السلام ليس مجرد اتفاق سياسي أو هدنة مؤقتة تُوقّع بين أطراف متنازعة، بل هو حالة وعي، ونتيجة لعملية عميقة تبدأ في النفس الإنسانية قبل أن تتجلى في الواقع. ومن هنا تأتي أهمية التهيئة النفسية للسلام، بوصفها الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع متماسك يؤمن بأن التعايش والاحترام المتبادل هما الطريق الأقوم لمستقبل أفضل.
على المواطن السوداني، صاحب الفطرة السليمة والضمير الحي، أن يدرك أن السلام الحقيقي لا يُفرض بالقوة ولا يُشترى بالوعود، بل يُصنع من الداخل. يبدأ الأمر عندما يتحرر الإنسان من مشاعر الخوف والعداوة والريبة التي خلفتها سنوات النزاع، ويستعيد قدرته على الثقة في الآخر، مهما اختلف عنه في الرأي أو الانتماء أو الجهة. فقبول الآخر لا يعني التنازل عن المبادئ، بل هو تعبير عن نضج فكري وإنساني يعترف بالتنوع كقيمة وليس كتهديد.
إن السودان، بتنوع أعراقه وثقافاته ودياناته، يحمل في داخله بذور السلام بقدر ما يحمل أسباب الصراع، والتمييز بينهما مرهون بمدى وعي الناس وقدرتهم على تحويل الاختلاف إلى مصدر إثراء لا إلى سبب للانقسام.
إن بناء السلام يتطلب تغييرًا في المنظومة النفسية والاجتماعية التي تشكل وعي المواطن. فالحروب لا تترك آثارها في الخراب المادي فقط، بل تخلّف ندوبًا عميقة في النفوس، وتشوه منظومة القيم، وتزرع الشك في نوايا الآخرين. لذلك، لا بد أن يبدأ البناء من الداخل، بإعادة ترميم الوجدان الجمعي، وتنقية الذاكرة من شوائب الكراهية والانتقام. وهنا تبرز أهمية التربية والإعلام والثقافة في إعادة صياغة المفاهيم، بحيث يتم التركيز على قيم التسامح، والعدل، والمواطنة المشتركة. يجب أن يتعلم الفرد منذ الصغر أن الخلاف جزء من الحياة، وأن الحوار هو الوسيلة الأرقى لمعالجة الاختلاف، لا السلاح ولا الإقصاء.
ولأن السلام منظومة شاملة، فإن المؤسسات التعليمية لا بد أن تكون حاضنة له، عبر مناهج تُنمّي روح التسامح والانفتاح، وتشجع التفكير النقدي والاحترام المتبادل. كما أن الإعلام، بوسائله المختلفة، يتحمل مسؤولية كبرى في توجيه الخطاب العام نحو البناء لا الهدم، ونحو الحقيقة لا التحريض، ونحو نشر الوعي بدلاً من بث الكراهية أو إشاعة الخوف.
أما المؤسسات الدينية والمجتمعية، فلها دور محوري في ترسيخ ثقافة السلام، عبر خطاب يداوي الجراح بدلاً من أن يفتحها من جديد، ويغرس في النفوس أن الرحمة والصفح أقوى من الكراهية والانتقام. فالدين في جوهره دعوة إلى السلام، والأنبياء جميعًا جاؤوا ليطفئوا نار الفتن، لا ليزيدوها اشتعالًا. ومن هذا المنطلق، يجب أن يكون الخطاب الديني صوتًا للعقل والحكمة، لا سلاحًا في معارك الهوية أو التنافس السياسي.
لا يمكن الحديث عن السلام دون الاعتراف بعمق الجراح التي خلفتها الحروب، ولا دون محاسبة كل من أجرم وارتكب شنيع الفعال في حق الإنسانية. فالعدالة ليست نقيض السلام، بل شرط من شروطه. إن التهيئة النفسية للسلام تعني المصالحة مع الذات أولًا، ثم مع الماضي، ثم مع الآخر. إن تجاوز المرارات لا يعني النسيان، بل يعني تحويل التجربة إلى درس يثري الوعي الجماعي ويمنع تكرار المأساة. غير أن استمرار العيش في دائرة الألم يمنع أي تقدم، ويغلق أبواب الأمل في وجه الأجيال القادمة.
حين ينجح الفرد في بناء سلام داخلي، ينتقل هذا الأثر إلى الأسرة، ثم إلى المجتمع ككل. فالمجتمعات لا تتعافى بقرارات فوقية، بل بتراكم مبادرات السلام في النفوس والبيوت والمدارس والقرى والمدن. المواطن المهيأ نفسيًا للسلام هو الذي يختار الكلمة على الرصاصة، والعفو على الثأر، والمصلحة العامة على الأنانية، والعدالة على الانتقام. وهو الذي يؤمن أن الوطن لا يبنى بالخصومة بل بالشراكة، ولا ينهض بالاستئثار بل بالتعاون.
إن السودان اليوم في أمسّ الحاجة إلى أن يتهيأ أبناؤه للسلام، لا كخيار سياسي عابر، بل كمشروع وطني شامل يعيد تعريف الهوية السودانية على أسس جديدة من التسامح، والمواطنة، والكرامة الإنسانية. فالسلام ليس نهاية الطريق، بل هو البداية الحقيقية لبناء وطن يتسع للجميع، وطنٍ يتجاوز ذاكرة الألم نحو أفق الأمل، ويحوّل معاناة الماضي إلى طاقة لبناء مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية.
فالسلام، في جوهره، ليس غياب الحرب فحسب، بل حضور العدالة، وكرامة الإنسان، وإحساسه بالأمان في وطن يحتضن تنوعه، ويمنحه الحق في أن يحيا بسلام مع ذاته ومع الآخرين.
د. سامر عوض حسين
samir.alawad@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم