الرد على دعوى تعارض الدولة المدنية ومقوماتها “المواطنة وسيادة القانون والديموقراطيه” مع المنظور السياسي الاسلامى

 


 

 

 

د. صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم

Sabri.m.khalil@gmail.com

 

تمهيد: تهدف الدراسه الى الرد على دعوى تعارض الدولة المدنية ومقوماتها ”
المواطنة وسيادة القانون والديموقراطيه ” مع المنظور السياسي الاسلامى.
تعدد دلالات مصطلح “الدولة المدنية” : لكل مصطلح دلالات “معاني” متعددة :
فهناك دلالته العامة اى المصطلح كمفهوم نظري مجرد ، وهناك دلالته الخاصة اى ما يكتسبه المصطلح من معنى كمحصله لتطبيقه في واقع اجتماعي معين زمانا ومكانا، وهناك دلالته المشتركة اى المعنى الذي تشترك في فهمه كل الفلسفات والمناهج، وهناك دلالته المنفردة اى المعنى الذي تنفرد بفهمه فلسفه ومنهج معينين. فإذا تناولنا مصطلح “الدولة المدنية” فإننا نجد أن له دلالات
متعددة:
الدلالة العامة – المشتركة لمصطلح الدولة المدنية : فهناك الدلالة
العامة- المشتركة للمصطلح، وتتمثل في الدولة المدنية كمفهوم مجرد ، تشترك في فهمه كل الفلسفات والمناهج ،ومضمون هذه الدلالة له جانبين:
أولا: جانب ايجابي مضمونه أن الدولة المدنية تقوم على إسناد السلطة السياسية للشعب، وبالتالي فان الحاكم فيها نائب ووكيل عنه ، لها حق تعيينه ومراقبته وعزله. ويتصل بهذا الجانب الايجابي ان السلطة في هذه الدولة المدنية تتأسس على جمله من المفاهيم كالمواطنة وسيادة القانون والديموقراطيه…”مقومات الدولة المدنية “.
ثانيا: جانب سلبي مضمونه أن الدولة المدنية نقيض للدولة الثيوقراطيه “الدولة الدينية بالمعنى الغربي” التي ينفرد الحاكم فيها بالسلطة السياسية دون الشعب ، كنتيجة لازمه لانفراده بالسلطة الروحية ” الدينيه ”
دونه.. .
الدلالة الخاصة – المنفردة لمصطلح الدولة المدنية : كما أن هناك الدلالة الخاصة – المنفردة لمصطلح”الدولة المدنية”ممثلا فى ، ومثال لهذه الدلالة الدولة المدنية كما جرى تطبيقها في واقع المجتمعات الغربية ، وطبقا للمفهوم الليبرالي للدولة المدنية ..
المواقف المتعددة من الدولة المدنية: وهناك ثلاثة مواقف أساسيه من الدولة المدنية في المجتمعات المسلمة المعاصرة وهى :
الرفض المطلق (التقليد): وهو موقف يقوم على الرفض المطلق للدولة المدنية ، اى رفض كافه دلالات مصطلح “الدولة المدنية” ، فهو لا يميز بين الدلالات المتعددة له، الايجابية منها والسلبية. وهذا الموقف يقوم على أن تحقيق التقدم الحضاري للمجتمعات المسلمة، يكون بالعودة إلى الماضي، والعزلة عن المجتمعات المعاصرة، وبمنظور علم أصول الفقه يقوم على الوقوف عند أصول الدين وفروعه، فهو لا يميز بين الأصول النصية الثابتة ،والفروع الاجتهادية المتغيرة، لأنه يقوم على التَّقْلِيدِ الذي ذمه القران الكريم (وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه إباءنا)(لقمان:21)، والذي نهى عنه الائمه : يقول الإمام احمد بن حنبل( لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وخذوا من حيث اخذوا)(ابن القيم أعلام الموقعين،ج2، ص302)...
القبول المطلق (التغريب): وهو موقف يقوم على القبول المطلق للدولة المدنية،اى قبول كافه دلالات مصطلح “الدولة المدنية” ، دون تمييز بين دلالاته المتعددة ، الايجابية منها والسلبية.
وهو موقف يقوم على أن تحقيق التقدم الحضاري للمجتمعات المسلمة لا يمكن أن يتم إلا باجتثاث الجذور ، وتبني قيم المجتمعات الغربية. وفي منظور علم أصول الفقه يقوم على تبني مفاهيم وقيم وقواعد حضارة أخرى ،وان تناقضت مع أصول الدين النصية الثابتة ” وقد لا يعي أصحاب هذا الموقف هذا التناقض”.
الموقف النقدي (التجديد): وهو موقف يتجاوز موقفي الرفض المطلق أو القبول المطلق للدولة المدنية، إلى موقف نقدي منها، يقوم على التمييز بين الدلالات المتعددة لمصطلح ألدوله المدنية ، أولا: الدلالة ألعامه – المشتركة : ومضمونها – كما سبق ذكره -الدولة التي تقوم على إسناد السلطة السياسية للشعب، وبالتالي فان الحاكم فيها نائب ووكيل عنه ، لها حق تعيينه ومراقبته وعزله، وهى نقيض للدولة الثيوقراطيه “الدولة الدينية بالمعنى الغربي” التي ينفرد الحاكم فيها بالسلطة السياسية دون الشعب ، كنتيجة لازمه لانفراده بالسلطة الروحية ” الدينيه ” دونه. وإسناد السلطة للشعب في ألدوله المدنية يعنى أن السلطة تستند فيها إلى مفاهيم المواطنة وسيادة القانون والديموقراطيه…”مقومات الدولة المدنية ”
عدم تعارض الدلالة العامة – المشتركة لمصطلح” الدولة المدنية” مع المنظور السياسي الاسلامى: والمنظور السياسي الاسلامى -على مستوى أصوله النصية الثابتة وفروعه الاجتهادية المتغيرة- لا يتناقض مع هذه الدلالة العامة المشتركة لمصطلح الدولة المدنية،وفيما يلى سنوضح :
أولا: اتساق مفاهيم وقواعد المنظور السياسي الاسلامى مع الجانب الايجابي لمضمون الدلالة العامة المشتركة لمصطلح ألدوله المدنية:
ا/استخلاف الجماعة في الأمر ” السلطة” والشورى : فالفلسفة السياسية الاسلاميه قائمه على جمله من المفاهيم الكلية التي لا تتناقض مع هذه الدلالة ، كاستخلاف الجماعة “الشعب” في الأمر اى السلطة “ممارسه السيادة فى زمان ومكان معينين”، استنادا إلى مفهوم الاستخلاف- بعد إسناد ألحاكميه اى السيادة (السلطة المطلقة) لله تعالى استنادا الى مفهوم التوحيد ﴿ … إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ﴾ ( يوسف: 40) – ومن أدله ذلك تقرير القران أن الأمر اى السلطة شورى بين المسلمين ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾، وكذلك عموم الاستخلاف في القرآن ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ﴾ ( فاطر: 39). ، ب/ البيعة: وكذلك جاء تعريف علماء أهل السنة- بمذاهبهم الكلامية والفقهية المتعددة – للبيعة متسقا مع كون الحاكم في الدولة المدنية نائب ووكيل عن الشعب، له حق تعينه ومراقبته وعزله ، يقول القاضي الباقلاني ( إن الإمام إنما ينصب لإقامة الأحكام وحدود ، وأمور شرعها الرسول وقد علم الأمة بها ،وهو في جميع ما يتولاه وكيل للأمة ،عليها خلعة والاستبدال به متي اقترف ما يوجب خلعة)(جلال الدين السيوطي والمحلى، تفسير الجلالين ، ص 188) ، ويعرف الماوردي البيعة بأنها ( عقد مرضاة واختيار لا يدخله اكراة ولا إجبار)، ويقول أبو يعلي أن الخليفة ( وكيل للمسلمين ) (المارودي، الأحكام السلطانية، ص 7 ).
ج/ الامامه “السلطة” من فروع الدين وليست من أصوله: ويتسق مع الدلالة العامة -المشتركة لمصطلح “الدوله المدنية” أن الامامه – بمعنى السلطة – هي فرع من فروع الدين وليست أصل من أصوله ، يقول الآمدي ( واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ، ولا من الأُمور اللابدِّيَّات ، بحيث لا يسع المكلَّف الإعراض عنها والجهل بها …) (غاية المرام في علم الكلام : ص 363) . ويقول الإيجي ( وهي عندنا من الفروع ، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيّاً بمن قبلنا ) (المواقف : ص 395) . ويقول الإمام الغزالي ( اعلم أنّ النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمات ، وليس أيضاً من فنّ المعقولات ، بل من الفقهيات …) (الاقتصاد في الاعتقاد : ص 234) .
