الحرية

د. أبوبكر الصديق على أحمد مهدي
فَتَنَتهُ مَحاسِنُ الحرية
لا سُلَيمى وَلا جَمالُ سُمَيَّه
هِيَ أُمنِيَةُ الجَميعِ وَلَكِن
أَرهَقَتهُ الطَبيعَةُ البشرية
وَعَجيبٌ أَن يُخلَقَ المَرءُ حُرّاً
ثُمَّ يَأبى لِنَفسِهِ الحرية – ايليا أبو ماضي
عندما كان جالساً في الحديقة، لاحظ الفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود وجود “أسرة” النخلات الثلاث، وهن أول ما وقع نظره عليهن، وظل ببصره مركزاً فيهن لمدة ليست بالقصيرة، يصعد ببصره مع جذورهن الشامخات الفارهات الممشوقات حتى يصل الي رؤوسهن، ثم يحرك نظره نزولاً من رؤوسهن الي منابتهن على الأرض المعشوشبة بعشبها الأخضر، هكذا، يا سبحان الله؟، أو كما كان يردد، سراً وجهراً، انهن ثلاث نخلات، منتميات الي اسرتهن النباتية، مُشكلات ومكونات أسرة واحدة، وكان فيهن من الشبه أشده.
لكن أنظر! أنظر، كيف ظللتهن الحياة بما يتميزن به من خصائص، فأصبحن متفردات، تتفرد كل واحدة منهن بشيء يميزها عن أختيها؟ يا سبحان الله، ثم يا سبحان الله!، وكان ذلك فيه “حكمة” قائلة، ألا يشبه كائن حي كائن حي آخر، وهي حكمة الخالق في خلقه من الأحياء. وهي أن يكون للكائن الحي فرديته المميزة وميزته المتفردة، حتى ولو تمركزت هذه الفردية المتفردة المتميزة في أصغر التفصيلات الدقيقة الصغيرة التي لا تُرى أو تُرى ولكن بصعوبة شديدة. وتكمن الحكمة، إذا قلبنا الفكر شوية، في أنه إذا تشابه كائنان من الأحياء تمام الشبه في كل التفاصيل، كان واحد من الكائنين قد خلق عبثاً، وتعالى الخالق البارئ المصور، أن يجيء بعبث في خلقه.
وهنا السؤال الذي يأخذ له مكاناً، ليقول، هل كان بالإمكان أن تخطر بفكر فيلسوفنا خاطرة كهذه، دون أن تتبعها خاطرة أخرى، لتحدثه قائلة، إذا كانت هذه الأسرة، الأسرة النخلية، على شدة ما بين شخصياتها من شبه، لم يُسلب منها الحق في أن تتفرد بناتها بما يحلو لكل منها أن تتفرد بشيء، وهو تفرد في أعماقه ينم عن شيء من “حرية” تركت لكل واحدة منهن أو لكل نبتة منهن أن تمارسها، حتى تكون قادرة على مقابلة تحديات ومواقف حياتها بما يناسبها وبما يلائمها! فهل يجوز لعائلة ما من بني البشر أن تقولب أبناءها في قوالب حديدية، حتى لا يكون هناك مجالاً أو ألا يكون هناك متنفساً حراً لأي منهم إذا أراد أن يتنفس؟
وأغمض عينيه برهة، واضعاً رأسه على ظهر مقعده، وكان مقعداً مديداً مريحاً من قماش، يتيح للجالس أن يتمدد فيه في وضعية نصف رقاد، فعادت به أفكاره لذكريات مريرة مليئة بالألم، لم يكن صاحبنا يريد لها أن تختار لها مكاناً وتنزوي في الذاكرة وسط هذا الهدوء الساكن الجميل، فترك هو الحرية لعينيه، لينشغل البصر بما يراه حوله، فكان أن راي بجانبه، بجانب كرسيه “أسرة” أخرى، ولكن هذه المرة من ست حمامات رماديات اللون، يختلط هذا اللون الرمادي بريشات بيضاء على جناحيهن وحول أعناقهن. ولم يكُن ساكنات هادئات في مكانهن سكون تلك النخلات في مغارسها من الأرض، ولكنهن كُن في حركة دائمة، بعضهن حول بعضهن، بحيث يحتفظن بتكوينهن العام، وهو تكوين شبه دائري. وهذا جعل لهن إطار عام يتميز بالثبات، برغم الحركة الدائبة لهن، والتي أخذت تتحرك كل واحدة منهن على حدة.
