الحرب الكبرى في الشرق الأوسط — قراءة شمولية في دوافع أمريكا وإسرائيل وتحوّلات العقل العربي (١-٢)

د. عمرو محمد عباس محجوب

تتخذ الحرب الدائرة اليوم في الشرق الأوسط طابعًا يتجاوز حدود الجغرافيا التقليدية. فغزة لم تعد ساحة فلسطينية محصورة، بل تحوّلت إلى مركز اختبار لإرادات القوى الكبرى، بينما صار لبنان واليمن وإيران أطرافًا متداخلة في منظومة واحدة من الاشتباك.
إنها ليست حربًا جزئية، بل تجلٍ جديد لصدام الإرادات بين مشروعين: مشروع الهيمنة الأمريكية ـ الإسرائيلية الذي يسعى لإعادة ترميم النفوذ الغربي المتراجع، ومشروع المقاومة الإقليمي الذي يقوده تحالف فضفاض من القوى الرافضة لتلك الهيمنة.

منذ اللحظة الأولى، بدت واشنطن وتل أبيب متفقتين على جوهر الهدف: منع قيام أي توازن جديد في المنطقة يمكن أن يقلّص دور إسرائيل أو يتيح لقوى آسيوية مثل الصين وروسيا وإيران أن تملأ الفراغ الأمريكي. لذلك، فإن الحرب الحالية هي في جوهرها إعادة تموضع استعماري أكثر منها ردة فعل على حدث عسكري بعينه. فأمريكا تُدير عبر إسرائيل حربًا تمثيلية تحافظ من خلالها على حضورها العسكري والسياسي، في زمن لم تعد فيه شعوب المنطقة تتقبل وجود قواعد أجنبية صريحة كما في السابق.

دوافع الولايات المتحدة: الإمبراطورية تبحث عن تجديد شرعيتها

تعيش الولايات المتحدة منذ عقدين أزمة مزدوجة: أزمة هيمنة دولية متراجعة وأزمة شرعية داخلية متآكلة. فالحروب الطويلة في أفغانستان والعراق أرهقت الرأي العام، والانسحاب الفوضوي من كابول ترك أثرًا نفسيًا عميقًا في صورة واشنطن كقوة عالمية قادرة على فرض النظام. من هنا، جاءت الحرب الجديدة في الشرق الأوسط كفرصة لإعادة ضبط المسرح العالمي.فمن منظور واشنطن، هناك ثلاث غايات مباشرة:

  1. استعادة الردع الأمريكي بعد التراجع في أوكرانيا وتنامي القوة الصينية.
  2. إعادة بناء تحالفات أمنية جديدة تمتد من المتوسط إلى البحر الأحمر، بحيث تضمن بقاء خطوط الطاقة والتجارة تحت السيطرة الغربية.
  3. منح إسرائيل دورًا متقدمًا في حماية المصالح الأمريكية، بعد أن أصبحت واشنطن أقلّ رغبة في التورط العسكري المباشر.

ورغم ذلك، فإن هذه الأهداف تحمل في طياتها تناقضًا خطيرًا: فكلما توسّعت الحرب وازدادت وحشيتها، زادت كلفة الشرعية الأخلاقية والسياسية على الغرب، واهتزت صورته أمام شعوبه وأمام الجنوب العالمي الذي يتابع المشهد بغضب مكتوم.

إسرائيل: الثكنة التي خرجت عن السيطرة

منذ قيامها، مثّلت إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة أداة مزدوجة: ذراعًا عسكرية متقدمة في قلب الشرق الأوسط، وقاعدة فكرية لتكريس النموذج الغربي الاستيطاني في منطقة عربية كانت ترفض الانصياع. لكن هذا الدور تحوّل مع الزمن إلى عبء استراتيجي. فإسرائيل اليوم ليست فقط حليفة أمريكا، بل أيضًا إحدى نقاط ضعفها في النظام الدولي. خلال العقود الماضية، نجحت تل أبيب في اختزال الدعم الأمريكي إلى شبكة تبعية متبادلة: واشنطن تموّل وتغطّي، بينما توفر إسرائيل خبرة تكنولوجية واستخباراتية، وتقوم بعمليات لا ترغب أمريكا في تبنيها علنًا. وهكذا تحوّلت الدولة الصهيونية إلى ثكنة أمريكية متقدمة، تمتلك استقلالاً تكتيكيًا لكنها تبقى مرتهنة استراتيجيًا بالقرار الأمريكي. ومع تصاعد الحرب على غزة، ظهر هذا الترابط في أوضح صوره: فإسرائيل لا تستطيع خوض حرب طويلة دون الذخيرة الأمريكية ولا دون الغطاء السياسي في مجلس الأمن، كما لا تستطيع واشنطن التراجع دون المخاطرة بانهيار حليفها المركزي في الشرق الأوسط. إنها علاقة رهينة: لا واشنطن قادرة على كبح جنون تل أبيب، ولا تل أبيب قادرة على البقاء دون واشنطن.

