الحرب والسلام في ميدان بري أو نسونة ومرجلة في مقام حاتم الطائي!

 


 

 

 

سيظل ما شهده ميدان الدرايسة بمنطقة بري مثار تعليقات وتندر وتحليل لمدى طويل وسط السودانيين، وربما سيدخل الحدث ضمن أكثر "المواقع الحربية السودانية" التي يذكرها التاريخ طويلاً، ومن بينها تلك المعارك الأشهر والتي شهدتها جيوش الدولة المهدية، بقيادة القائد العسكري الوطني عثمان دقنة والذي تخصص في حروب العصابات والمعتمدة على " الكر والفر" كخطة حربية في مواجهة العدو!. وبالطبع فإن مواجهة الجماهير المحتجة للثوار في الشوارع وفي كل العالم الذي يشهد مواجهات طرفها الآخر قوات نظامية لحفظ الأمن، فإن طابعها الذي تعتمد عليه تلك الجماهير المحتجة هو "الكر والفر"!.

وكان من المفترض أن يكون من مهام وأهداف القوة العسكرية المكلفة بالتصدي لمثل تلك المظاهرات والمواكب هو ضبط النفس وحفظ الأمن والممتلكات والأرواح والتقليل ونزع فتيل اتساع رقعة التظاهر والخسائر قدر حدود طاقات تلك القوات، ولم نسمع مطلقاً أن تعاملت القوات المناط بها تفريق المظاهرات، مع الجماهير الثائرة باعتبارها عدواً عسكرياً متكافئاً في حجم العتاد والمؤن الحربية واللوجستية مع قوات الأمن!، وبالتالي ليس في شرعة فروع التوجيه المعنوي لأي وحدات نظامية، روح التشفي والانطلاق من قاعدة الحاق الهزيمة وسحق المتظاهرين، لأنهم في نهاية الأمر بمثابة مواطنين وجب على السلطات التعامل معهم بهذا الاعتبار ومواجهة "تذمرهم المشروع" ضمن الفهم السليم لمعاني المواطنة وحسن التعامل والتقليل من حجم الأضرار التي يمكن أن يسببها تصدي قوات الأمن لانهاء مظاهر الاحتجاجات الجماهيرية على الشوارع.
بهذا الفهم يمكننا أن نتناول الظاهرة التي حيرت المهتمين والمتابعين فيما شهده ميدان بري الدرايسة، لأنه يقف دليلاً على الفوضى وعدم المسؤولية ومجانبة المهام الأساسية لأي قوة نظامية في مواجهتها للجماهير المغلوب على أمرها، وكيف تعاملت تلك القوات مع المتظاهرين باعتبارهم عدواً عسكرياً، يتساوى تماماً مع جحافل القوات العسكرية التي ما تزال تحتل أجزءاً من أراضينا السودانية كمثال!.
هدفت التجريدة العسكرية والتي عهد لها بتمشيط الميدان والحي السكني الشعبي بمنطقة البراري للانتقام واسترداد كرامة مهدرة، نتيجة لما حدث بخصوص ذاك البنطال العسكري! والذي اتضحت حقيقته، حيث تقول المعلومات التي توفرت بأن الثوار المتظاهرين لم يجردوا الجندي المعني من ملابسه في في الأساس، إنما كان البنطال أصلاً موجوداً داخل العربة التي فرً منها الجندي، فحمله الثوار وعرضوه كغنيمة، لا أكثر ولا أقل!، فأين الكرامة العسكرية التي تريد تلك القوات استردادها بتلك التجريدة العسكرية وبذلك الصلف الذي لا يعبر إلا عن تصرف لا يليق "بقوات عسكرية مسؤولة عن حفظ الأمن بالبلاد"؟!.