ويقول فيلسوفنا، أن كل من تجاوز البحر الأبيض المتوسط الي بقعة من بقاع أوروبا، لا بد أن يلاحظ -في دهشة- كيف لا تخاف الحمائم وتنفر من بني البشر، اذ تعلمت من خبرتها ألا فزع وألا خوف عليها من أبناء آدم فسكنت له واطمأنت له، يتحرك هذا البني آدم أمامها ووراءها والي جوارها كيف شاء وكيفما يشاء، فلا تفر ولا تنفر ولا تفزع حمامة لتطير. يا سبحان الله!
ويواصل في وصفه، دكتورنا، ولما دققت النظر في أسر النخل، دققته في الحمائم، لأكتشف العبرة أوفي وأشفى وأقوي، بمقدار ما يتميز به حيوان عن نبات، فكل حمامة التزمت صاحباتها، ولم يكن لها خيار في أن تضع ذاتها في طبيعة الحمام! أذ ليس في قدرتها أن تتمرد على طبيعتها، لتكون صقراً أو لتتحول عصفوراً، وبالرغم من كل ذلك، فقد تُرك لها شيء من “حرية” الحركة لتتميز به، ولتتفرد به في مواجهة ما عساها تقابله مما لا يقابل سواها.
وكما ختم حديثه عن النخل، ختمه في كلامه عن الحمامات أو عن الحمام، فتساءل، أتكون هذه الحياة ومعها نواميسها قد أعطت كل حمامة ميزة تتميز بها عن سائر أخواتها، ثم نلحظ جماعات من الانسان من يريد أن يتنكر لهذا الحق الإلهي الذي أراده خالق الأحياء للأحياء، بحيث ترى هؤلاء المتنكرين يريدون لكل انسان معهم أن يلتزم في تفكيره وفي سلوكه بقضبان من حديد لا يفل، صنعوها بأوهامهم، وغرسوها في الأرض بجبروتهم… ووافضيحتاه.. وواخجلتاه!
اذن، ما هي الحرية؟ هي إرادة واعية بين نفي واثبات في موجود، هكذا كانت إجابة المفكر الدكتور شحرور في كتابه الجميل الدولة والمجتمع، ويستمر ليقول بأن الديمقراطية ما هي الا ممارسة هذه الحرية في المجتمع بواسطة افراد هذا المجتمع، وتكون ممارستها وفق مرجعية معرفية، أو أخلاقية، أو جمالية، أو عرفية.
وهنا يحق لنا أن نسأل… لماذا اُعتبر وجود الراي والراي الآخر في المجتمع أمر حتمي لا بديل له؟ واجابة هذا السؤال تدفعنا لنسال قبل أن نجيب السؤال التالي، هل قانون الاستقراء العلمي ينطبق على المجتمعات الإنسانية في استنتاج غير القليل من الأحكام؟ ودائماً الإجابة تكون بالنفي “لا”، وهذا يعني أن هذا القانون لا ينطبق على هذه المجتمعات الإنسانية حتى نستطيع أن نستنتج منها أحكام أو نستنتج الكثير من الأحكام.
وعليه فلا نستطيع الا أن نقر بأن وجود الراي والراي الآخر شيء لا بد منه، وهو الحل العلمي الوحيد المتاح لنا وهو المكافئ للمنهج العلمي في العلوم الطبيعية. ويشير مبدأ الراي والراي الآخر الي ما نسميه بحرية التعبير عن الرأي. ومن خلال ذلك نستطيع ونكون قادرين على اكتشاف التناقضات الداخلية، وعلاقة التأثير والتأثر المتبادل داخلياً وخارجياً. فهو لا يعتبر وسيلة وكذلك لا يعتبر غاية في نفسه، ولكنه، يعتبر بمثابة نمط حياتي.
وعلى الجميع أن يفهم وأن يعرف بأن هذه الحرية وتلك الديمقراطية لا يخبزان لنا خبزاً، ولا يقتلا جوع الفقر، ولا يستطيع الفقير أن يصبح غنياً ثرياً بفضلهما، ولكنهما النمط العلمي للحياة الإنسانية لكل من الغني ولكل من الفقير. ولا تنطلي خرافة الخبز مقابل الحرية والديمقراطية الا على السذج وعلى الجهال.
