أتقدم بكل الفخر والاعتزاز بالتحية لشباب حارتنا العتيقة في إمتداد الدرجة الثالثة ، هذه المنطقة التي شهدت عهد طفولتي وشبابي ، لعبنا في ميادينها وترعرعنا في شوارعها ، وصار أهلها تماما كالجسد الواحد . أصحاب حارة ، ونخوة ، وكرم . ورثوا هذه الطباع الحميدة من آبائهم الكرام ، الذين انتقلوا إليها وجلهم من الموظفين والعمال عندما منحت لهم تلك الأراضي في عهد عبود ، وكانت وقتها في أطراف الخرطوم . اربعة عشر مربعا بالتبادل ، مربع ( 1 ) يقابله مربع ( 2 ) ولا يجاوره إلا مربع ( 4 ) ، وهكذا ... من ناحية الشرق كانت ارضا خلاء تنبت فيها الحشائش وترعى فيها أغنامنا ودجاجنا ، و من الغرب كان يقوم حي ( العشش ) ، ومن الجنوب المعهد الفني الذي بناه الروس فيما بعد بهندسة بديعة ، وكان يفضل بينه وبين حى الديم الشهير . من الجنوب كانت أرضا بور وخلاء بعدها مباشرة وإلى الشرق قليلا تجد الجزام الأخضر الذي كان مصدات للرياح ليحمي الخرطوم من ( الكتاحة ) قبل أن تجور عليه يد الزمان الفاسدة فتعمل فيه تقطيعا وبيعا لأراضية . هل يمكن أن ننسى مكب النفايات الضخم الذي كنا نسميه ( كوشة الجبل ) وكان جبلا بحق من نفايات الخرطوم . أين اختفى هذا الجبل ، وكيف قامت في أرضه البنايات العالية ؟ كان هذا الامتداد حافلا بالنشاط الرياضي ففي كل مربع فريق لكرة القدم أذكر منها فريق اللواء الأبيض ، وفريق الدينمو وغيرها ، حيث وفرة الميادين أغرت الشباب بالرياضة ، ويريد الله أن أشاهد بداية التغول عليها وتحويلها لبنايات بيعت كلها بأغلى الأسعار للمقتدرين ، ولولا وقفة أبناء الامتداد القوية لبيعت كل ميادينهم . هل أنسى مربعات كانت ولازالت تجاور حى العشرة العتيق ، والذي كان حيا لم يخطط إلا في وقت قريب ، وكم كانت لنا معهم صولات وجولات في دوري كرة القدم ، فقد كانوا أشداء أولاد تجار وجزارين وكنا أولاد موظفين نفوز عليهم بالحرفنة ، وغالبا ما تنتهي مبارات كرة القدم معهم بالعراك ، هم وأولاد الديم العريق . كان مكان مستشفى التمييز الذي أصبح حديث الناس هذه الأيام مجرد ميدان نلعب فيه كرة القدم ، ويجاور مسجدنا الوحيد في ذلك الوقت ، ويفصل بينهما ( جدول ) لتصريف مياه الأمطار . ولهذا الجدول قصة ، فقد تزامن حفره والعمل على تبطينه مع بداية انتقال السكان إليه ، وعندما قامت ( أكتوبر 1964م ) توقف العمل فيه ، وظلت ( بقايا الطوب والرمل ) مكانها زمانا طويلا . عندما تم تقسيم أراضي الامتداد كمساكن ، كان المالك يستدل على قطعة أرضه بصنبور الماء وخشبة طويلة معلق عليها أسلاك الكهرباء التي سرعان ما تدخل البيت عند اكتمال أول غرفة فيه . وكانت كل الشوارع مضاءة من المغرب حتي طلوع الفجر . كانت الجداول الفرعية تحفر قبل الخريف داخل الاحياء ، وتصرف بجدول كبير يقع شمالا ليصب في النيل الأبيض . قامت في هدا الحي ست مدارس ابتدائية ،وكانت أول أمرها في بيوت استأجرتها وزارة التربية ، ثم تم بناء هذه المدارس في مواقعها الحالية . لم يكن بالمنطقة مدرسة متوسطة إلا مدرستين ( خاصتين ) مدرسة الشباب للبنين و مدرسة فاطمة عبد الرحيم للبنات . أما أكثر أبناء الحى فقد كانوا يقبلون في مدارس بعيدة نسبيا . كالأميرية الخرطوم والاتحاد ، والخرطوم جنوب ...