تمر بلادنا اليوم بمنعطف وجودي، حيث تتراقص الحقائق على حبال الأوهام، وحيث تُشعل نار الحرب بفتيل من الأكاذيب الملونة. إن حرب الخامس عشر من أبريل لم تنبت فجأة، بل ترعرعت في تربة خصبة غذتها سنوات من الاستقطاب المرير، لتصبح عقولنا مرتعًا خصبًا للشائعات ونظريات المؤامرة. لقد تحول الفضاء العام إلى ساحة معركة ضروس، لا بالسلاح فحسب، بل بالكلمات الخادعة التي تتسلل إلى الوجدان، وتستعمر العقول دون مقاومة. وبينما أكتب هذه الكلمات المثقلة بالأسى، لا يسعني إلا أن أتخيل كيف تتشوه صور أحبائنا في عيون من صدقوا الأكاذيب، وكيف يصبح الوطن الواحد ساحة للضغائن والأحقاد.
ويا للعجب! كيف لمن هتفوا بالأمس “حرية، سلام، عدالة” أن يجدوا بنادقهم مصوبة اليوم نحو صدور رفاق الأمس؟ كيف يرتد الثائر على مبادئه ليقاتل في صفوف جلاده؟ الإجابة تكمن في تلك السموم البطيئة المفعول التي بثتها آلة التضليل، مستغلة شغفنا بالتصديق، وعطشنا للحلول السريعة، حتى وإن كانت سرابًا لامعًا. لقد أصبح الولاء الأعمى للقبيلة أو الجهة أقوى من نداء الوطن، وأصبحت الهوية الضيقة قفصًا يحبس فيه العقل عن التفكير الحر. ويا لها من مفارقة مؤلمة أن نحارب باسم “الحقيقة” ونحن أسرى أكاذيب صنعناها بأيدينا!
إنها ليست المرة الأولى التي ينزلق فيها التاريخ إلى هذه الهاوية المظلمة بفعل الأكاذيب. ففي غياهب الماضي، أشعلت فكرة “العدو المشترك” حروبًا طاحنة، وغذت التعصب الديني مذابح مروعة. وفي العصر الحديث، ما زلنا نتذكر كيف سوّقت أكذوبة “أسلحة الدمار الشامل” لحرب عبثية مزقت أوصال أمة بأكملها. التاريخ يصرخ في آذاننا، محذرًا من الانقياد الأعمى، لكن آذاننا صماء. وحتى في أزهى عصور الأدب، لطالما كشف الفنانون والمفكرون زيف السلطة وسطوة الوهم، مقدمين لنا مرآة نرى فيها حقيقة أنفسنا ومجتمعاتنا.
لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي، التي كان من المفترض أن تكون نافذة نطل منها على العالم، إلى متاهة من الأخبار الزائفة، حيث “تتطاير الشائعات كالغبار في يوم عاصف، تحجب الرؤية وتعمي البصيرة.” لقد أسهمت خوارزميات مصممة لجذب الانتباه في خلق فقاعات معلوماتية خانقة، حيث لا نسمع إلا صدى أصواتنا، وتترسخ قناعاتنا المتحيزة أكثر فأكثر. إنها ليست معركتنا وحدنا فكم من أمة أخرى اكتوت بنار التضليل في هذا العالم الرقمي المعولم؟
لكن، هل نستسلم لهذا الوهم؟ هل نرضى بأن نكون مجرد قطع شطرنج تحركها أصابع خفية؟ “العقل مصباح، والجهل ظلام دامس” كما قالها سلف عظيم. فلماذا نختار العتمة ونحن قادرون على إضاءة الطريق بأنفسنا؟ الحل يكمن في ثورة تبدأ من الداخل، ثورة على التسليم الأعمى، وثورة على الانجرار العاطفي.وثورة وعي، علينا أن نسأل ما الدليل؟ من المستفيد؟ لماذا أصدق هذه الرواية تحديدًا؟ ابدأ اليوم بخطوة صغيرة تحقق من مصدر أي خبر يثير فيك الشك قبل أن ترسله لغيرك.
إن وقف هذا النزيف، هذا العبث الذي يلتهم حاضرنا ويقضي على مستقبلنا، هو مسؤوليتنا جميعًا. يجب على النخب أن تكون منارات هادية في بحر الظلمات، وعلى التعليم أن يغرس بذور التفكير النقدي في عقول الأجيال القادمة. والأهم، يجب على كل واحد منا أن يكون حارسًا لعقله، وألا يسمح للشائعات أن تتكاثر في ذهنه كالفيروسات. فلنتذكر دائمًا أن “الحقيقة شجرة مُرة، لكن ثمارها شهية.”.
حان الوقت لأن نستفيق من هذا الكابوس، وأن ننظر إلى الواقع بعيون يقظة وعقول متفتحة. مستقبل بلادنا ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتاج خياراتنا وقدرتنا على التمييز بين الوهم والحقيقة. فلنجعل من عقولنا حصونًا منيعة ضد التضليل، ولنجعل من وحدتنا الوطنية سدًا قويًا يمنع طوفان الكذب أن يجرفنا جميعًا. وحده العقل المستنير، القادر على التفكير المختلف، هو سبيلنا للخروج من هذه العتمة واستعادة وطننا المسلوب، وطن يستحق منا أن نفكر بقلوبنا وعقولنا معًا.
شارك هذا النداء مع من تظن أن كلماتي قد تلامس وعيهم .
محمد هاشم محمد الحسن.
21ابريل2026
herin20232023@gmail.com