فوجود المنهج العلمي الوحيد في حياتنا يكون من خلال وجود الرأي والرأي الآخر، ومن خلال حرية التعبير عنهما، وترسيخهما في جسد المؤسسات الإعلامية والحزبية والسياسية والتشريعية. واستجابة للحرية وفهمها وتعريفها القائل بأنها إرادة انسان واع بين ضدان، والضدان هما اثبات (نعم) ونفي (لا) في موجود، والموجود هو المجتمع. فلا بد من أن تسمح بنية المجتمع، أي مجتمع، لأعضائها بممارسة الحرية في كل المستويات وعلى كل المستويات، وأعلى هذه المستويات، بالطبع، هي المستوى التشريعي والمستوى السياسي والمستوى الاجتماعي.
وصون حرية الانسان يعتبر إلزام قوي وميثاق غليظ، لا يفترض المساس بها ولكن يجب حمايتها من خلال منع الفوضى من خلال ضوابط صارمة جداً، أتفق وتراضى عليها الناس في شكل دستور يمثل هو المرجعية. وواجب الدستور أن يرسم لنا الإطار العام (نعم/لا)، وواجب القانون أن يعمل على تنظيم الممارسة في إطار الدستور منعاً للفوضى وخلقاً لبيئة صالحة نظيفة مثالية تجد فيها الحرية حياتها وحضورها، فتتمدد وتتوسع مع توسع المعرفة، وايضاً كل ما زاد العلم زادت هي في توسعها وفي تمددها.
فالمنشود هو الحرية المطلقة، ولكننا ولمحدودية امكانياتنا ولضيق دائرة معرفتنا، تكون حريتنا محدودة بقدر محدودية هذه الإمكانيات، وبحجم قطر دائرة معرفتنا، ولكنها قابلة لتتسع وقابلة لتتوسع ولتتمدد في اتجاه الاطلاق مع اتساع الإمكانيات ومع نمو المعرفة، ومع كل ما زاد علم الانسان.
والحقيقة التي لا يختلف فيها انسان وانسان هي الحقيقة القائلة بأن أساس الحياة في الإسلام هو الحرية وهو الإباحية، فمن الطبيعي أن يعبر الانسان عن رأيه ويكشف عن رغبته. وغير الطبيعي أن يُسلب منه هذا الحق المقدس، وكل ما أراد هذا الانسان التعبير عن نفسه، فلا يحتاج أخذ الاذن من أي شخص آخر. فبنية المجتمع الإسلامي تقوم على الحرية وعلى الديمقراطية.
وعلينا ألا نخلط بين الحرية والفوضى، فالحرية يجب أن تتاح بالقانون ويجب أن تصان بالقانون، أما الفوضى فيجب أن تُردع بالقانون، ويجب أن تُحارب بالقانون. فالحرية تحمل مسئوليتها بين راحة يديها وتعض عليها بنواجذها، أما الفوضى فتحمل بين يديها عدم المسئولية وعدم المبالاة، فهي فوضي أليس كذلك؟
وممارسة الحرية يتم حمايتها من خلال تقديم البينات ضد الفوضى. وعملية التقديم هذه، تكون من خلال ممارسة المجتمع للإحصاء في شئونه، ولا يعتمد في ذلك على الاستقراء العلمي الصارم. وإذا افترضنا أنه يقوم على هذا الاستقراء، لما كان هناك تكوين لأجهزة استعلامات في الدول وفي البلاد، لان الاستقراء العلمي الصارم يقوم على الدقة والتنبؤ، ولكن الاستقراء في سلوك الانسان فيعتمد على الاحتمال ولا شيء غيره.
والاحتمال يعتمد على توفر المعلومات، فكلما توفرت المعلومات، كان الاحتمال أكثر دقة، ولكن دقة الاحتمال لا تماثل درجة اليقين. لأن السلوك الإنساني يظل كيفياً في أصله، في حين أن الإحصاء الكمي لا يستطيع أن يغطى السلوك الإنساني، مثل الايثار والغيرة والوطنية والحسد، كمياً.
وعلى ما سلف، نقول بأنهما توأمان لا يفترقان، والمقصود بأنهما، العلم والحرية، ولا سبيل الا أن تقوم بنية الدولة عليهما، والقاسم المشترك بين العلم والحرية هو طرح البينات وايجادها، والراي والرأي الآخر.
