الدرس السعودي الكندي

 


 

 

 

في خضم التصعيد السعودي الغير المسبوق ضد كندا خرج وزير الطاقة في المملكة خالد الفالح قائلا ان علاقات بلاده النفطية مع أوتاوا ستستمر وان التزامات شركة أرامكو تجاه زبائنها الكنديين لن تتأثر بالتوتر السياسي بين البلدين. ورغم قيام الرياض بتجميد العلاقات التجارية وأستدعاء سفيرها وطرد السفير الكندي، بل وسحب الطلاب السعودين من الجامعات الكندية ووقف رحلات الخطوط الجوية السعودية بين البلدين، الا ان أوتاوا لم ترد بأي خطوات مماثلة. والمفارقة في انه كان في أمكانها ذلك وبالضبط في المجال الذي أستثنته حملة الرياض... وهو المجال النفطي.

فكندا دولة منتجة للنفط. ونظريا يمكنها الاكتفاء الذاتي من انتاجها المحلي الذي يبلغ 3.9 مليون برميل يوميا، بينما حجم استهلاكها في حدود المليوني برميل. في الستة أشهر الاولى من هذا العام كانت تستورد كندا نفطا من السعودية بملبغ 10 ملايين دولار يوميا وفي المتوسط تأتي 10 في المائة من واردات كندا النفطية من السعودية التي تحتل مرتبة خامس أكبر مصدر للنفط الى كندا. والسؤال لماذا لم ترد أوتاوا بالمثل وتوقف وارداتها من النفط السعودي؟

الاجابة تتمثل تماما في نفس ما ذكره وزير الطاقة السعودي بعدم تعريض الصناعة النفطية الى التقلبات السياسية والتعامل بالحسابات الاقتصادية البحتة.

النفط الكندي ينتج في غرب البلاد ويتميز بأنه من النوع الثقيل الذي يحتاج الى معالجات خاصة لتكريره، ولهذا تفضل شرق كندا استيراد النفط بما فيها السعودي ومن بعد عشرة الاف كيلومتر على النفط الثقيل المنتج في غرب البلاد وعلى بعد أربعة ألاف كيلومتر فقط خاصة وكلفة النقل العالية بالبر داخل كندا مقارنة برسوم الاستيراد الارخص عبر الناقلات تجعل الكفة تميل لصالح الاستيراد.

بدأ البعد السياسي للنفط في التبلور في العام 1911 عندما قرر وزير البحرية البريطانية وقتها ونستون تشرشل تزويد السفن الحربية بالنفط بدلا من الفحم الحجري، الامر الذي وفر لها سرعة أضافية ساعدتها في كسب الحرب العالمية الاولى. ومنذ ذلك الوقت لحقت صفة أستراتيجية بسلعة النفط ودخلت في أجواء حسابات الامن القومي خاصة بعد الذروة التي وصلها الاستخدام السياسي للبترول في حرب أكتوبر 1973 وفرض الحظر العربي النفطي على الولايات المتحدة، الامر الذي دفع سبع أدارات أمريكية متعاقبة على تبني خطط متباينة تهدف كلها على تقليل أعتماد الولايات المتحدة على النفط الأجنبي، وهي المحاولات التي أدى تراكمها الى حدوث أختراق في عهد أوباما وبروز تقنية التكسير الهيدرولوجي التي أسهمت في تفجير انتاج النفط الصخري وزيادة المنتج محليا حتى تجاوز الانتاج الامريكي رصيفه السعودي وهو ينافس حاليا الانتاج الروسي، وهو الاكبر في العالم.

ورغم الهالة الاستراتيجية التي تحيط بالنفط، الا انه يظل في النهاية سلعة تخضع لقانون العرض والطلب وهو ماتشير اليه دورات الصعود والهبوط المتتالية التي تعيشها السوق النفطية، وهو ما دفع أوبك ودولها منذ الثمانينات الى التركيز على انشغالاتها الاقتصادية بعيدا عن السياسة، ولهذا تمكنت من البقاء والعمل رغم حرب الثماني سنوات بين دولتين مؤسستين لأوبك وهما العراق وأيران.

وهذا الدرس السعودي-الكندي الخاص بأبعاد النفط عن التقاطعات السياسية هو ما يحتاج السودان وجنوب السودان الى أستيعابه. فاتفاق السلام الاخير بين الفرقاء المتصارعين في جنوب السودان لديه أفضل فرصة للصمود بسبب عاملين رئيسيين: اولهما التعاون السوداني اليوغندي وضغط البلدين بحسبانهما الاكثر تأثيرا على اطراف النزاع لوضع السلاح جانبا وثانيهما العامل النفطي الذي يمثل مصدر الدخل الوحيد لجوبا وكذلك نافذة الأمل الوحيدة للخرطوم للبدء في حلحلة متاعبها الاقتصادية. تبادل البلدان في السابق استخدام النفط لتحقيق اهداف سياسية وبلغت هذه الممارسة قمتها عندما قررت جوبا وقف الانتاج وبالتالي عدم التصدير عبر السودان وكأنها أسترشدت بذلك الذي قطع أنفه ليغيظ عدوه.

