الحوار

د. أبوبكر الصديق على أحمد مهدي
يرتجى الناس أن يقوم امام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن، لا امام سوى العقل
مشيراً في صبحه والمساء – “أبو العلاء”
يقول فروم.. ((في حين أن الحياة تتميز بنموها الوظيفي فان الانسان الفاقد لحيويته ينجذب نحو كل الأشياء غير النامية أو الأشياء ذات الطبيعة الميكانيكية، فالإنسان النمطي يرغب في تحويل كل ظاهرة عضوية الي ظاهرة غير عضوية لتصبح الحياة في شكلها الميكانيكي وكأن الأحياء مجرد أشياء، فهو يريد للإنسان أن يتميز بالذاكرة لا بالخبرة وبالامتلاك لا بالوجود، وهو لا يشعر بما سواه سواء كان زهرة أو انساناً الا إذا امتلكه، وحينئذ يصبح كل تهديد يلحقه فيما امتلكه تهديداً موجهاً الي شخصه فهو ان لم يمتلك فقد اتصاله بالعالم الذي يعيش فيه ومثل هذا الانسان النمطي يعشق التحكم في غيره ولا يعلم أن بذلك يقتل نفسه في عملية التسلط هذه)).
ويقول باولو فرايري، أما عن طبيعة أو عن جوهر الحوار في ذات نفسه، فهذا الحوار هو “الكلمة”، وفي البدء كانت الكلمة، ومدلول الكلمة الحقيقي لا يقف عند قيمتها كوسيلة يتم بها تحقيق وإنجاز الحوار، ولكنها تتجاوز ذلك، وذلك لما تتفرد به من بُعدين، بُعد الرؤية وبُعد الفعل، فهذين البُعدين، دائماً، متلازمين، لا يستغني أي واحد منهما عن الآخر.
عموماً، لا يوجد هناك كلمة حقيقية ترفض التنفيذ أو ترفض أن يتم انزالها في واقع الوجود، وفي هذه الحياة، ويعود ذلك لما يميز هذه الكلمة الصادقة النزيه، من أنها هي الوحيدة التي لها القدرة على تغيير عالمنا. ولكن عندما يُسلب منها أحدي بُعديها المذكورين آنفاً، فإنها تصير كسيحة وغير قادرة على القيام بمهمتها وبدورها المنوط بها، وتنقلب الي مجرد عبث وثرثرة بدون مضمون ولا طائل. وايضاً، وبذات القدر، فان قيمة الكلمة العملية تكمن فيما بداخلها من رؤية. فأي عمل من دون رؤية يُغّيب جوهر الحوار وحقيقته ولا يُنجز به شيء البتة.
وهنا نستطيع أن نتفوه بملء افواهنا، بأن الوجود الإنساني لا تتاح له الفرصة ليظل صامتاً، وكما لا يمكن له أن ينبض بالحياة بفعل الكلمات الفارغة، فالكلمات التي تحييه، وتستمر في نفخ روح الحياة فيه وتنجح في تغيير الواقع هي تلك الكلمات المفعمة بالرؤية الصادقة، ويقوم على ذلك، أن العيش انسانياً يعني فهم عالمنا ومعرفته والعمل على تغييره، فمجرد أن نفهم العالم ونعرفه تتجلى لنا حقيقته وحقيقة جوهره كمشكلة وكمسالة تحتاج علاجاً وتتطلب حلاً. ويظهر من ذلك، جلياً، غياب الرجال (الرجال هنا ترمز للرجال وللنساء -الجنسين- العاملين على التغيير) في عالم الصمت، فالرجال لا نراهم الا في عالم الحوار وفي العمل المتبصر بالوعي وبالفهم والادراك.
ونحن عندما نعلن بأن الكلمة هي الوحيدة التي تستطيع أن تقود الي العمل والي الفعل، الذي يغير هذا العالم، نؤكد في نفس الوقت ونجزم، بأن هذه الكلمة ليست حكراً على جماعة محددة أو معينة من الرجال دوناً عن الآخرين أو نستطيع أن نقول إنها ملك الناس كل الناس، وهذا يعني أن الكلمة الصادقة لا يمكن أن يتفوه بها رجل واحد سواء كان ما يتفوه به لذاته أو كان للآخرين، فإصرار مثل هذا الرجل والحاحه الشديد على اسماع كلمته فقط يعني تجريداً للرجال الآخرين من فرصتهم في أن يدلوا بكلماتهم أيضاً، ويكون عندها لا حياة لحوار ولا روح لحوار.
ولقد سبق ونبهنا بأن الكلمة هي السلاح القوي الذي به يستطيع الناس تغيير العالم الذي يحيط بهم، وذلك لأنها تجعلهم مؤهلين لاكتشاف هذا العالم، وتجعلهم متمكنين من معرفته، ومن فهمه، ولا بد لنا من أن ناكد بأنه، أي الحوار، كذلك، هو، وليس غيره، القادر وله القدرة على تمييز قيمة الرجال وقيمة الانسان، وهذا هو السر وراء أنه ضرورة وجودية.
وبما أن الحوار هو الطريقة أو هو أسلوب المواجهة، الذي بفضله يستطيع الرجال تغيير واقعهم، فمن المستحيل تجريده من صفاته الأساسية، ليكون تعبيراً وانعكاساً لآراء أو لأفكار انسان واحد، تم تفريغها في رؤوس الناس الآخرين، أو ينظر اليه على أنه مجرد ثرثرة يتم تبادلها بين المتنافسين، ومستحيل أن يصبح عملية مواجهة عنيفة بين رجال أو بين أناس لم يجتهدوا ولم يلتزموا بتسمية هذا العالم وتعيينه والتنقيب فيه عن الحقيقة، فهؤلاء لا يرغبون، وليست لهم الرغبة في اكتشاف الحقيقة، ولكنهم على عكس ذلك تماماً يحاولون فرض حقيقتهم، أي الحقيقة التي يعرفونها، على الناس الأخرين.
وإذا كانت طبيعة الحوار هي المواجهة أي هي مواجهة بين رجال يستهدفون اكتشاف العالم ومعرفته، فمن المستحيل أن نعتبره فرض كفاية يقوم به البعض عن البعض الآخرين. فالحوار في حقيقته هو عمل ابداعي يتطلب بصورة حتمية الا يستعمله الناس كوسيلة، وسيلة بها ومن خلالها يستغلون بها الناس الآخرين.
ومثل هذا الحوار الإبداعي لا يتم في غياب الحب، الحب الذي هو أساس أي حوار وأساس كل حوار، بل نجزم بأنه هو الحوار ذات نفسه. وعكس ما ذكرنا فان السيطرة توصف بالضرورة بانها داء ووباء ضد الحب، لأنها، بلا أدنى شك، تمثل في واقعها نزعة سادية غير أخلاقية يقوم بممارستها الطغاة القاهرون.
ولأن الحب هو في حقيقته موقفاً شجاعاً لا يخشى الخوف ولا يحفل به، فانه ومن هذا المنطق ومن هذا المنطلق يرحب بالرجال الآخرين، ويعترف بهم وبحقهم في الحياة، وهو حق يتمثل في نيل الحرية لهم، وبما أن هذا الحب هو شجاع ويعتبر موقف جريء فانه من مستحيل المستحيلات أن يقوم على رذيلة الاستغلال، ولكن يولد في الآخرين ويخلق فيهم الرغبة في تحقيق الحرية وفي نيلها، وبدون تلك الغاية السامية لا يكون هذا الحب حقيقي أو حقيقة، ويصبح محض زيف وخداع.
وهذا يؤكد على حقيقة لا يمكن تجاوزها تقول بأن تحقيق الحب يتطلب الغاء القهر، وبدون ذلك لا يكون هناك حب، لأن القهر والحب يعارضان بعضهما بعضاً بالضرورة. فاذا أنا عجزت في أن أحب العالم والحياة والناس فلن يكون من الإمكان أن نقيم أو أن أقيم معهم أي نوع أو أي شكل من أشكال الحوار.
وإذا كان من الضروري ومن الحتمي وجود الحب لبدء الحوار، فلا يمكن تحقيق الحوار الا بشيء من التواضع، والتواضع وعي، وهذا لأن تحديد العالم وتسميته في الحقيقة عبارة عن عملية متصلة في ابداعه يستحيل أن تنفذ في جو يشوبه الغرور. وكما أنه لا يمكن لهذا الحوار، باعتباره عمل يواجه به الناس معضلة العلم ومشكلة العمل، أن يتم إنجازه الا إذا تحلى الناس بشيء من التواضع.
والمنطق يقول ليس من المنطق أن يدخل انسان في حوار مع ناس آخرين أذا كان هذا الانسان يعتبر نفسه شيء مختلف وشيء مميز عنهم، وكيف لي الدخول في حوار مع أناس وأنا أميز نفسي عنهم وأنا اعتبرت هذه النفس، نفسي أنا، هي من صاحبات الدم الأزرق، وهي من هؤلاء الذين يمسكون بناصية الحقيقة، ويحيطون بكل المعرفة ولا يعترفون للآخرين باي نوع من الفهم أو من المعرفة.
وكيف يعتقد انسان بانه يقدر أن يحاور الآخرين إذا اعتقد، مجرد اعتقاد، بان معرفة الوجود هي حق حصري من حقوق الصفوة، وان دخول العامة في التاريخ ما هو الا بداية النهاية. وأيضاً كيف لي أن أتحاور مع الآخرين أذا كنت أمتلك شعوراً يُشعرني بأن وجودي سيتعرض الي التهديد متما بدأت عملية الحوار؟ وهكذا فان القناعة بما تراه النفس حصرياً ووقفاً عليها تعتبر بمثابة نقيض لجوهر الحوار ولمنهجه.
فالحوار هو عملية تقوم على مسئولية هؤلاء الذين يُوصفون بالتواضع ولهم القابلية في الدخول في علاقة حوارية مع الناس الآخرين من أجل مشاركتهم ومن أجل مساهمتهم في معرفة العالم وفي اكتشاف حقيقته وجوهره.
وبعد، ومما تم ذكره صار من البائن ومن الواضح أن الحوار يحتاج للثقة بالناس وبمقدراتهم وبملكاتهم في الابداع وفي إعادة الابداع، وكذلك يحتاج لثقة في الصنع وفي إعادة الصنع. وهذه الثقة لا بد لها أن تعم جميع الرجال وتكون خصلة فيهم، ولا تعمل على تضييق ساحتها، وتكون حصرية على الصفوة وحدها.
فالثقة بالإنسان هي أهم المقدمات الضرورية للحوار الناجح، لأن الانسان المحاور يؤمن بالضرورة بالناس المحاورين الآخرين، حتى قبل أن يجتمع بهم وقبل أن يراهم أو يستمع إليهم، ولا يعتبر مثل هذا الايمان نوعاً من أنواع السذاجة، وذلك لسبب بسيط وهو أن مثل هذا الانسان الواعي بمعرفته لإمكانياته ولقدراته النقدية، يعرف كذلك أن غيره من الناس، ممن يأخذون على عاتقهم مسئولية التغيير، يتمتعون بذات القدر من القدرة، وهذا ما يدفعه للاستجابة لمحاورتهم، حتى في تلك الحالات التي يفقد فيها البعض امكانياتهم على النقد، فان الانسان المحاور لا يمكن أن يفقد ثقته في أن يسترجع مثل أولئك الرجال قدراتهم وملكاتهم النقدية مرة ثانية، ولا يعود ذلك لفضل أحد الناس، ولكنه يكون نتيجة لممارسة النضال من أجل الحرية، فبدون هذه الثقة يصبح الحوار كوميديا لا تفتقر الاستغلال الأبوي.