ويقول الشيخ الجليل عبد العزيز جاويش في سفره الكريم “الإسلام دين الفطرة والحرية” (2011)، لم يجد القرآن وسيلة لإنعاش العقل وتحريره الا واتخذها واستخدمها، فالقرآن إذا تحاكم فالي العقل، وعندما يأخذ بالحجة يعود الي العقل، وإذا استنكر فاستنكاره يكون على مُلغيين العقل وعلى معطليه، ولم يرضى ولن يرضى الا عن أولى العقل.
ولقد جادل القرآن من جادل من زعماء الملل والنحل وهؤلاء الماديين وأولئك الدهريين بالحجة وبإبراز البراهين، ودعاهم الي التنقيب والي البحث والي النظر، ويقول في محكم تنزيله (لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون).
وهناك آيات كثيرات تلوم وتعاتب أولئك الغافلين الضالين لتعطيل عقولهم وعدم احترامها وعدم الاستجابة لها، واحتباسهم لها في سجن الماضي، سجن ما وجدوا عليه آباءهم، ولو كان الجديد أصلح وأهدى من هذا القديم، قديم أباءهم، ويقول جل جلاله، (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون).
وهناك من الآيات التي غلبت تابعي التقليد وشيعه، الملغيين لألبابهم في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة، وهزمتهم هزيمة تشهد لها مغارب الأرض كما شهدت لها مشارق الكون، (ولا تقف ما ليس لك به علم، ان السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسئولا) و(ومنهم من ينظر اليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون).
ولا تقرأ آية من الآيات الخاصة بالمجادلات الا ووجدت في نهايتها (بل أكثرهم لا يعلمون)، (قليلا ما تذكرون)، (هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين)، (انى يؤفكون)، (لو تشعرون)، (أفلا تسمعون)، (انما يتذكر أولو الألباب)، وهكذا، وهكذا.
لقد كان سلوك القرآن في كل مقاماته، ووفقاً لطبيعة الدين الذي أرسل به رسوله، كان كلما دعا الي عقيدة أو الي ركن من أركان الدين، اعتزل وعفى عن الواجبات، تلك التي تكون فوق قدرة العقول ولا تبلغها الأفهام، وكان كلما أراد طرح أصل من أصوله، شرع أول ما شرع بالمقدمات النظرية، وبعدها يختمها بالتحذير من جحودها والترهيب لمن يجحدوها عناداً وكفراً، وهكذا يقول في محكم تنزيله، (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة)، وأيضاً (لكيلا يكون للناس على الله حجة).
ولم يكن الله جل جلاله، وهو خالقنا ومالك القلوب والأسماع والأبصار، وما أراده من آياته التي أوحى بها الي رسوله الا مثال الكمال المطلق اللائق بأسمائه فهو العدل وهو الحق وهو الخبير وهو الذي لم يرسل جبارين وطواغيت ومسيطرين، ولا ينبغي، وانما أرسلهم مبشرين وأرسلهم منذرين، وهو القائل (فذكر انما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر)، وهو أيضاً القائل (فهل على الرسول الا البلاغ المبين)، (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، (وما نرسل المرسلين الا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق)، (وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد).
وقد كان أول ما شرع به القرآن الكريم في التحاكم الي العقل هو الايمان بوجود الله، فالقرآن وكذلك علماء الكلام وأصول الدين، جميعهم متوافقين على أهمية طلب العقيدة من خلال النظر ومن خلال الاستدلال. فهذه الدعوة الي البحث والي النظر والي التحاكم الي التفكير والعقل، لا تخلو منهما سورة من سور الكتاب الكريم، فالآيات التاليات نطرحها هنا كأمثلة وليس حصرياً….

  1. ((وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين * ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل * ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون)).
  2. ((ان في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)).
  3. ((أفلا ينظرون الي الإبل كيف خلقت، والي السماء كيف رفعت، والي الجبال كيف نصبت، والي الأرض كيف سطحت)).
  4. ((وفي أنفسكم أفلا تبصرون)).
  5. ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)).
  6. ((أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء)).