تمكنت جوبا وقتها من الصمود بسبب ما كان متوفرا لها من احتياطيات مالية من أيام الطفرة النفطية والدعم الذي لقيته من كثيرين في المجتمع الدولي بسبب التعاطف الذي كانت تجده الدولة الوليدة، لكن كل ذلك تبدد بسبب سوء الاداء الذي وصل قمته بالحرب العبثية التي اندلعت قبل خمس سنوات وتحول المجتمع الى موقف يتأرجح بين تجاهل ما يجري في جنوب السودان الى فرض عقوبات أممية على زعماءه. وكان يمكن لهذا الموقف أن يدفع بما يجري في جنوب السودان أن تصبح حربا منسية، لولا تحرك الجيران بسبب تأثرهم المباشر بما يجري وعلى رأس هؤلاء الجيران السودان الذي يملك كرتا لا يتوفر لآي جهة أخرى وهو كرت النفط وذلك من خلال ثلاثة عوامل أساسية: السودان يملك مركزي المعالجة في كل من هجليج وفلوج حيث تتم معالجة النفط الخام وأعداده للتصدير، ثم خطي الانابيب الشرقي والغربي لحمل النفط الى ميناء بشائر على ساحل البحر والتصدير الى الاسواق العالمية، ثم هناك العامل الثالث المتمثل في وجود العمالة الفنية السودانية القادرة على تشغيل هذه الحقول ومعرفتها المباشرة بها الى جانب خبرتها في العمل في ظروف ذات مهددات أمنية.

لحسن الحظ فأن خيارات منع استغلال الامكانيات النفطية حتى الوصول الى تسوية سياسية انحسرت منذ نموذج نيفاشا الذي دفع الحركة الشعبية الى التخلي عن ذلك الخيار وأستبداله بفكرة قسمة الثروة وذلك لأن نجاح الخرطوم وقتها في تصدير النفط بدأ ينعكس عسكريا في الميدان. نفس الشيء يمكن أن يحدث الان مع معارضي حكومة جنوب السودان التي يمكنها مع الخرطوم تأمين العمل في حقول النفط وتكون لها اليد العليا في التعامل مع معارضيها خاصة ولم يعد أحد يتمتع بالمرتبة الاخلاقية العالية التي تجعل موقفه متميزا ومن ثم الحصول على دعم خارجي.

الدرس الثاني من السعودية تحديدا انه ورغم أحتياطياتها النفطية الضخمة ونجاحها في أدارة صناعتها النفطية عبر العقود وذلك مقارنة بدول أفضل منها موارد بشرية وطبيعية مثل العراق أو قلة في السكان مثل ليبيا الا انها تعمل بجد وأجتهاد على تنويع قاعدتها الاقتصادية وتقليل أعتمادها على النفط وذلك أستباقا للتحولات التي تشهدها سوق الطاقة لآسباب مختلفة ويمكن أن تدفع بالنفط الى زاوية الاهمال في غضون عقود قليلة. يمكن القول بصورة عامة أن السودان لن يصبح منتجا رئيسيا للبترول، وحتى أبان عقد الطفرة النفطية وقبل الانفصال كان حجم أحتياطياته المعروفة وهو خمسة مليارات برميل يماثل حجم أحتياطي حقل واحد هو حقل الشيبة في الربع الخالي. كل ما يحتاجه السودان تأمين أحتياجاته من الطاقة لتسيير أمور حياته اليومية وفوق ذلك توفير الوقود اللازم للقطاعات الانتاجية والزراعية تحديدا. واذا كان لأتفاق النفط مع جوبا الذي تزامن وبالصدفة مع توقيع أعلان الخرطوم أواخر يونيو الماضي يمثل الخطوة الاولى في طريق طويل لاستعادة عافية الصناعة النفطية السودانية، الا ان استعادة عافية الاقتصاد السوداني الكلية تحتاج الى معالجة جذرية ومختلفة تبدأ بالوضع السياسي وترتيب للاولويات، وأهم من ذلك المتابعة وأيجاد معالجة للدمار الذي ألحقته ولاتزال ثنائية عقلية الافندية التي تجذرت بالضعف الناجم عن ممارسة التمكين. فهذه العقلية تكاد تحول أجرأ عملية لآشراك القطاع الخاص في العملية الاقتصادية الى مجرد برنامج نظري و لا تتوفر لديها العزيمة أوالارادة لمراجعة ذلك البرنامج بعد مرور سبعة أشهر على البدء في تطبيقه أو البحث في ضياع موسم الهدي لهذا العام.

asidahmed@hotmail.com

 

آراء