اذن فالحوار الذي يستند وينطلق من قاعدة التواضع والثقة يرسخ العلاقة الأفقية بين الناس المتحاورين، ولعله يصبح من غير المنطقي الا تكرس مثل هكذا رابطة في خضم هذه الأحوال وتلك الظروف. لأن الذي يتولد من مثل هكذا حوار يعتبر رابطة أو علاقة تضامنية في اكتشاف العالم وفي معرفة حقيقته. وهنا علينا أن نشير الي أن الثقة المتولدة في كل الأحوال، ما هي الا نتيجة الصدق الذي يعكسه المتحاورون، والتي بغيابها لا تكون الأقوال هي نفسها الأفعال.
وأيضاً علينا أن نقر بأن الحوار من الطبيعي ألا يكون له مجال وله حضور من دون حضور الأمل، وذلك لأن الأمل مزروع في نفس هذا الانسان، وهذا ما يحرضه ويشجعه من أجل البحث ومن أجل التنقيب مع البقية عن الأمثل. أما اليأس فهو لا شيء سوى شكل من أشكال الصمت، وعدم الاعتراف بالعالم وبالواقع، بل أكثر من ذلك هو هروب من مواجهته.
وهذا يساعدنا على أن نجعل من مواضع القهر التي تخدش وتجرح كرامة الانسان منطلقات أمل في سبيل تحقيق إنسانية الانسان، التي أدلقت بسبب غياب العدالة، ولكن الآمال لا تتحقق بالتواكل وبأن يعقد الانسان يديه ويجلس منتظراً الفرج من خالق الفرج، ولكنها تتحقق متما ناضل الانسان، وهو واثقاً في نتيجة هذا النضال (فما دمت أناضل فيحق لي الانتظار).
وأيضاً، نقول بأن الحوار لا يمكن أن يكون في بيئة اليأس، فاذا لم يتسلح المتحاورون بالأمل وبالثقة في نتيجة حوارهم، فستصاب كل محاولاتهم وكل مجهوداتهم بالخواء وبالعقم وبداء البيروقراطية والملل. والخلاصة التي يمكننا الوصول اليها تقول، أن الحوار الصادق مستحيل أن يكون كائن دون وجود التفكير النقدي الذي يحلل ويدرس العلاقة القائمة بين الناس وعالمهم. ذلك أن التفكير الذي يستطيع أن يرى الحقائق كحركة تطورية غير منفصلة عن العمل هو ذلك التفكير الذي يستفزه الحوار المجدي.
فهناك اختلاف عظيم بين التفكير المجدي والتفكير السطحي، فهذا السطحي يؤمن بأن العمل التاريخي ما هو الا مجرد استعادة للماضي، ولهذا فالمفكر السطحي يولى جل اهتمامه من أجل التأقلم مع الحاضر. أما النوع الثاني ونقصد به المفكر النقدي فهو يعتبر المستقبل عملية تطور متواصلة لتحقيق إنسانية الناس وحريتهم.
يقول بييرفيرتر.. (ان العالم لا يبدو لي كفضاء يفرض على كتلة من الحاضر يطالبني بأن أتأقلم معها، بل هو مجال يتشكل بحسب تصرفي فيه. وبالنسبة للمفكر الساذج فان الهدف يتركز عنده في الإمساك بقوة بهذا الفضاء المضمون وبذلك فهو ينكر عامل الوقت وينكر نفسه أيضاً).