    ولضيق المساحة نكتفي بهذا القدر من الآيات، وننتقل الي مسألة مهمة أخرى وهي البحث في أمر، وجد الباحثون أنفسهم فيه يتخبطون، ومن رحم هذه الحيرة خرج سؤال يقول، ما مصير الباحث الذي لم يقصر في النظر والبحث، ولكنه بالرغم من ذلك لم يصل الي العقيدة الحقة في الدين؟
    وهناك كثير من الآراء المتاحة في القراطيس المخصوصة بمثل هذه المسائل، ولكننا هنا في هذه المساحة نركز على آيات الكتاب ولا نلتفت لما قاله زيد أو لما قاله عبيد، فنستفتيها في راي تلك المجموعة من الناس، وعلينا قبل أن نبدأ، أن نضع أرضية من المسلمات الأولية التالية…
    1) أنه ليس في مقدور عقلنا البشري، أذا وصل الي الدليل الصحيح على حكم ما، أن يشك أو تأخذه الريبة فيه.
    2) وليس في استطاعة هذا العقل أن يقتنع بصحة مسألتين متناقضتين في نفس الوقت.
    3) أما إذا كان هناك تعارض بين حكمان، وكان أحدهما قائم على حجج قاطعة قطعية، كان من غير المنطقي ومن سابع المستحيلات أن يتم تكليف العقل بأن يأخذ بالحكم الثاني.
    ومن الطبيعي والمنطقي ألا تفوت هذه المسائل الفطرية على دين الفطرة، ولذلك جاء كتابه مصدقاً لها ومرجحاً لها عن سواها. وهناك سؤال مهم لا بد من طرحه هنا، وهو، هل كان للعقائد ان تكون بالجبر وبالإرغام؟ وهل يستقيم عقلاً أن يكلف دين الفطرة، دين النظر والبحث، من عجزت عقولهم عن الفهم وعن الادراك؟
    وهل يغازل ذهن انسان، ليفكر وليفتكر هذا الانسان بأن دين الفطرة يعادي العقل، وهو الدين الذي دمر أعمدة الايمان القائم على غير المعقولات، وأقام محلها عقيدة الايمان اليقيني المكتسب عن طريق النظر والعقل؟
    ولا يمكن للعدل الحكم أن يكلف الانسان فوق طاقته، ويجبره على الايمان بسبيل لا يقوده الي حجته ولا الي دليله. وكل من يتدبر قوله تعالي (لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) يفقه ذلك. وعلينا في المساحة التالية أن نسرد بعض الآيات المناسبة لهذا المقام…
  7. ((قال يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟))
  8. ((نحن نعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد))
  9. ((فقد بينا الآيات لقوم يعقلون * انا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم))
  10. ((ان عليك الا البلاغ))
  11. ((انما أنت منذر))
    وفي الختام كان معنا الفيلسوف نعوم تشومسكي (2017)، وختم لنا من خلال كتابة (غريزة الحرية) بقوله، في سبيل تحديد طبيعة الانسان، عمل روسو بمقارنة بين البشر والحيوانات، وكانت النتيجة هي أن الانسان ذكي وحر… ويعتبر هو الحيوان الوحيد المتمتع بالقدرة على التفكير. وفي الجانب الآخر، فالحيوانات تفتقد للتفكير وللحرية، أي أنها لا قدرة لها على التفكير وهي لا تستطيع أن تخالف القواعد المفروضة عليها لأنها تفتقر للحرية.
    ((في كل حيوان أرى آلة بارعة حبتها الطبيعة بحواس كي تحيا وتحافظ على ذاتها، الي مدى محدد، من كل ما ينحو الي تدميرها أو تخريبها. أجد الأمر نفسه بالضبط في الآلة البشرية، مع الفارق بأن الطبيعة وحدها تقوم بكل العمل في الحيوانات، في حين أن الانسان يساهم في هذا العمل لكونه فاعلاً حراً. الأول يختار أو يرفض بناءً على الغريزة وحدها أما الأخير فبالفعل الحر، لذا فالحيوانات لا تستطيع أن تكسر القواعد المفروضة عليها حتى ان كان ذلك الكسر نافعاً لها، والانسان يكسر القواعد غالباً برغبته…
    ليس الفهم فقط ما يميز الانسان عن الحيوان بل الفعل الحر. الطبيعة تحكم الحيوانات، والحيوانات تطيع. يشعر الانسان بأوامر الطبيعة نفسها، ولكنه يدرك أنه حر في أن يعصي أو يطيع، وتظهر روحانية نفسه، قبل كل شيء، في الوعي بهذه الحرية. تشرح الفيزياء بطريقة ما ميكانزيم الحواس وكيفية تشكل الأفكار، ولكن في قوة الإرادة، أو بالأحرى الاختيار، وفي الإحساس بهذه القوة توجد أفعال روحية فقط لا تفسرها قوانين الميكانيك)).
