بقلم: م. جعفر حمد
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، بات المشهد أكثر ضبابية، خاصة بعد أن تحوّلت البلاد إلى ساحة صراع مفتوحة، تنهشها الانقسامات وتتنازعها المصالح. وسط هذا الخراب، يقف الفريق أول عبد الفتاح البرهان، القائد العام للجيش، على مفترق طرق. لا يستند إلى شرعية انتخابية، ولا يحظى بتفويض شعبي، بل هو نتاج سلسلة من الانقلابات السياسية، بدءًا من الشراكة مع المدنيين، وانتهاءً بتفكيكها واحتكار السلطة.
اليوم، يواجه البرهان ثلاثة ضغوط رئيسية: فلول النظام السابق (الكيزان)، والتيارات الجهادية المتطرفة (الدواعش)، والضغوط الدولية والإقليمية في جدة.
أولاً: البرهان بلا شرعية سياسية
عبد الفتاح البرهان ليس منتخبًا، ولم يأتِ عبر مؤسسات مدنية أو تفويض دستوري. صعوده كان نتاجًا مباشرًا لتوازنات القوى العسكرية بعد سقوط نظام البشير، ثم تعزّزت سلطته بانقلاب 25 أكتوبر 2021 على الشراكة مع قوى الثورة. لكنه منذ ذلك الحين فقد ما تبقى من دعم الشارع، لا سيما بعد تفكك مؤسسات الحكم الانتقالي، واندلاع الحرب التي دمرت حياة الملايين.
الشرعية السياسية لا تأتي من البندقية وحدها، ولا من اعتراف بعض الدول، بل من الرضا الشعبي والمؤسسات المدنية، وهذان غائبان تمامًا عن مشهد البرهان اليوم.
ثانيًا: الكيزان… أصدقاء ظرفيون أم عبء دائم؟
بعد اندلاع الحرب، ظهر تيار الإسلاميين المرتبطين بالنظام السابق مجددًا على السطح، يقدمون أنفسهم حلفاء للجيش في معركة “الكرامة والسيادة”. وقد أظهروا قدرة على التعبئة والدعاية والدعم اللوجستي، ونجحوا في التسلل إلى أجهزة الدولة والإعلام وبعض ساحات القتال.
لكن البرهان يعلم جيدًا أن هذا التيار هو سيف ذو حدين. فتحالفه معهم يُفقده أي أمل في دعم دولي أو إقليمي خارج محور ضيق، ويضعه في خانة من يُحاول إحياء نظام لفظه الشعب بثورة شعبية.
إنه تحالف اضطراري، لا يقوم على رؤية مستقبلية، بل على منطق “العدو المشترك”.
ثالثًا: التطرف المسلح: الوجه الخفي للخطر
في ظل الفوضى وانهيار الأمن، تظهر بين الحين والآخر مؤشرات لعودة جماعات متطرفة تحمل أفكارًا تكفيرية، تحاول الاستفادة من الفجوة الأمنية، خاصة في مناطق النزاع أو المناطق المهملة تنموياً.
هؤلاء لا يُعلنون أنفسهم بسهولة، لكن وجودهم الميداني بات مقلقًا. وفي نظر العالم، أي تساهل من القيادة العسكرية معهم، أو غضّ الطرف عنهم، قد يُفسَّر كدعم ضمني أو تقاطع مصلحي معهم.
وهذا يُضيف عبئًا على البرهان: فهو مطالب بضرب الإرهاب بلا هوادة، وفي الوقت نفسه عاجز عن بسط السيطرة الشاملة على الأرض.
رابعًا: جدة… حملة ضد الإسلام السياسي لا ابتزاز سياسي
المبادرة السعودية-الأمريكية في جدة لا تأتي في فراغ. بل هي جزء من حملة دولية متصاعدة ضد الإسلام السياسي، بعد أن أثبتت التجربة في السودان وغيرها أن هذا التيار – حين يتمكن – يفرز تطرفًا سياسيًا وأمنيًا، ويُجهض إمكانات بناء دولة مدنية مستقرة.
البرهان ليس الهدف الأساسي من مفاوضات جدة، بل البيئة السياسية السودانية ككل، حيث تسعى القوى الدولية إلى رسم خارطة جديدة تستبعد الإسلاميين والمتشددين، وتُعلي من شأن قوى مدنية معتدلة.
لذا فإن التحدي الحقيقي في جدة ليس بين “جيش ودعم سريع”، بل بين رؤيتين لمستقبل السودان: واحدة تسعى لدولة مدنية ديمقراطية بلا عباءة دينية، وأخرى تُحاول العودة إلى الوراء بشعارات ماضوية.
خاتمة
البرهان ليس قائدًا شرعيًا، ولا زعيمًا مدنيًا، بل هو عسكري واقع تحت ضغوط متعددة: من الداخل، حيث الشارع فقد الثقة به، ومن الخلف، حيث الكيزان يُحاولون استغلاله، ومن المحيط، حيث المعركة ضد الإسلام السياسي تفرض عليه أن يختار بين الاستمرار كحليف ظرفي، أو الخروج من المعادلة.
نجاحه في البقاء ليس نجاحًا للدولة، بل تأجيل لصدام أكبر. فالسودان لا يحتاج إلى رجال أقوياء، بل إلى شرعية حقيقية، ومشروع مدني جامع، يُبعد الدولة عن عسكر البندقية وأوهام الخلافة معًا.
gaafar.hamad@gmail.com