الإسْلامِيُون فِي السُوْدَانِ: مِنْ مَأزَقِ الشَرْعِيَّة إلَى مِحْنَةِ الوُجُودِ (2)
Islamists in Sudan: From the Legitimacy Dilemma to the Existential Impasse (2)
بروفيسور مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي، مركز الدراية للدراسات الاستراتيجية
نحو حوارٍ عقلاني لا انتقامي مع الإسلاميين
لقد كان نقد المشروع الإسلامي في السودان، على مدى السنوات الماضية، مشحوناً بالعاطفة والغضب المشروعين، إذ إن حجم المآسي والدماء والانتهاكات التي ارتبطت بحكم الإسلاميين الموثقة من قادتهم أنفسهم جعلت كثيرين ـ ومنهم كاتب هذه السطور ـ يكتبون بعين الشاهد وضمير المستقل المجني عليه. غير أنَّ السودان يقف اليوم على عتبة لحظة مصيرية لا تحتمل تكرار أساليب الإقصاء أو تصفية الحسابات، بل تستدعي حواراً وطنياً جاداً ومكاشفة فكرية صادقة مع الإسلاميين أنفسهم.
فالغاية لم تعد تسجيل الانتصار الأخلاقي على تيارٍ سياسي خسر شرعيته بثورة شعبية شاملة، بل إنقاذ ما تبقّى من الدولة السودانية من براثن الانهيار الكامل. فالحوار هنا لا يعني المصالحة مع الجريمة، بل مساءلة الفكر الذي قاد إليها، وفتح الطريق أمام مراجعة حقيقية، يكون فيها الإسلاميون جزءاً من النقد، لا مجرد موضوعٍ له.
ومن هذا المنطلق يأتي طرح الأسئلة المهنية الجديدة حول مستقبل الإسلاميين في مرحلة ما بعد الحرب: هل ما زال رهانهم على الجيش رهاناً واقعياً؟ هل يمكنهم مواجهة المؤسسة العسكرية إن انحازت لمسار الرباعية الدولية؟ وما موقعهم في سودانٍ جديدٍ تُعاد صياغة قواعده على أسس مدنية ووطنية؟ إنها أسئلة تتجاوز الغضب إلى البحث عن الحقيقة السياسية التي ستحدد مصير الإسلاميين، بل ومصير السودان نفسه.
الإسلاميون والجيش: مراجعة ضرورية قبل فوات الأوان
يمر الإسلاميون في السودان اليوم بلحظة فارقة تتطلب وقفة مراجعة عميقة. فالمراهنة على دعم الجيش في حربه ضد قوات الدعم السريع، أملاً في مكافأة سياسية أو عودة إلى الحكم، قد تبدو منطقية للبعض في ظاهرها، لكنها في جوهرها تحمل مخاطر استراتيجية جسيمة.
فالمؤشرات السياسية والميدانية توضح أن المؤسسة العسكرية تمضي بخطىً متزايدة نحو تفاهمات إقليمية ودولية تقودها “الرباعية”، وأن ارتباط الجيش مجدداً بأي مشروع أيديولوجي أو فصيل سياسي بات شبه مستحيل في ظل التحديات الوطنية والإقليمية والدولية الراهنة. لقد بدأت قيادة الجيش بالفعل في مراجعة علاقتها ببعض القيادات ذات الانتماء الإسلامي داخل المؤسسة، إدراكاً منها أن استمرار هذا النفوذ قد يعقّد فرص وقف الحرب ويضعف شرعية الدولة أمام شركائها الإقليميين والدوليين، وفوق ذلك أمام عموم الشعب السوداني الذي فجر ثورة ديسمبر.
مشهد سياسي متحوّل ومسارات متعارضة
تشهد الساحة السياسية تفاعلات متزايدة بين قوى مدنية ووطنية تبحث عن صيغة جديدة لإدارة المرحلة الانتقالية تضمن إنهاء الحرب وتجنّب أخطاء ما قبل أكتوبر 2021. في هذا السياق، يصبح السؤال الأهم: هل يملك الإسلاميون القدرة أو المصلحة في مواجهة الجيش عسكرياً إذا قرر الانخراط الكامل في مسار الرباعية؟
الإجابة الواقعية هي أن ذلك المسار محفوف بالمخاطر وغير قابل للاستمرار، فالقوة العسكرية التي كانت في الماضي ركيزة نفوذ الإسلاميين لم تعد قائمة بالقدر الذي يُتصور، كما أن الأجيال الجديدة داخل الجيش باتت أكثر استقلالاً وأقل ارتباطاً بالأيديولوجيا. وذلك فضلاً عن أن القاعدة الشبابية للإسلاميين لم تعد سهلة الاستجابة للتحشيد والتعبئة العسكرية كما كانت عند إطلاق المشروع الحضاري في تسعينات القرن الماضي.