    وعليه فإننا نعلن بأن حقيقة أو جوهر الانسان هو حريته وهو وعيه بهذه الحرية. ولهذا يتجرأ روسو ليقول بأن ((القضاة الذين يعلنون بجسارة أن ابن العبد وُلد عبداً، يقررون بكلمات أخرى أن الانسان لم يولد انساناً)).
    وكثيراً ما يجتهد السياسيون وكذلك المثقفون السفسطائيون في البحث عن سبل وعن طرق لحجب وإزالة الحقيقة، الحقيقة القائلة بأن جوهر الانسان هو حريته… ((انهم يعزون للإنسان ميلاً طبيعياً للطاعة، دون أن يفكروا أن الأمر ذاته ينطبق على الحرية، وكذلك على البراءة والفضيلة: يشعر الانسان بقيمة هذه الأشياء طالما يستمتع بها بنفسه، وينسى مذاقها حالما يفقدها)). وعكس ذلك يعلن روسو تساؤله بنصاعة بيان وببلاغة معان، هكذا….
    ((بما أن الحرية أنبل ملكات الانسان، أليس من المسيء لطبيعة الانسان أن يضع نفسه في منزلة الحيوانات المستعبدة لغريزتها، بل أليس في هذا إهانة لخالق الانسان حين ننكر دون تحفظات أثمن عطاياه ونجبر أنفسنا على ارتكاب كل الخطايا التي حرمها كي نرضي سيداً متوحشاً أو مجنوناً؟)).
    لقد كان هذا السؤال هو الذي تم طرحه بواسطة هؤلاء الرافضين للخدمة العسكرية الأمريكية في الأعوام الأخيرة، وكثير وكثير غيرهم، كذلك، من أولئك الذين بدأوا يتحررون من كوارث ومن بشاعة الحضارة الغربية ويتعافون منها في غضون القرن الماضي، والتي برهنت صدق مقولة روسو التراجيدية:
    ((من هنا تأتي الحروب القومية والمعارك والجرائم والانتقام التي تهز الطبيعة وتصدم العقل، وكل هذه الافتراضات المسبقة الفظيعة التي تجعل شرف اسالة الدم البشري من بين الفضائل. يتعلم أرقى الرجال أن واجبهم قتل اخوتهم البشر، مع الزمن يقوم الناس بارتكاب مجازر بالآلاف دون أن يعرفوا السبب، لقد ارتكبت جرائم في يوم واحد من القتال وفظائع في حصار مدينة واحدة أكثر مما ارتُكب على سطح الأرض منذ قرون)).
    ويؤمن روسو بأن الصراع في سبيل الحرية هو خصيصة إنسانية جوهرية، وهذا الإحساس بقيمة الحرية يكون متواصل ومستمر طالما كان الفرد مستمتع بها، في ((المعجزات التي يجترحها الناس الأحرار للحفاظ على حريتهم في وجه القمع)).
    من الصحيح أن الناس الذين اعتزلوا عن حياة الانسان الحر تخلياً ((لا يفعلون شيئاً الا التباهي باستمرار السلم والسكينة التي يستمتعون بها في قيودهم… ولكن عندما أرى الآخرين يضحون بالملذات والسكينة والثروة والسلطة وبالحياة ذاتها للحفاظ على هذه القيمة وحدها التي يزدريها بشدة أولئك الذين فقدوها،عندما أرى الحيوانات وُلدت حُرة وأنها تكره الأسر لدرجة أنها تضرب رؤوسها بقضبان اقفاصها، عندما أرى جموعاً من الهمج العراة بشكل كامل يستنكفون عن المتع الحسية الأوربية ويحتملون الجوع والنار والسيف والموت ليحافظوا فقط على استقلالهم، أشعر أنه لا ينبغي للعبيد أن ينظروا للحرية)).
    bakoor501@yahoo.com

شاهد أيضاً

الحوار

د. أبوبكر الصديق على أحمد مهدييرتجى الناس أن يقوم امامناطق في الكتيبة الخرساءكذب الظن، لا …