التقاعد بين المساواة الأيديولوجية والواقع الاقتصادي

من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
التقاعد بين المساواة الأيديولوجية والواقع الاقتصادي — قراءة في التجربتين الصينية والروسية

منبر بنيان مقالات من بطون كتب

تمهيد: من أوروبا إلى الشرق — رحلة البحث عن معنى التقاعد

في المقال السابق تناولنا حراك الشارع الفرنسي وما أثاره من جدل حول رفع سن التقاعد، حيث تداخلت السياسة مع الاقتصاد وتصارعت القيم بين العدالة الاجتماعية ومتطلبات النمو. واليوم ننتقل شرقًا، إلى فضاءٍ مختلف في الفلسفة والنهج — إلى الصين وروسيا — لنرصد كيف تعاملت الأنظمة الاشتراكية وما بعدها مع قضية التقاعد التي تمس جوهر العلاقة بين الإنسان والدولة، بين العمل والكرامة، بين العمر والإنتاج.

مقدمة
منذ أن نشأت فكرة الدولة الحديثة، ارتبط الأجر بالعمل، والمعاش بالزمن، والكرامة بالعدالة. لكن بين الشعارات الأيديولوجية والحقائق الاقتصادية، ظل نظام التقاعد ساحة اختبارٍ حقيقية لمصداقية الدولة في الوفاء بوعودها.
وفي الصين وروسيا، اللتين ورثتا منظومات اشتراكية تتغنى بالمساواة، يُطرح السؤال مجددًا: هل تحقق المساواة فعلاً عدالة؟ أم أن الاقتصاد الواقعي يُعيد رسم الحدود بين الممكن والمأمول؟

الاشتراكية وفلسفة العمل حتى النهاية

في الفكر الاشتراكي الكلاسيكي، لم يُنظر إلى التقاعد كحقٍّ فردي بقدر ما اعتُبر انتقالًا من العمل الإنتاجي إلى الدور الاجتماعي. فالمواطن — في الماركسية — يظل فاعلاً في المجتمع حتى آخر لحظة من حياته، ليس بالضرورة بالإنتاج المادي، بل بالمشاركة والتوجيه والعمل الجماعي.
ومن هنا جاءت فكرة “العمل حتى الموت” التي سادت في الصين الستينيات، حيث كان التقاعد المبكر يُنظر إليه كترفٍ برجوازي.

لكن مع تحوّل الصين إلى اقتصاد السوق الاشتراكي في الثمانينيات، تغيّر المشهد جذريًا، وأصبح التقاعد ضرورة ديموغرافية لتجديد الدورة الاقتصادية وخلق فرص للشباب.

نظام التقاعد في الصين: بين الدولة والسوق

تُعد الصين اليوم من أكثر الدول تحديًا في موازنة التزاماتها الاجتماعية مع واقعها الاقتصادي.
فالعمر الرسمي للتقاعد لا يزال منخفضًا نسبيًا: 60 عامًا للرجال، 55 عامًا للنساء العاملات، و50 عامًا للعاملات في الأعمال اليدوية.
تعتمد المنظومة على ثلاث ركائز: نظام وطني أساسي تموله الدولة، وتأمين تكميلي من المؤسسات، ومدخرات فردية إلزامية.
وتواجه الصين معادلة صعبة: كيف تموّل معاشات أكثر من 300 مليون متقاعد متوقعين بحلول عام 2035 في ظل تباطؤ النمو السكاني؟
ولذا تعمل الحكومة على رفع سن التقاعد تدريجيًا إلى 65 عامًا، وهي خطوة لاقت اعتراضًا اجتماعيًا يشبه ما تشهده فرنسا، وإن اختلفت الدوافع: في فرنسا الاحتجاج على طول الخدمة، وفي الصين على ضعف شبكة الأمان الريفي.