فيجب علينا ألا نتحدث الي الناس عن أفكارنا وعن آرائنا في الوجود أو في العالم أو نحاول أن نفرض عليهم ما نعتقد انه صحيح، ولكن لا بد أن ندخل معهم في علاقة حوارية يكون أساسها أفكارهم وأراءهم عن العالم. وسنعرف من مثل هكذا حوار أن أفكارهم وأراءهم عن هذا العالم نابعة من خبرتهم ومن وعيهم به.
اما ذلك العمل السياسي الذي لا يدرك ذلك ولا ينتبه لهذه الحقيقة فسيضيق على نفسه فسحة الحوار ويسجن ذاته في الإطار الوعظي الدعائي الذي لا يستطيع أن يحل قضية من قضايا التقدم والتغيير، ففي مثل هذا المنهج الوعظي الدعائي، فاللغة التي يتحدث بها السياسيون تكون غير مفهومه من قبل الناس.
ولكن من المفروض ومن الضروري أن تكون اللغة التي يتحدث بها السياسي شبيهة بلغة الناس التي تحمل أفكارهم وأراءهم. اذن، ما يتطلب من السياسي حتى ينجح في توصيل مفهوماته للناس أن يستوعب أحوالهم ويعرف ظروفهم والطريقة المناسبة للتحاور معهم.
يقول المفكر طه عبد الرحمن في سفره القيم “الحوار أداةً للفكر”، نحن نحتاج الي أن نجد إجابات للسؤالين المهمين المصيريين، وأول هذه الأسئلة هو السؤال الذي يسال “كيف نقوم بالحوار تحت مظلة الحضارة المتوحدة أو تلك المتفردة؟ أما الآخر فيسأل عن كيف يكون التحاور في بيئة الإرهاب المتعدد؟
لو أننا راعينا جوهر الحوار وهدفه بصورة عامه، فسوف نجد أنفسنا لا نلبث أن نؤكد بأنه لا يوجد حوار مع التفرد الحضاري أو مع التوحد الحضاري، وذلك لأن هذا التفرد أو هذا التميز يلغى الآخر أو هو في حقيقته نفى للآخر، ومعلوم بأن نفى الآخر يعني بلا تردد نهاية الحوار أو نهاية للحوار.
وبنفس المنطق لا نتأخر في أن نؤكد أنه لا يوجد حوار مع حضور الإرهاب، والسبب هو أن الإرهاب عنف، وضرورياً أن يكون العنف ضد أو نقيض الحوار، وهذا الموقف لا يستطيع أحد أن يقبله الا أولئك الذين يؤمنون بأن التوحد أو التفرد الحضاري زائل في الآجل حتمياً، وكما يؤمنون في أن الإرهاب منته في العاجل حتمياً، ولكن انتهاء هذا التفرد الحضاري لا ضمانة له وليس بالشيء الحتمي في المآل، وأيضاً إزالة الإرهاب غير أكيد في الحال.
ولكن، نقول بأن إرادة بقاء التميز والتوحد الحضاري هي الأساس في إرادة إزالة الإرهاب، بمعنى ان من يتصدر ويزعم فتح أبواب الحوار من خلال انهاء الإرهاب، نجده هو ذات نفسه الذي يغلقه من خلال تمسكه بالحضارة المتوحدة أو بتفرده الحضاري.
وإذا كان الأمر كما ذكرنا، فهذا يوجب وجود الحوار مع حضور هذا التفرد الحضاري، وأيضاً يفرض وجود الحوار تزامناً مع حضور الإرهاب، وعليه، علينا أن نسأل أي نوع من انواع الحوار يمكن أن يسود، ويمكن أن يتوجد في إطار التفرد الحضاري أو الحضارة المتوحدة؟ وأيضاً علينا أن نسأل، أي حوار يمكن أن يكون موجوداً في إطار هذا الإرهاب المتعدد؟
وهنا في هذه المساحة، نحاول الإجابة عن السؤال الأول وثم نقوم بالإجابة عن الثاني. وعن الأول نقول بأن الحوار المناسب والذي يستطيع أن يكون في نطاق التفرد الحضاري هو الذي ننعته بالحوار التقويمي، فهو لا يفيد في أن يتيح الفرصة لأحد الجانبين لكي يقوم بإثبات أن بعض قيم الثقافة أحسن من قيم الآخر، لسبب بسيط وهو لا أحد من الاثنين مستعد أو على استعداد أن ينسلخ من ثقافته في سبيل الاعتراف بثقافة الآخر، بل بالعكس فان صاحب الحضارة المتفردة من الاثنين يرى بأنه الأجدر وعليه ألا يقر وألا يعترف بثقافة غيره، وحجته في ذلك هي أن ثقافته هي عبارة عن منتج حضارته السائدة والمهيمنة.