اتساع رقعة النار: من غزة إلى بيروت وصنعاء وطهران

لم تعد الحرب مجرد «عملية عسكرية» في غزة؛ بل تمددت إلى نظام إقليمي متشابك. فلبنان عبر حزب الله دخل المواجهة بحدود مدروسة، واليمن عبر جماعة أنصار الله فتح جبهة البحر الأحمر في سياق استراتيجية الضغط على خطوط الملاحة، بينما تراقب إيران المشهد كقائد غير معلن لمحور المقاومة. هذه الجبهات ليست متجانسة، لكنها تشترك في تصور واحد: أن استمرار الحرب في غزة يعني تصفية القضية الفلسطينية نهائيًا، وأن الردّ المتعدد الجبهات هو الوسيلة الوحيدة لردع واشنطن وتل أبيب.
ومع كل أسبوع يمر، تزداد مؤشرات الانهاك الإسرائيلي، ويظهر أن «الأمن المطلق» الذي وعد به نتنياهو مجرد وهم استراتيجي يستحيل تحقيقه في بيئة معادية تمتد من البحر إلى البحر. في المقابل، تراهن واشنطن على أن الردع المفرط سيؤدي إلى تراجع هذه القوى، لكن الواقع أثبت العكس: فكلّ تصعيد إسرائيلي يولّد مزيدًا من العداء الشعبي، ومزيدًا من التعاطف مع المقاومة، ومزيدًا من الشكوك داخل الرأي العام الغربي ذاته.

الحسابات الانتخابية: ترامب، بايدن، ونتنياهو في مرآة الحرب

الحرب ليست منفصلة عن اللعبة الداخلية في واشنطن وتل أبيب. في الولايات المتحدة، خاض بايدن معركة إعادة انتخاب صعبة، ويواجه ضغوطًا من القاعدة التقدمية داخل حزبه التي ترى أن الدعم المطلق لإسرائيل يضر بصورة أمريكا. وفي المقابل، يروّج دونالد ترامب لفكرة أن «الحسم السريع» و«اتفاق القوة» هما الحلّ، واعدًا بإعادة النظام إلى الشرق الأوسط عبر الصفقات لا عبر الحروب الطويلة. لذلك شجّع ترامب — حتى قبل عودته الرسمية للمشهد الانتخابي — على اتفاقات أمنية واقتصادية يمكن تسويقها كبدائل للانخراط العسكري، مثل التطبيع الموسّع بين دول الخليج وإسرائيل، وضمان تدفقات التمويل المتبادل. هذه الاتفاقات تحمل في طياتها منطق رجل الأعمال لا منطق الدولة: استقرار مؤقت مقابل مصالح مالية وسياسية.

أما في إسرائيل، فالوضع أكثر تعقيدًا. نتنياهو يخوض حربه الشخصية بقدر ما يخوض حرب الدولة. فملفات الفساد والاحتجاجات الداخلية تهدده، والعفو المحتمل عنه بات جزءًا من صفقة سياسية أوسع تهدف إلى إعادة إنتاج النظام السياسي الإسرائيلي بعد الحرب. من هنا نفهم أن استمرار الحرب بالنسبة لنتنياهو مسألة بقاء سياسي، وليست فقط خيارًا استراتيجيًا.

أوروبا: بين القيم المعلنة والمصالح الخفية

الموقف الأوروبي من الحرب يعكس أزمة عميقة في الهوية السياسية للقارة. فبينما ترفع أوروبا شعارات «حقوق الإنسان» و«القانون الدولي»، فإنها تصمت على المذابح الجماعية في غزة، وتكتفي بتصريحات رمادية تخشى أن تثير غضب واشنطن أو تضر بعلاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل والخليج. لكن تحت هذا السطح، تبلور انقسام متزايد:
دول الشمال والغرب تميل إلى الاصطفاف خلف أمريكا بدافع أمني وسياسي. بينما تبرز أصوات جديدة في الجنوب (إسبانيا، أيرلندا، بلجيكا) تطالب بموقف أخلاقي مستقل.
تأثير الحرب على الداخل الأوروبي ليس بسيطًا؛ فالمجتمعات تشهد استقطابًا حادًا بين تيارات مؤيدة لإسرائيل وأخرى متعاطفة مع الفلسطينيين، وبينهما تيار ثالث يرفض أن تُختزل القيم الأوروبية في ازدواجية المعايير. هذا الانقسام يعكس التحول الأعمق في ميزان القوى داخل الغرب نفسه: فالإجماع الأطلسي الذي ساد بعد الحرب الباردة بدأ يتصدّع، والشرق الأوسط بات أحد محاور اختبار ذلك التفكك.

التحالفات الجديدة: خريطة الشرق الأوسط بعد العاصفة

في ظل هذا الاضطراب، تسعى واشنطن إلى صياغة تحالف أمني جديد يضم إسرائيل وبعض دول الخليج لمواجهة إيران وحلفائها. لكن هذه الفكرة تواجه عقبتين أساسيتين: من غياب الثقة الشعبية: فالرأي العام في معظم الدول العربية لم يتقبل بعد فكرة التحالف مع إسرائيل، خاصة بعد حجم الدمار في غزة وتناقض المصالح: فالدول الخليجية وإن كانت تشارك واشنطن قلقها من إيران، إلا أنها تدرك أن إسرائيل لا توفر لها الأمن بقدر ما تستجلب العداء الإقليمي. من ناحية أخرى، تتحرك روسيا والصين بهدوء في الجهة المقابلة، مستفيدتين من تآكل المصداقية الأمريكية. فكلما طالت الحرب، اتسع المجال أمام التحالف الأوراسي ليظهر كخيار بديل، سواء في تسليح إيران أو في الوساطة الدبلوماسية. وبين هذه المحاور المتنافسة، تبرز تركيا كقوة وسطى تحاول التوفيق بين مصالحها في الناتو وطموحاتها في العالم الإسلامي، فيما تقف مصر والأردن في موقع الدفاع الحذر، تخشيان الانفجار الشامل على حدودهما.

العقل العربي بين الرفض القديم والاستكانة الحديثة

حين نعود إلى ذاكرة 1967، نرى أن الهزيمة العسكرية آنذاك ولّدت طاقة رفض هائلة في الوعي العربي. كان الخطاب العام مليئًا بالغضب والأسئلة الوجودية، فخرجت من رحم النكسة مشاريع فكرية وسياسية تبحث عن طريق جديد: من القومية إلى اليسار، ومن الثورة إلى المقاومة. لكن مع مرور الوقت، حدث انقلاب هادئ في البنية النفسية والسياسية للعالم العربي. فبعد حرب أكتوبر 1973، تحوّل الشعور بالكرامة المستعادة إلى تسوية سياسية مع الغرب، ثم إلى تطبيع تدريجي مع من كان عدوًا بالأمس. تقدّم العقل الرسمي خطوة إلى الوراء بحثًا عن الأمن والاستقرار، بينما تراجع العقل الشعبي أمام سطوة الإعلام والنفط والاستهلاك. لم تعد فلسطين في قلب الوعي الجمعي كما كانت، بل أصبحت رمزًا يستخدم عند الحاجة.وفالأنظمة ربطت بقاءها بمعادلات دولية تتطلب «الاعتدال»، والشعوب أرهقتها الأزمات الداخلية والخيبات المتكررة. ومع ذلك، فإن مشهد غزة اليوم يعيد إحياء الخيط الخفي في الوجدان العربي الذي لم يمت تمامًا: ذلك الشعور بأن الظلم في فلسطين هو مرآة لكل ما يحدث في العواصم العربية من قمع وتبعية.والاستكانة الراهنة ليست قدرًا نهائيًا، بل نتيجة تراكم طويل من الهزائم النفسية والسياسية. فالعقل العربي الرسمي يعيش بين مطرقة الخوف من الفوضى وسندان التبعية للغرب، والعقل الشعبي يعيش بين وعي المقاومة وغواية اللامبالاة.
لكن الحروب الكبرى، كما تُثبت التجارب، لا تُبقي الأشياء على حالها: إنها تُعيد صياغة المعاني، وتدفع الشعوب إلى إعادة اكتشاف ذاتها ولو بعد حين.

دلالات الصراع الراهن: بين نهاية مرحلة وبداية أخرى

الحرب الحالية تكشف أن الشرق الأوسط يقف عند نقطة تحوّل تاريخية. فلم تعد إسرائيل قادرة على فرض سلامها بالقوة، ولم تعد أمريكا قادرة على إدارة المنطقة من خلف الستار. وفي المقابل، لم تتشكل بعد منظومة بديلة مستقرة؛ إذ لا تزال القوى الصاعدة (إيران، تركيا، روسيا، الصين) تفتقر إلى إطار موحد قادر على ملء الفراغ الأمريكي. بهذا المعنى، يمكن قراءة الحرب كصراع بين نظام قديم يحتضر ونظام جديد لم يولد بعد. النظام القديم — القائم على الردع الأمريكي والتفوق الإسرائيلي — يتآكل تحت ضغط الحقائق الميدانية والأخلاقية. أما النظام الجديد فيتلمس طريقه عبر تحالفات مرنة واقتصادات مقاومة وتبدلات في الوعي الشعبي. إن أخطر ما في هذه اللحظة التاريخية ليس فقط الدم والدمار، بل إعادة تعريف الصداقة والعداوة في العالم العربي.وفما بين من يرى في إسرائيل شريكًا اقتصاديًا محتملًا، ومن يراها عدوًا وجوديًا، تتشكل خريطة جديدة للعلاقات العربية ـ العربية، أكثر تعقيدًا وتناقضًا من أي وقت مضى.

الوعي العربي أمام الامتحان الأخير

قد تكون هذه الحرب، بكل مآسيها، آخر امتحان حقيقي للضمير العربي. فإما أن تستعيد الشعوب وعيها بوحدة مصيرها وتتحرر من عقدة الخوف والتبعية، أو تغرق إلى الأبد في مرحلة «اللا معنى»، حيث تصبح الهزائم مجرد نشرات إخبارية عابرة. لقد علّمتنا تجارب التاريخ أن الأمم لا تموت بالهزيمة، بل تموت حين تكفّ عن الإحساس بالهزيمة.
وإذا كان الوعي العربي قد خدرته سنوات النفط والتقنيات والعزلة، فإن مشاهد غزة ولبنان واليمن اليوم تُعيد إليه أسئلة الوجود الأولى: من نحن؟ ولماذا نُهزم؟ ولمن نُقاتل؟ ليست هذه الحرب فصلًا في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي فحسب، بل بداية محاسبة تاريخية لعقود من الخداع الرسمي والاستقالة الفكرية. فالذين ظنّوا أن التطبيع هو طريق النجاة يكتشفون اليوم أن الأمن لا يُشترى بالسكوت، وأن التاريخ لا يُغلق بقرار سياسي.

نحو قراءة شاملة: الخلاصة التحليلية

الحرب الأميركية ـ الإسرائيلية الممتدة على أكثر من جبهة ليست حادثًا منفصلًا، بل جزء من عملية إعادة تشكيل شاملة للنظام الدولي. تسعى واشنطن إلى تثبيت موقعها كقوة لا غنى عنها، فيما تحاول إسرائيل إعادة تعريف وجودها كحصن للغرب في الشرق.
وفي المقابل، تقاوم قوى إقليمية هذا المشروع دفاعًا عن استقلالها ورؤيتها للعالم.
لكن ما هو واضح أكثر من أي وقت مضى أن المركز لم يعد قادرًا على احتواء الأطراف.
لقد أصبح الشرق الأوسط فضاءً مفتوحًا لصراعات متداخلة لا يمكن حسمها بالقوة وحدها. ومهما بلغت وحشية القصف أو حجم الدعم الأمريكي، فإن نتائج هذه الحرب ستتجاوز سلاح الطائرات والمدافع إلى حرب الوعي والشرعية — وهي الحرب التي بدأت إسرائيل والولايات المتحدة تخسرانها تدريجيًا أمام الرأي العام العالمي والعربي.
لقد دخلت المنطقة مرحلة اللاعودة: لن تعود إسرائيل إلى صورتها السابقة كـ«واحة أمن» وسط بحر من الأعداء، ولن تعود أمريكا إلى صورتها كـ«الضامن الأخير للنظام الدولي». ومع كل ذلك الخراب، ثمة يقين خافت ينمو في الوعي الجمعي: أن دورة التاريخ، مهما طالت، تميل في النهاية إلى العدل لا إلى القوة

عن د. عمرو محمد عباس محجوب

د. عمرو محمد عباس محجوب

شاهد أيضاً

تحولات النخبة العربية: من التبعية للغرب إلى فكر المقاومة والوحدة

تحولات النخبة العربية: من التبعية للغرب إلى فكر المقاومة والوحدة (1979–2025) (٢-٣) القسم الثاني: ما …