وما هو أغرب في ذلك الحدث، أنه جاء مباشرة في أعقاب حديث للواء صلاح قوش كمدير لجهاز أمن النظام والذي تابعه الناس عبر الميديا، وهو يتوجه بتعليماته لقواته بضرورة "الحلم عند الغضب" وعدم الافراط في " القمع" والتعامل مع الجماهير باعتبارهم مواطنين لهم الحق في التعبير عن آرائهم، وهو حديث "طيب ومسؤول"، رغم أن قطاعات عريضة من المواطنين قد شككت في مراميه، وهو ما أثبتته " موقعة ميدان الدرايسة" باعتباره ليس سوى محاولة لامتصاص غضب الشارع من ممارسات جهاز أمن النظام من وحشية غير مبررة في التعامل القاسي مع قطاعات النساء المحتجات واقتحام بيوت الآمنين، مما يشير إلى أن حديث السيد قوش ذاك ليس سوى "كلام في الهوا ساكت" ،، لا أكثر ولا أقل!، حيث تأكد حينها حدس الناس وشكوكهم التي دائماً ما تراودهم تجاه أي نوايا "طيبة" يتم الاعلان عنها من قبل نظام ظل يراوغ طيلة 30 عاماً!.
وفي واقع الحال، فقد كان على جهاز أمن السلطة، الاعتراف بالبلاء الحسن والبطولات التي تجلت في أوساط الشباب المنتفضين، وشجاعتهم التي رأتها تلك القوات رأي العين، مما كان يجب معها أن ينشد قادة وأفراد تلك القوة العسكرية ممجدين تلك الجسارة والصمود التي أبداها المتظاهرون، مترنمين بتلك المقاطع الشعرية للسير كيبلنج شاعر الامبراطورية البريطانية التي حيا فيها جسارة " مقاتلو الدولة المهدية" عندما اعترف بهم وهو يقول لهم:ـ
" قد عرفنا مفارقات ساحات الوغى في حربنا مع الكيبر
وتصدينا لسهام البوير الطائشة عبر المسافات
وارتعشنا عند ملاقاة البورميين
ولمسنا المهارة المتميزة التي يحارب بها الزولو
غير أن كل هذا لم يكن سوى جعجعة ليست بذات أثر
أمام إقدام وجسارة البجا
***
أيها الفقراء ،، البدويون العظام،،
أنتم كسرتم المربع البريطاني"!.
***
كما وجب عليهم أن يشيدوا ببطولة شهداء التظاهرات الشعبية ويعترفوا بشجاعة المتظاهرين وهم يتمكنون "بعد لأي وجهد" من تشتيتهم وإنهاء مظاهر الاحتجاجات في الشوارع والأزقة، بأن يرددوا ما قاله المراسل الحربي وقتها ونستون تشيرشل في مذكرته بعنوان "حرب النهر" حينما اعترف:ـ " كانوا أشجع من مشى على ظهر الأرض ،، لم نهزمهم ولكنا حطمنا قدراتهم بقوة السلاح ،، لقد أبدناهم"!.
من جانب آخر، فلا يمكن لأي من أفراد جهاز أمن النظام إلا ويعترف للمتظاهرين الشباب بما تطبعوا عليه من جود وكرم وحسن تربية، عندما كان أولئك الفتية والفتيات يقدمون باقات المياه الباردة وأحياناً الحلومر المثلج، بأكواب نظيفة لنفس القوات التي تطاردهم وتقمعهم، تارة بالبنبان وأخرى بالرصاص، وقد حدث ذلك في أكثر من حي في العاصمة والأقاليم، بما فيها حي بري الصامد، فيا له من كرم ويا له من جود حاتمي طائيي، ويا لذلك من رسالة حبيبة لشعب كريم الأصل والنفس وعزيز الخصال!.
وفي نفس معاني الكرم والجود قيل أن السلطان، بادى أبو دقن، سلطان مملكة الفونج، أراد غزو ديار تقلي، فذهب بخيله ورجاله، وهو عازم، على هزيمة، سلاطين تقلي، والقضاء عليهم، ولكنه سرعان، ما عاد أدراجه - رغم قدرته على النصر- عندما رأى مروءة، أهل مملكة تقلي، وكرم حاكمها الصنديد قيلي أبو جريدة، فلم يملك، السلطان بادى، آزاء هذا، الكرم النبيل، سوى أن، يقفل عائداً، اٍلى سنار، وهو يقول، ليس من المروءة، محاربة أناس، بمثل هذا الكرم .. فقد كان، السلطان قيلي، يخوض المعارك، بجيوشه ضد، بادى ورجاله، بالنهار، ثم يرسل لهم، ( الضيافة) فى الليل.. لأنهم بعيدون، عن أهلهم وديارهم! ،، وتسقط بس!.

helgizuli@gmail.com

 

آراء