واستناداً لما ذكر، فإننا نقول بأن الذي ينفع ويفيد في مثل هذا الحوار هو العمل على نقد القيم الثقافية لهذه الحضارة من الداخل أو من داخلها، وذلك من خلال استعمال وسائل وآليات النقد ومناهج الفكر التي تحتاجها هذه الحضارة نفسها، حتى إذا ثبت للمحاور بان هذه القيمة باطلة او تلك جاز له أن يبدلها بقيمة نقيضة يستمدها من ثقافته، وفي هذه الحال، ليس لخصمه أن يرفض ولكن عليه أن يقبل بهذه القيمة، ولكن في حال لم يثبت بطلانها وظهر صحتها، فعلى المحاور التثبيت عليها والأخذ بها وألا يعير ما يناقضها من قيم ثقافته، تلك التي ذهبت حضارتها، أي اعتبار، فيكون بذلك هو مقوماً للحضارة الآنية التي تعيش حوله، وتحيط به بالقدر الذي يكون هو مقوم لثقافته التي تقوده وتوجهه. وعليه فلن يكون هناك تقويم فارض نفسه على الغير الا بمقتضى قواعد تلك الحضارة الغالبة حتى يقدر المحاور وينجح في التشكيك في هذه القواعد وفقاً لمنطقها ذاته.
اما ما يخص السؤال الآخر الذي تم طرحه، فنقول اجابةً عنه، بأن الحوار الممكن في ظل هذا الإرهاب المتعدد يسمى بالحوار التفاوضي. وفي مثل هكذا حوار لا ينفع أن يأتي أحد الطرفين بأدلة وببراهين للحق الذي في صالحه، ولا ينبغي اعلان الحقيقة التي يمتلكها، وذلك لسبب بسيط وهو أن أحد الطرفين على أقل تقدير غير مهيأ وليس في حالة استعداد ليقر ويعترف لخصمه حتى لو كان هذا الخصم معه الحق والحقيقة معه، تجنباً لكشف ضعف قوته أو حتى لا تهتز مكانته.
والشيء الوحيد الذي يمكن أن ينفع في مثل هكذا حوار هو حساب المصالح من الطرفين، فيكون هناك تنازلات ومطالبات من كلا الطرفين أو من الجانين بالمقدار الذي يحفظ لكل جانب مصالحه في حالته الراهنة، وهذا يعني أن يكون الهدف من هكذا حوار هو اجراء أمثل معاملة أو فلنقل تحقيق أمثل صفقة، وأمثل الصفقات هنا بالنسبة لهذا الحوار هو ما كان من المستطاع انجاز أفضل أو أكبر الصفقات على حساب اقل التنازلات الممكنة، ودائماً ما يتم نعت مثل هذه الصفقة الأمثل “بالحل الوسط”، ومعروف أن هذا الحل الوسط مرتبط بظرف ميزان القوة بين الجانبين المتفاوضين المتحاورين، ومتما اختل ميزان القوة في قادم الزمان، ظهر العنف، من أول وجديد، بشكل من الأشكال ورجع التفاوض بوجه من الوجوه، وهلمجرا، حتى يتفوق صاحب الحق من الجانبين، فيستطيع أن يسترد حقه كاملاً غير منقوص في حوار تفاوضي أخير.
