الانتقال المدني بين الثورة والتسوية

د. هشام عثمان
hishamosman315@gmail.com

حتى لو نجحت المفاوضات التي يتوقع ان تجري تحت مظلة الرباعية الدولية في وقف الحرب داخل السودان، فإن حربًا أخرى ستبدأ فورًا — حرب أشد تعقيدًا ودهاءً: حرب الانتقال المدني. فالقضية لم تعد مرتبطة فقط بوقف إطلاق النار أو بإعادة النازحين، بل بتحديد من يملك القرار السياسي في السودان، وكيف يمكن إعادة بناء دولة مدنية في ظل جيش مختطف ومؤسسة عسكرية باتت ترى نفسها وصية على البلاد، مدعومة من شبكات الإسلاميين وأذرعهم الاقتصادية والإعلامية.

لقد أظهرت تجربة السنوات الأخيرة أن كل اتفاق سلام في السودان، من أديس أبابا 1972 إلى نيفاشا 2005 ثم جوبا 2020، كان يُبنى على معادلة خطيرة: معالجة أعراض الأزمة دون ملامسة جذورها. كانت كل اتفاقية تُجزئ المأساة الوطنية إلى ملفات: سلام، تقاسم سلطة، ترتيبات أمنية… لكنها تتجنب السؤال الجوهري: من يحتكر الدولة ومن يقرر مصيرها؟

في أديس أبابا، كُرّس احتكار المركز للسلطة رغم إنهاء حرب الجنوب الأولى. وفي نيفاشا، ضُمن انفصال الجنوب باسم “السلام”، بينما أُبقي على الدولة الأمنية في الشمال. أما جوبا، التي وقّعت في ظل حكومة حمدوك، فقد كانت إعادة إنتاج للخطأ ذاته، ولكن بوجه مدني هذه المرة؛ إذ قسمت البلاد إلى مسارات جهوية مصطنعة (دارفور، الشرق، الوسط…) وتفاوضت مع حملة بندقية فقدوا الفاعلية السياسية والعسكرية منذ هزائمهم في قوز دنقو وغيرها. تم تجاهل النازحين والمهجرين، واستُخدمت الاتفاقية كأداة سياسية في يد المكون العسكري للانقلاب على الفترة الانتقالية، بعد أن أدخلت قوات إلى المدن دون أي ترتيبات أمنية حقيقية.

واليوم، تقف المبادرة الرباعية — التي تضم أمريكا والسعودية والإمارات و مصر — على نفس خط التاريخ، تحاول إدارة الحرب بوصفها أزمة أمنية، بينما هي في حقيقتها نتيجة لانسداد سياسي وتاريخي طويل. وما يُخشى منه أن تنتج هذه المبادرة “جوبا جديدة” بأدوات دولية هذه المرة، تُعيد إنتاج الاستبداد بغطاء مدني وواجهة ثورية مزيّفة.

وسط هذا المشهد، يظهر تيار “صمود” الذي يرفع شعار الدفاع عن الثورة، لكنه في جوهره يُعيد إنتاج الإصلاحية السياسية في ثوب ثوري. هو خطاب يميل للتسويات وللشراكات المرحلية، ويبحث عن الشرعية في الخارج أكثر مما يستمدها من الشارع. وبذلك يصبح خطره مضاعفًا: فهو يفرغ الثورة من مضمونها الثوري باسم الواقعية، ويُقدّم نفسه للعسكر والمجتمع الدولي كقناة “معتدلة” لاحتواء الغضب الشعبي.

إن الانتقال المدني الحقيقي لا يمكن أن يتم بوجود ثلاثة معوقات: جيش مختطف بعقيدة سلطوية لا وطنية، وقوى مدنية هشة تسعى للتمثيل دون امتلاك رؤية للتحول الجذري، ورعاية دولية انتقائية تبحث عن الاستقرار أكثر من العدالة.

لقد خانت بعض القوى المدنية الثورة في المرة الأولى عندما قبلت بالشراكة مع العسكر بعد سقوط البشير، بحجة “الواقعية”. واليوم تُطلّ الخيانة مرة ثانية باسم “وقف الحرب” و“الانتقال المدني التوافقي”. العاصم الوحيد من هذا الانحدار هو أن تلملم القوى الجذرية ماتبقّى من الشارع الثوري، وتعيد تنظيمه في حائط صد وطني وفكري وتنظيمي ضد التسوية المموّهة. ذلك الحائط لا يقوم بالشعارات وحدها، بل ببناء تحالف جذري واسع يضم النقابات المستقلة، ولجان المقاومة، والمثقفين العضويين، ويستعيد زمام المبادرة من نخب التسويات ومن الوصاية الخارجية معًا. فالشرعية الحقيقية لا تُمنح من الرباعية، بل تُنتزع من وعي الشارع وإرادته التنظيمية.

يقول تاريخ السودان بوضوح: “كل تسوية لم تلامس بنية السلطة العسكرية الدينية انتهت إلى تجديدها.” ولهذا فإن معركة الانتقال المدني ليست أقل خطورة من معركة البندقية، لأنها معركة استرداد الدولة من داخلها. إن الثورة السودانية تحتاج اليوم إلى خطاب جديد — ثوري في المبدأ، وواقعي في الرؤية، ومستقل عن الخارج — خطاب يُدرك أن الحرب الحقيقية لم تنته بعد، وأن الطريق إلى السلام لا يمر عبر الرباعية، بل عبر الشارع الثوري المنظم والمستيقظ.

عن هشام عثمان

هشام عثمان

شاهد أيضاً

إدانة علي كوشيب …بين انعاش الأمل وخيانة الذاكرة ..

د.هشام عثمانhishamosman315@gmail.comفي خطوة وُصفت بالتاريخية، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكمها بإدانة علي كوشيب، أحد أبرز …