روسيا: من دولة الرفاه إلى معادلة البقاء

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وجدت روسيا نفسها أمام نظام تقاعدي ضخم تم تصميمه لدولة لم تعد موجودة.
في التسعينيات، كانت معاشات التقاعد لا تكفي لشراء الخبز، ثم بدأت الإصلاحات تدريجيًا حتى عام 2018، عندما أعلن الرئيس بوتين رفع سن التقاعد إلى 65 عامًا للرجال و60 عامًا للنساء، مما أثار موجة احتجاجات واسعة، لأن الروس يعتبرون التقاعد لحظة استرداد للكرامة بعد عناء العمر، لا عبئًا إضافيًا على الدولة.

النظام الروسي اليوم يعتمد على التمويل المباشر من الضرائب مع محاولات لتشجيع الادخار الفردي، لكنه يواجه مشكلة ديموغرافية قاسية: تناقص عدد العاملين مقابل ارتفاع أعمار المتقاعدين.

تشابه الهدف واختلاف الأدوات

في كلتا التجربتين — الصينية والروسية — يبدو الهدف واحدًا: ضمان الاستدامة المالية لأنظمة التقاعد.
لكن الوسائل مختلفة تمامًا: الصين تمزج بين الدولة والسوق في منظومة متعددة المستويات، بينما تعتمد روسيا أكثر على الخزانة العامة والضرائب المباشرة.
كما أن الفوارق بين الجنسين ما تزال قائمة: فالنساء يتقاعدن في سن أبكر بخمس سنوات تقريبًا في البلدين.
أما القبول الشعبي، فمتذبذب — فالمجتمع الصيني الريفي ما زال يرى التقاعد تكريمًا، بينما تنظر الطبقة العاملة الروسية إليه كتعويض عن شقاء العمر.

من المعاش إلى الكرامة

لا تكمن قيمة التقاعد في المبلغ الشهري فحسب، بل في إحساس الإنسان بأنه لا يُستغنى عنه.
في الصين، يُكرَّم كبار السن بلقب “حكماء المجتمع”، وفي روسيا تُمنح امتيازات رمزية كتخفيضات السفر والعلاج المجاني، لكنها تبقى رمزية أكثر منها مادية.
وهنا يظهر جوهر القضية: هل يمكن للدولة أن تحافظ على كرامة المواطن بعد أن يخرج من دائرة الإنتاج؟

الدروس للدول العربية وإفريقيا

الدول العربية — ومنها السودان — تواجه تحديات مشابهة ولكن بموارد أقل ونُظم أقل كفاءة.
ما يُستفاد من التجربتين الصينية والروسية هو أهمية توزيع العبء المالي والاجتماعي بين الدولة والمؤسسات والأفراد، مع الاعتراف بأن الكرامة لا تُقاس بالعمر بل بالقدرة على العيش الكريم بعد العمل.
كما أن التحدي الديموغرافي في إفريقيا قد يتحول إلى فرصة إذا أُنشئت نظم تقاعد مرنة تستثمر في الإنسان لا في الصناديق المغلقة.

خاتمة: التقاعد كمرآة للمجتمع

من باريس إلى بكين، ومن موسكو إلى الخرطوم، يظل التقاعد مرآة لوجدان الأمة:
هل ترى في الشيخوخة نهاية الدور، أم تتعامل معها كبداية جديدة للخبرة؟
إن التقاعد ليس ختام العمل، بل انتقال من أجر إلى كرامة، ومن إنتاج مادي إلى عطاء إنساني.
وحين تنجح الدولة في جعل هذه المرحلة استمرارًا لا انقطاعًا، تكون قد بلغت ذروة العدالة الاجتماعية.

المقال القادم بإذن الله نتناول فيه نظم التقاعد في المنظمات الدوليه مثل الأمم المتحده والبنك الدولي

عبد العظيم الريح مدثر

عن عبد العظيم الريح مدثر

عبد العظيم الريح مدثر

شاهد أيضاً

التأمين بين السداد والامتناع

من بطون كتبsanhooryazeem@hotmail.comالتأمين بين السداد والامتناعكيف تعمل وثيقة الحريق والسرقة والنهب؟قراءة نقدية في فلسفة التعويض …