ولا نستطيع أن نكتفي بالإجابة عن السؤالين السالفين، مكتفين باعتبار أن الحوار الحضاري يكون على شكلين أثنين، وهما حوار تقويمي وآخر تفاوضي، ولكننا في حاجة الي احضار إجابة عن سؤال آخر ثالث، وهو “ما هو وجه العلاقة بين الحوارين المذكورين.. التقويمي والتفاوضي؟”، وذلك لأن الحضارة المتفردة أو المتوحدة التي تدفعنا الي ساحة الحوار التقويمي هي البيئة نفسها أو هي الأرض نفسها التي فيها نبت وينبت الإرهاب المتعدد الذي يدفعنا الي ساحات الحوار التفاوضي، بحيث تحمل على عاتقها هذه الحضارة تمام المسؤولية عن وجود الإرهاب بين احضانها، وذلك لحضور أسبابه المتخللة في مؤسساتها.
ومتما كان الموضوع هكذا، فعليها، الزاماً، تكثيف الحوار التقويمي بين مختلف الفئات بمختلف ثقافاتها حتى تكون على بينة من هذه الأسباب بنفسها، وتعمل على قطعها وإزالة أثرها، لكيلا تحتاج للدخول في هذه الحوارات التفاوضية المتتالية، التي تقلع منها هيبتها ورونقها وتفقدها مصداقيتها، فضلاً عن فقد الثقة بكلمتها ووعودها وعهدها ومواثيقها.
وبهذه الطريقة، يتضح بأن العلاقة بين الحوار التقويمي والحوار التفاوضي عبارة عن علاقة جدلية شفافة وصريحة، فكلما ازداد الحوار التقويمي نقص ذاك التفاوضي، والعكس بالضرورة أصح. ونستطيع أن نصرح وان نقول بأن أفضل الحضارات هي تلك الحضارة التي يهيمن فيها الحوار التقويمي، ويكون هو السائد فيها، وأسوأ الحضارات هي تلك التي يسيطر فيها الحوار التفاوضي ويكون هو المهيمن فيها.
ودائماً تتفاضل الحضارات بين هذين الجانبين، بحسب ما تحظى من قدر أو بحسب حظها من كلا الحوارين. فكلما زاد الحوار التقويمي في حضارة ما وتفوق على الحوار التفاوضي، كانت هذه الحضارة هي الأعلى كعباً، ويكون عكس ذلك هو الصحيح.
ويتضح أن الحضارة المتوحدة التي نعيشها تضطر في بعض الظروف وتحتاج الي الحوار التفاوضي، ولكنها في حالات أخرى ترفض هذا الحوار نفسه وتاباه، مفضلة ممارسة العنف ومنكرة حق الآخرين. وبخصوص الحوار التقويمي، فليس هناك ما ينبي بأن الحضارة المتوحدة قد شبت عن الطوق وبلغت من الرشد منزلة تؤهلها لتأخذ بهذا الحوار التقويمي، كما تأخذ بالحوار الداخلي الذي يمارس بين اقطابها وصناعها، فقد بدأ هؤلاء الأقطاب وأولئك الصناع يستغنون بذواتهم ويطغون على غيرهم، وكل من استغنى بذاته مال الي الافتقار الي غيره، وكل من طغى على الآخر مال الي الهلاك بيده، وهل جزاء السيئة الا سيئة مثلها!
والخلاصة تعلن بأن هنالك تحديين حضاريين كبيرين، يجب على الإنسانية أن تعمل على رفعهما. الأول هو تحدي التفرد الحضاري، أما الآخر فهو تحدي التعدد الإرهابي، وليس هناك من سبيل لرفع الأول الا بالحوار المسمى والمعروف بالحوار التقويمي.
ولا يوجد حيلة لرفع الثاني الا من خلال تبني الحوار التفاوضي. والقصة تحكي بأن اللجوء أو لجوء الإنسانية الي الحوار التقويمي من أجل تصحيح مسار الحضارة، يؤدي الي نقص اعتمادها ولجوؤها الي الحوار التفاوضي، لأنها بذلك يصبح الحق هدفها ومطلبها، ويصبح العدل هو مسلكها الوحيد، ولا إرهاب حاضر ولا إرهاب موجود مع حق مصان وعدل محفوظ.
ويعود باولو فرايري في هذه المساحة ليحدثنا عن المذهبية قائلاً.. وتظهر المذهبية -بغض النظر عن منطلقاتها- وكأنها في جوهرها نوع من العمل ومن تغييب للعقل. ولما كان هذا المذهبي عاجز عن رؤية حركية الواقع فانه بالضرورة لا يعرفه ويسيء فهمه، وحتى إذا جرب أو حاول أن يفكر بطريقة جدلية فان هذه الجدلية التي يتبناها تكون من النوع المدجن، فاليميني (المذهبي اليميني) يعمل وله الرغبة الأكيدة في تعطيل حركة التاريخ، لأنه من الذين ينحازون الي تدجين الزمن. أما اليساري (المذهبي اليساري) فانه يغالي عندما يجتهد في فهم الواقع والتاريخ بطريقة جدلية، ولهذا السبب فهو دائماً ما تقابله مواقف قاضية.
وهناك اختلاف بين اليميني واليساري، فنحن نجد في حين يرغب اليميني في تدجين الحاضر حتى يأتي المستقبل في صورة الحاضر وهي الصورة التي يريدها والتي يتمناها، نجد المستقبل في نظر اليساري حتمي ومصيري وغير قابل للتغير. وإذا كان هذا اليميني يعتقد في أن الحاضر موصول بالماضي كقدر لا ينفك عنه وليس هناك إمكانية لرده، فاليساري يؤمن بأن المستقبل عبارة عن واقع تم تحديد هويته وصيرورته مسبقاً، وأيضاً من سابع المستحيلات أن يتم تغييره.
ووفقاً لما ذكرنا، فنستطيع أن نعلن رجعية نظرتي اليميني واليساري، لأنهما يبدآن من تصور غير حقيقي للتاريخ، فالأول ينكر الحرية، والثاني يتفق مع الأول في انكار الحرية. فأحدهما ينظر للحاضر من خلال منظار مثالي، والثاني يضع كل آماله في سلة المستقبل، وهذا لا يؤدي الا لأحد أمرين، الأمر الأول اما أن يترك الناس أي عمل حتى يستمر الحاضر المثالي أو أن يتخلوا عنه انتظاراً لمستقبل تم ترسيم ملامح هويته سلفاً ولا سبيل لخلقه ولا لإبداعه.
وفي هذا الإطار اليقيني يسجن كل منهما (اليميني واليساري) نفسه في تصور خاص للوجود أو للواقع، ويتخيل له واقع يخصه هو، ويكون عاجز عن التحرر من هذا التصور الوهمي ليكتشف أن الواقع أو الوجود انما يتم تغييره من قبل الرجال أو الناس، الذين يناضلون كتفاً بكتف، ليعرفوا ويتعلموا كيف يشكلون المستقبل ويبنونه حقيقةً، وهو ينتظر مثل هؤلاء الناس ليبدعوه.
وما سلف يوضح لنا بأن المذهبي اليميني والمذهبي اليساري يتعاملان مع التاريخ وكأنه ملك حر أو ملكية خاصة، تستجيب للتحقيق بدون الناس وهذا شكل آخر من أشكال اصطفافهم في جانب مجتمعات القهر.
bakoor501@yahoo.com

شاهد أيضاً

الديمقراطية

وتوديع أيام البراعم مؤذنبخلق الزهور الباسمات جمالاومصنع هذا الكون بالخلق دائرفاني أرى فيه السكون محالاوليس …