جدوى الرهان على العنف
إن أي تفكير في العمل المسلح من جانب الإسلاميين، سواء عبر تشكيلات قديمة أو محاولات تعبئة جديدة، لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة والمواجهة مع الشعب والمجتمع الإقليمي والدولي معاً. فالشعب السوداني الذي خبر ويلات الحرب في الهامش والمركز لن يقبل بعودة العنف كوسيلة لحسم الخلافات السياسية، كما أن المجتمعين الإقليمي والدولي يراقبان المشهد بقلق ولن يسمحا بتكرار تجربة توظيف الدين في الصراع المسلح.
أما الفصائل المسلحة الأخرى، بما فيها الحركات الموقعة على اتفاق جوبا، فهي تدرك أن مستقبلها السياسي مرهون بالسلام لا باستمرار الحرب، ولن تساند أي مشروع يسعى لإعادة إنتاج الانقسامات القديمة أو إعادة الإسلاميين إلى السلطة من بوابة الصراع.
دروس من الخارج: حماس وحزب الله
لقد كشفت التجارب الإقليمية الأخيرة دروساً بالغة الأهمية. ففي غزة، انتهت المواجهة التي خاضتها حركة حماس في أكتوبر 2023 إلى مسار تفاوضي يزج بالحركة تدريجياً في هامش القرار الفلسطيني، بعد أن تحولت من رمز للمقاومة إلى عبء سياسي وإنساني على الشعب الفلسطيني.
وفي لبنان، يواجه حزبُ الله اليوم أزمة وجودية مشابهة بعد سنوات من الهيمنة على الدولة، إذ أفرزت السياسات القائمة على الاحتكار والعسكرة والفساد حالة اختناق داخلي أدت إلى انحسار شعبيته وتراجع دوره الإقليمي.
إن مقارنة هذه المسارات ليست للموعظة السياسية فحسب، بل للتذكير بأن الإفراط في التمركز حول الذات الأيديولوجية، واعتبار السلاح وسيلة لاستعادة النفوذ، لا يؤدي إلا إلى الانتحار السياسي والمعنوي. والسودان، الذي يعاني اليوم من جراح الحرب والانقسام، لا يحتمل تكرار هذه التجارب المؤلمة.
فرصة أخيرة قبل الاحتراق الوجودي
قد يكون أمام الإسلاميين في السودان اليوم فرصة أخيرة لتصحيح المسار، عبر مراجعة صادقة وشجاعة تعترف بالأخطاء الماضية وتفتح الباب لجيل جديد من الشباب المؤمن بقيم الدعوة والعمل الاجتماعي بعيداً عن التسييس والسلطة.
فابتعادهم الطوعي عن إدارة الدولة خلال المرحلة الانتقالية المقبلة ليس هزيمة، بل خطوة ضرورية لحماية وجودهم الفكري والاجتماعي من الانقراض السياسي. إن الإصغاء لصوت العقل في هذه اللحظة قد يتيح للإسلاميين العودة لاحقاً إلى المجال العام في صورتهم الإصلاحية الأولى، حين كان همهم الدعوة لا الدولة، والمجتمع لا السلطة.
أما الإصرار على تكرار النهج القديم أو الرهان على السلاح، فلن يجلب سوى مزيد من العزلة والتراجع، في وقت يتجه فيه السودان والعالم نحو مرحلة لا مكان فيها للمشاريع المغلقة أو الهيمنة الأيديولوجية.
ختام: من المكابرة إلى المراجعة
السياسة اليوم لم تعد ميداناً للشعارات بل للاعتراف والمراجعة والتصالح مع الواقع. ومن يختار الإصغاء إلى صوت الحكمة اليوم، قد يجد له موطئ قدم في مستقبل السودان الديمقراطي غداً. أما من يصرّ على الماضي، فسيجد نفسه خارج المستقبل، مهما كانت شعاراته.
melshibly@hotmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم