وجدي كامل
wagdik@yahoo.com
حتى لا يبدو هذا العنوان صادمًا أو جارحًا، لا بد من توضيح أن المقصود الإشارة إلى حقيقةٍ موجعة: الحرب الدائرة اليوم ليست سوى جثةٍ طافيةٍ على سطح تاريخٍ طويل من الاستبداد الثقافي والديني الذي كبّل وعي المجتمع، وأثقل الحياة السودانية بقيودٍ عمرها أكثر من خمسة قرون — من سلطنة سنار عام 1504 وحتى يومنا هذا.
لقد تشكّل التاريخ السوداني الحديث في ظلّ تركةٍ ثقيلةٍ من الأحادية الفكرية والدينية، جعلت من الهوية مشروعًا ناقصًا، ومن الدولة كيانًا هشًّا متأرجحًا بين الولاءات والانقسامات. فالمراحل المتعاقبة — من السلطنة الزرقاء إلى الدولة المهدية، ثم فترتي الاستعمار التركي–المصري والبريطاني–المصري — لم تُنتج نموذجًا وطنيًا متماسكًا، بل أعادت إنتاج شكلٍ من التطور الشكلي الفاقد لمضمونه البنيوي، خاصة بسبب العلاقة المريضة مع النموذج الكولونيالي الذي أُخذت عنه مظاهر الحداثة دون روحها الفكرية والفلسفية.
ورغم اختلاف فلسفات الحكم بين المستعمرين، فإنهم جميعًا مارسوا استغلالًا ماديًا وبشريًا ممنهجًا، مستفيدين من هشاشة البنى الاجتماعية وغياب المشروع الوطني الجامع. غير أن المسؤولية لا تقع على الاستعمار وحده، فالسودانيون أنفسهم — في نظمهم المحلية القديمة والحديثة — تبنّوا ذات النهج الاستبدادي في الحكم، وسعوا لتكريس السلطة باسم الدين، لبناء دولٍ ودويلاتٍ تتغذى على الواحدية الثقافية والدينية، وتُقصي بقية المكونات المجتمعية ” شعوب السودان المتنوعة” من المجال العام.
هكذا تكرّست الفكرة التي أرادت للسودان أن يكون دولة إسلامية عروبية شرق أوسطية، متجاهلةً مكونات تنوعه العرقي والثقافي، فكانت النتيجة دولةً قامت على وحدةٍ ناقصةٍ تأسست على وحدة الدين لا على وحدة المواطنة. ومن هنا، فإن القول بموت “دولة 1956” ليس سوى وهمٍ يُخفي حقيقةً أعمق واشد وبالا: أن الوفاة الحقيقية أصابت الوعي التاريخي والوعى بالتاريخ والواقع نفسه، وامتدّت إلى مفاهيم الدولة والمجتمعات والهوية مما غذى ظاهرة الالحاق الثقافي او الاستيعاب.
في هذا السياق، كانت الدولة المهدية نموذجًا صارخًا لإعادة إنتاج الاستبداد باسم الدين. فبرغم تنوع القوى التي أسهمت في قيامها والتنويعات العرقية والدينية والثقافية، اختارت قياس الانتماء الوطني بمعيار العقيدة الدينية فقط، لا المشاركة، لتقع في ذات الفخ الأنظمة اللاحقة التى خلقت من المهدية المنصة المثالية لإطلاق تعريف الوطنية والمواطنة.
وعلى امتداد تاريخ السودان الحديث — من الاستقلال عام 1956، مرورًا بثورة أكتوبر 1964، والانتفاضة 1985، ثم ثورة ديسمبر 2018 — فشلت القوى الوطنية في وضع أساسٍ ثقافيٍ واضحٍ يتأسس على التنوع لدولة المواطنة لأسباب تتصل بعدم توظيف لحظات التحول بصفة خلاقة ينتصر فيها التجرد وقيم النزاهة الوطنية على المصالح الحزبية مما يغري القوى المضادة وحراس وضعية التخلف التاريخي على التحرش واستعادة السلطة بالقوة. في اثناء ذلك، وارتباطاً به، ظلّت العلاقة بين الدين والدولة ممنوعا من الاقتراب او التصوير لم يجرؤ أحد على تجاوزه، ما عمّق الانقسامات ورسّخ احتكار السلطة الروحية للدولة.
خلال أكثر من خمسة قرون، لم يشهد السودان نهضةً حقيقيةً في الزراعة أو الصناعة أو التعليم أو الخدمات. فقد ظل الإنسان السوداني خارج مشروع التنمية، وأسير صراعاتٍ وهياكل سلطةٍ كرّست الجهل والتبعية. ومع نهاية القرن العشرين، بلغ هذا الاستبداد ذروته مع صعود الحركة الإسلامية بعد مصالحة نهاية السبعينيات، وصولًا إلى انقلاب ٣٠ يونيو 1989 الذي وضع البلاد تحت قبضةٍ فكريةٍ عقائدية واقتصاديةٍ وأمنية شاملةٍ باسم “التمكين” والمحاباة على اساس الاخوة في التنظيم السياسي كما تشهد بذلك تجربة المؤتمر الوطني.
لقد مثّلت تجربة حكم المؤتمر الوطني باجهزته الامنية والعسكرية والاقتصادية حربًا كذلك على فرص الوحدة الوطنية، إذ استُخدمت أدوات الدولة لتطبيق سياسة “فرّق تسد” – ذات الطريقة الكولونيالية، فتمّ تفكيك المجتمعات في أخصّ وحداتها وتمزيق القيم الثقافية باسم الدين والشريعة “قوانين سبتمبر” ، التي كانت المنصة الحقيقية لتصدير الحروب القادمة، حتى أصبحت الحرب — كما رأيناها في الجنوب ومن ثم في دارفور ، وكما نراها اليوم — نتيجةً طبيعيةً لمسارٍ طويلٍ من أعمال القهر والاحتكار.
إن ما نعيشه اليوم ليس صراع جنرالين على السلطة كما يروَّج، ولا مجرد محاولة من الإخوان المسلمين للعودة إلى الحكم وكفى، بل هو انفجار تراكمات خمسة قرون من الاستبداد الثقافي والديني. هي حربُ وعيٍ قبل أن تكون حربَ سلاح. وأي مشروعٍ لإيقافها لا يبدأ إلا باستعادة الحقيقة التاريخية الضائعة – حقيقة الحكم على اساس المساواة وتجذيرها بالعدالة وحكم دولة القانون لمحاربة الاستبداد الثقافي الديني المزمن الذي حرسته مختلف المؤسسات التعليمية والفقهية، ثم الامنية، حديثا— أي ان يعني ذلك بناء دولةٍ تفصل الدين عن السياسة والسلطة، وتحرر العقل من وصايتها.
المؤلم حقا أن السلام مطلب عزيز يسوق له من أغلبية السودانيين والسودانيات الذين تأثروا بويلات الحرب ، لكنه لا يجهز بصفة عظيمة من قبل قوى التغيير المدنية او الحزبية بان يتم خلق استراتيجيات ثقافية او إعلامية نوعية لاحداث الفرق المطلوب. اما السلطة الحالية- سلطة بورتسودان، بدل أن تواجه هذه الحقيقة، تدفع الناس بنوايا الفساد المبطنة والمستبطنة للعودة إلى حياتهم القديمة، وكأنها حياةٌ بريئةٌ من جذور المأساة. يُراد لنا أن ننسى أن الأزمة أعمق من الأشخاص، وأن جذورها تمتد إلى الوعي التاريخي الذي أعاد إنتاج نفسه عبر قرونٍ من التضليل وتسويق الفكر الأسطوري، على حساب الفكر الواقعي والواقعية في التفكير دعما لتحسين وجود الإنسان وتوظيفا حميدا لثروات المجتمعات المادية والبشرية.
قد تتوقف الحرب غدا، وقد يعود الناس إلى بيوتهم بنحو أو آخر ، لكن إن لم نقتل “الحية” التي تنفث سمومها في وعينا — أي استبعاد التفسير الديني للمواطنة وهيمنة المقدس على الدولة ومحاربة الأكاذيب— فسنبقى ندور في ذات الحلقة.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم