغير واحساسها بأنها انسانة مفيدة لأسرتها وأقاربها وجيرانها الذين ليس لديهم أطفال يسعون خلف الأغنام وعندما تعود الي أخويها الصغيرين وكنانتها حافلة بثمار الطندب واللالوب والسدر، وقد تعودا علي انتظارها عند مشارف القرية قبيل الغروب لذلك كانت تحرص علي أن تكون في مقدمة القطيع خوفا عليهم من الاغنام التي تندفع في جنون وتتبادل الصياح مع صغارها في المرابط والأعطان.
في السادسة عشر أصبح لتلك البنت الطيبة أحلامها وتطلعاتها الخاصة التي تحققت بزواجها من ابن عمها الجندى وانتقالها من كردفان الي أمدرمان، لكن سعادتها لم تعمر طويلا فقد قتل زوجها في حرب عوان لا تعرف لها مبررا منطقيا فأصبحت أرملة وهي في مقتبل العمر، وفي ذات ليلية لم تعد القمرية الي عشها فقد أضابها ما أصاب اليفها الذى خرج ولم يعد، أما الأرملة الشابة فقد اعتقلها رجال النظام العام ونقلوها الي سجن أمدرمان في انتظار محاكمتها بتهمة بيع الشاى، وهي لا تفهم لماذا يمنعونها من العمل الشريف وقد قامت الأسواق للبيع والشراء، وكانت ليلة ليلاء يتيمان تحت الشجرة يرتجفان خوفا ويتيمان فوق الشجرة يتضوران جوعا.
ملحوظة:
قصة من مجموعة كتابي قصص قصيرة بعنوان امغليغل
abdullohmohamed@gmail.com
///////////////