إلخ . أسس أبناء الحى عددا من ( النوادي ) تقريبا لكل مربعين أو ثلاثة ناد ، لكن النادي الكبير كان ولايزال نادي الامتداد الذي يقع في الوسط تماما . لم نكن من مرتادي تلك النوادي لأنها كانت مخصصة للكبار والشباب وكنا يومها أطفالا ، لايسمح لنا آباؤنا بالدخول إليها ، وعندما أدركتنا مرحلة الشباب فرقتنا الجامعات في الداخل والخارج ، ثم كان الإغتراب والهجرة . لكن كان هناك بعض النشاط العام وأحيانا يكون سياسيا في بعض هذه النوادي ولازلت أذكر ذلك الاحتفال الذي أقامه حزب الاتحاد الديمقراطي في آخر أيام الديمقراطية وقبل قيام حركة مايو ، والذي تحدث فيه السيد إسماعيل الأزهري عليه رحمة الله ، لازلت أذكر وقفته وكيف كان الناس يسمعون له بكل أدب واحترام ، وكنا نسمع كما يسمعون ولا نفقه شيئا مما يقال ، فقد كنا صغارا جدا ، ولا زلت أذكر عودتي للبيت مبهورا بشخص السيد إسماعيل الأزهري وكيف لبست بجامتي وكأنها بدلة وصنعت من بعض الأسلاك ما يشبه النظارة واعتليت سريري كمنبر وطفقت اقلد حركات الزعيم الأزهري . لم نكن في أي يوم من الأيام نظن أن ما بدى أولا كبناية مجهولة المالك ولم تتم لسنوات طويلة يمكن أن تتحول يوما لمستشفى مملوك للدكتور مأمون حميدة ، وحتى بناءه لم يكن ينبئ بأنه مستشفى ، وكل ما يميزه كثرة الرقشات أمام مدخله ، و ( البرنده ) العالية بعد المدخل ، وكنا نصادف في بعض الأحيان شبابا وشابات يحملون رداءا أبيض على أذرعتهم ، فعلمنا أن هنا يتم تدريب هؤلاء الشباب على الطب من جامعة مأمون حميدة وأن المستشفى تتبع له . لم أصدق عيني ومراسل الحدث يقف أمام كونتينر ( أي والله ) كونتينر له باب وحيد مصمت الجوانب وتسيل من تحت عقب الباب دماء وسوائل لموتي عمت روائح تحلل تلك الاجساد فضربت المنطقة بأكملها . ذلك نتيجة لقطوعات الكهرباء التي لم تنج منها هذه التي تسمى اجتهادا ( مشرحة ) منظر لا إنساني ، يخبرك برخص السوداني ، وهوانه على بني جلدته . لا أحد يعلم بهوية هؤلاء الموتي .وكيف ماتوا ؟ وكم عددهم ؟ وإذا صح أن في هذا المكان ما يقرب من مئتي جثمان ، فلنا أن نتخيل كيف تم وضعهم متكدسين فوق بعضهم البعض . شيء يحير ، وكان على شباب الإمتداد التحرك ، وتنبيه المسؤولين الغافلين ولم يقصر الشباب ، اسمعوا صوتهم ليس للمسؤولين فحسب ولكن لكل العالم ، حيث نقلت وسائل الإعلام العالمية الخبر الغريب والمعيب ، وكانت بحق فضيحة الموسم . الشباب قاموا بواجبهم ، فهل نطمع في معالجة الأمر بما يحفظ للموتي حرمتهم والكشف عن هوياتهم , ودفنهم بما يليق بهم كمسلمين . ثم محاسبة كل من له ضلع في هذه المأساة التي جعلتنا مثار سخرية وتندر واستنكار في كل المحافل .