ويقول التفتازاني ( لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة ، بعلم الفروع أَليق …
) (شرح المقاصد : ج 2، ص 271)....
التمييز بين الدولة والسلطة : أما الأقوال الواردة عن علماء أهل السنة عن وجوب نصب إمام فتتعلق بالدولة وليس بالسلطة ، فمفهوم الدولة اشمل من مفهوم السلطة ، ذلك أن أركان الدولة هي الشعب والأرض والسلطة، فهذه الأقوال تتعلق بالدولة كضرورة اجتماعيه، وهذا المبدأ اتفقت عليه جميع الفرق الاسلاميه ماعدا الخوارج النجدات ، بل اتفقت عليه جميع المذاهب السياسية في الفكر السياسي الحديث والمعاصر ماعدا المذهب الفوضوي ( مذهب اللا دوله)، ويمكن التحقق من صحة ذلك ، من خلال استقراء هذه الأقوال ، ودراسة السياق الذي ورد فيه القول بوجوب نصب الإمام ، فعلى سبيل المثال يقول الإيجي ( نَصْبُ الإمام عندنا واجبٌ علينا سمعاً…وقال : انه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي ? على امتناع خلو الوقت عن إمام، حتى قال أبو بكر ” رضى الهل عنه ” في خطبته” ألا إن محمداً قد مات، ولا بدَّ لهذا الدين ممن يقوم به ” ، فبادر الكل إلى قبوله، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله ، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا مِنْ نَصْب إمام متَّبَع في كل عصر…)(المواقف ، ص 395 ). فهذا النص يتحدث عن نصب الأمام في كل زمان ، وليس نصب الإمام في زمان معين، كما تفيد العبارات( تواتر إجماع المسلمين … على امتناع خلو الوقت عن
إمام) ، و (لم يزل الناس على ذلك … مِنْ نَصْب إمام متَّبَع في كل عصر…)...
نصب الإمام فرض كفاية لا فرض عين: اتساقا مع ما سبق ، من تقرير علماء أهل السنة أن الامامه – بمعنى السلطة – هي فرع من فروع الدين وليست أصل من أصوله ، وأن قولهم بوجوب نصب إمام يتصل بالدولة وضرورتها الاجتماعية، ولا يتعلق بالسلطة، فقد قرر علماء أهل السنة أن الوجوب هنا هو وجوب كفائي لا عيني، اى أن نصب الإمام فرض كفاية لا فرض عين ، يقول الماوردي ( فإذا ثبت وجوبها ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط ففرضها على الكفاية، وإن لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان:
أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إمامًا للأمة، والثاني: أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهما للإمامة، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم، وإذا تميز هذان الفريقان من الأمة في فرض الإمامة وجب أن يعتبر كل فريق منهما بالشروط المعتبرة فيه) ( الأحكام السلطانية:
ص 5).. .
د/السياسة الشرعية ما يحقق مصلحه الجماعة ولو لم يرد في نص (اتساق – وليس
تطابق- مع النص) : كما يتسق مع الدلالة العامة المشتركة لمصطلح الدوله المدنية تقرير علماء أهل السنة أن السياسة الشرعية هي كل ما يحقق مصلحه الجماعة ولو لم يرد فيه نص ( فهى اتساق –وليس تطابق -مع النص ) يقول ابْنُ عَقِيلٍ(السِّيَاسَةُ مَا كَانَ فِعْلاً يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ.)، ويعرف ابن نجيم الحنفي في تعريف السياسة الشرعية بأنها:( فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي )(الأحكام السلطانية والسلوك في سياسة الملوك للإمام الماوردي)،ويقول ابن القيم(إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَالسَّمَوَاتُ فَإِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْلِ وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ بِأَيْ طَرِيقٍ كَانَ، فَثَمَّ شَرْعُ اللهِ وَدِينُهُ، وَاَللهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَأَعْدَلُ أَنْ يَخُصَّ طُرُقَ الْعَدْلِ وَأَمَارَاتِهِ وَأَعْلَامَهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَنْفِي مَا هُوَ أَظْهَرُ مِنْهَا وَأَقْوَى دَلَالَةً، وَأَبْيَنُ أَمَارَةً. فَلَا يَجْعَلُهُ مِنْهَا، وَلَا يَحْكُمُ عِنْدَ وُجُودِهَا وَقِيَامِهَا بِمُوجِبِهَا، بَلْ قَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ الطُّرُقِ، أَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ الْعَدْلِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَقِيَامُ النَّاسِ بِالْقِسْطِ، فَأَيُّ طَرِيقٍ اُسْتُخْرِجَ بِهَا الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ فَهِيَ مِنْ الدِّينِ، وَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لَهُ.فَلَا يُقَالُ: إنَّ السِّيَاسَةَ الْعَادِلَةَ مُخَالِفَةٌ لِمَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ، بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِمَا جَاءَ بِهِ، بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، وَنَحْنُ نُسَمِّيهَا سِيَاسَةً تَبَعًا لِمُصْطَلَحِهِمْ، وَإِنَّمَا هِيَ عَدْلُ اللهِ وَرَسُولِهِ، ظَهَرَ بِهَذِهِ الْأَمَارَاتِ
وَالْعَلَامَاتِ) (الأحكام السلطانية،أبي يعلى الفراء).
ه/ تقرير كثير من العلماء عدم حجِّية التصرفات النبوية الدنيوية : كما يتسق مع الدلالة العامة –المشتركة لمصطلح الدوله المدنية تقرير كثير من علماء أهل السنة عدم حجِّية التصرفات النبوية الدنيوية:
الأدله: وقد استندوا إلى العديد من الادله ومنها :أولا: حديث تأبير النخل
: في صحيح مسلم، ” قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فإذا هم يأبرون النخل –يقول: يلقحون النخل- فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه، فنفضت، فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر”. ثانيا: حديث القضاء:يقول النبي ( ص ):”إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي. ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا .ثالثا:حديث الحرب والرأي والمكيدة :إن الحباب بن المنذر، قال في سياق غزوة بدر: يا رسول الله:
أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟؟قال ( ص): بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله ( ص) : لقد أشرت بالرأي.
الأقوال: يقول الإمام ابن حزم بعد أن ساق حادثة التأبير(فهذا بيان جلي – مـع صحة سنده – في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين”. ثم قال:
“وإننا أبصر منه بأمـور الدنيا التي لا خير معها إلا في الأقل وهو أعلم منا بأمر الله تعالى، وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي…).ويقول القاضي عياض(فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها: يجوز عليه ( صلى الله عليه وسلم ) فيها ما ذكرناه [أي الخطأ ]، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة ، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وشغل نفسه بها.. والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مشحون القلب بمعرفة الربوبية، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية. ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة). ويقول الشيخ شاه ولي الله الدهلوي:أن علوم النبي على قسمين:أحدهما: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة والآخر: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله ( ص): “إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر” وقوله في قصة تأبير النخل.. ) ثانيا : إقرار المنظور السياسي الاسلامى لمقومات الدولة المدنية : كما اقر المنظور السياسي الاسلامى مقومات الدولة المدنية “كالمواطنة وسيادة القانون والديموقراطيه..”التي تتصل بالجانب الايجابي لمضمون الدلالة العامة المشتركة لمصطلح الدولة المدنية :
ا/ المواطنة: اقر الإسلام كدين مفهوم المواطنة، الذي يشمل المسلمين وغير المسلمين، وهو ما يتضح من خلال وثيقة الصحيفة التي كانت بمثابة دستور لدوله المدينة، وطبقا لها نشأت علاقة انتماء جديدة،علاقة انتماء إلى ارض مشتركه (وطن)، فترقى العلاقة الجديدة بالناس جميعا(أهل الصحيفة) إلى ما فوق الطور القبلي ، ففي المدينة المنورة و في ظل الصحيفة تكون “شعب”
تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين(لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم)، ولكن يتوحد الناس فيه (مع اختلاف الدين) في علاقة انتماء إلى ارض مشتركه ( وطن)( وأنَّ يهود بني عوف أمَّة مع المؤمنين …).
من حقوق المواطنة : واتساقا مع إقرار الإسلام لمفهوم المواطنة الذى يشمل المسلمين وغير المسلمين، اقر الإسلام بجمله من الحقوق للمنتمين إلي الأديان الأخرى،ومن هذه الحقوق: ا/سناد الأعمال: ففيما يتعلق بإسناد الأعمال لغير المسلم ، فإننا نجد أن هناك من يرى المنع المطلق كأغلب المالكية والإمام احمد، لكن هناك من يرى الجواز المطلق كابي حنيفة وبعض المالكية، أو الجواز أحيانا والمنع أحيانا وهو رأى اغلب العلماء،والذي نراه وجوب التمييز بين غير المسلم المواطن وغير المسلم الاجنبى، فالأول يحق له إسناد الأعمال له مادام شرط الكفائه متوفر فيه ، لأنه جزء من حق المواطنة الذى اقره الإسلام، أما الثاني فيتوقف إسناد الإعمال له على مصلحه الدولة.ب/الأخذ برأيه: أما فيما يتعلق بالشورى فانه يحق لغير المسلم الأخذ برأيه في الشورى ، لان مجال الشورى هو الفروع لا الأصول، يقول ابن كثير في تفسير الايه( اسألوا أهل الذكر)( اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف)( 3/215). ج/الحرية الدينية: أما فيما يتعلق بالحرية الدينية ، فقد قرر الإسلام الحرية الدينية لغير المسلمين، ممثله في حرية الاعتقاد وحرية ممارسه الشعائر والأحوال الشخصية، بشرط الخضوع لقواعد النظام العام الإسلامي (لا إكراه في الدين).د/الفهم الصحيح لمفهوم الذمة: أما عن مفهوم أهل الذمة فان الذمة لغة العهد والكفالة والضمان والأمان(الفيروزابادى، القاموس المحيط ،
4/115) ، أما اصطلاحا فقد عرفها العلماء بانها ( التزام تقرير الكفار في ديارنا وحمايتهم والذب عنهم ببذل الجزية والاستسلام من جهتهم)( أبو زهره المجتمع الانسانى، ص 194) ، فهو تقرير حقوق المواطنة لغير المسلم في الدولة الاسلاميه، مع احتفاظه بحريته الدينية،على المستوى الدستوري( في ذمه الله ورسوله) ، ضمانا لعدم إهدارها بواسطة الاغلبيه المسلمة ، مادام قائما بواجباتها. ه/التمييز حكم تاريخى مشروط وليس قاعده مطلقه: أما التمييز بين الذميين والمسلمين فلم يقل به احد من المتقدمين وقال به بعض العلماء ، في مرحله تاريخية لاحقه ، لوقوف بعض الذميين مع التتار ضد المسلمين ،من باب الاحتراس ،فهو ليس قاعدة بل حكم تاريخي مربوط بظروف معينه(عبد العزيز كامل، معامله غير المسلمين ج1، ص199).و/لفهم الصحيح لمفهوم الجزية: أما الجزية فهي حكم من أحكام الحرب كبدل للإعفاء من الجندية ورد في الصلح مع نصارى نجران( ليس على أهل الذمة مباشره قتال ،وإنما أعطوا الذمة على أن لا يكلفوا ذلك) ، لذا ذهب العديد من العلماء كرشيد رضا ووهبه الزحيلى (أثار الحرب،ص698) وعبد الكريم زيدان ( الفرد
والدولة،ص98) إلى أنها لا تؤخذ في حاله أداء الخدمة العسكرية – كما هو الحال في الدوله الحديثة- وقد استندوا في ذلك إلى العديد من السوابق التاريخية التي تؤيد ذلك ، ففي صلح حبيب بن مسلم للجراحجه( أنهم طلبوا الأمان والصلح ، فصالحوه على أن يكونوا أعوانا للمسلمين، وان لا يؤخذوا بالجزية)( البلاذردى، فتوح البلدان،ج1/ ص217)، ومع أهل ارمينه( أن ينفروا لكل غاره… على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلي ذلك)( الطبري) ب/ سيادة القانون :
تعريف المفهوم: لا يمكن تعريف مفهوم سيادة القانون إلا بالتمييز بين تفسيرين له: الأول :التفسير الشكلي: ويتعلق بوجود القانون ذاته . الثاني
: التفسير الجوهري: لا يتعلق بوجود القانون او عدم وجوده، بل بسيادة القانون داخل مجتمع منظم قانونا ، اى ان القانون في هذا التفسير للمفهوم موجود لكن تنقصه السيادة،ومضمون هذا التفسير يتعلق بالتزام الدولة ممثله في سلطاتها التشريعية والتنفيذية بالقانون .
سيادة القانون في المنظور القانوني الاسلامى: يتسق المنظور القانوني الاسلامى مع مفهوم سيادة القانون طبقا لدلالته العامة المشتركة، فهو
أولا: يتفق مع التفسير الشكلي للمفهوم،والمتعلق بوجوب وجود قانون ينظم حركه المجتمع ، من خلال تقريره وجوب أن تحكم العلاقات بين الناس في المجتمع قواعد عامة مجرده سابقه علي نشأة تلك العلاقات هي الشريعة الاسلاميه اى النظام القانوني الاسلامى، يقول تعالى{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ً)[الأحزاب: 36] ، ويقول
تعالى: ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ )-
[النساء: 59]، ويقول الرسول( صلى الله عليه وسلم) (السيد الله تبارك
وتعالى) ،.كما يتفق المنظور القانونى الاسلامى مع التفسير الجوهري للمفهوم والمتعلق بالتزام الدولة ممثله في سلطاتها التشريعية والتنفيذية بالقانون ومعاييره، حيث تشير إليه كثير من النصوص كقوله صلى الله عليه وسلم (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
ج/الديموقراطيه:
تعدد دلالات مصطلح الديموقراطيه : لمصطلح الديموقراطيه – ككل المصطلحات – دلالات متعددة،وطبقا لهذا التعدد الدلالي فان لمصطلح الديموقراطيه دلالته العامة ” اى المصطلح كمفهوم مجرد” ، المشتركة “اى المعنى الذى تشترك في فهمه كل الفلسفات والمناهج” ،هذه الدلالة تتصل بالأصل الاغريقى للمصطلح والذي ترجمته حكم- سلطه- الشعب ، ومضمونها ” ان يكون التنظيم القانوني للمجتمع متفقا مع ما يريده الناس فيه”( د.عصمت سيف الدولة، الطريق، ج 2، ص 93)، وطبقا لهذا المضمون فان الديمقراطية منهجيا هي أسلوب المجتمعات في حل مشكلاتها، من خلال حرية الرأي للجميع، حرية التفكير للجميع، عمل الجميع في تنفيذ رأي الأغلبية، مع احترام حرية المعارضة. وفنيا هي نظام فني لضمان سلطه الشعب ضد استبداد الحكام. …كما ان لمصطلح الديموقراطيه دلالته الخاصة ” اى ما يكتسبه المصطلح من معنى كمحصله لتطبيقه في واقع اجتماعي معين زمانا ومكانا ، المنفردة “اى المعنى الذى تنفرد بفهمه فلسفه ومنهج معينين “، ومثال لهذه الدلالة الديموقراطيه الليبرالية من حيث هي محصله تطبيق مفهوم الديموقراطيه في واقع المجتمعات الغربية منذ القرن السابع عشر، وطبقا للمعنى الذى تنفرد بفهمه الليبرالية كفلسفة ومنهج معرفه .
المواقف المتعددة من الديموقراطيه : وفى إطار الفكر السياسي الاسلامى المعاصر هناك موقفين أساسيين من مفهوم الديموقراطيه وهما:
أولا: الرفض المطلق: الموقف الأول يقوم على يقوم على الرفض المطلق لمفهوم الديموقراطيه ، اى رفض كل دلالاته بناءا على العديد من الحجج اهمها: ا/ مصطلح الديموقراطيه : من هذه الحجج ان مصطلح الديموقراطيه اجنبى.غير انه لا حرج من استخدام اى مصطلح ، ما دام هذا الاستخدام ذو دلاله لا تتناقض مع قواعد الوحي المطلقة ، لان العلماء قالوا انه لا مشاجه في الاصطلاح، والعبرة بالمضمون لا الشكل، كما ان القران الكريم احتوى على عشرات الكلمات ذات الأصول الاعجميه كسندس وكرسي وإستبرق ..(عدنان سعد الدين ، الحركة الاسلاميه رؤية مستقبليه ،مكتبه مدبولى، ص271 )، يقول ابن تيمية عن المصطلحات الكلامية مثلا( فالسلف والأئمة لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ (الجوهر) و(العرض) و(الجسم) وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات قد يكون فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما نهى عنه لاشتمال هذه الألفاظ على معني مجملة في النفي والإثبات… فإن عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووزنت بالكتاب والسنة بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة وينفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة كان ذلك هو الحق)..
.ب/ الشورى والديموقراطيه : من هذه الحجج ان هناك تعارض بين الشورى والديموقراطيه. وفى الحقيقة فان الفكر السياسي الاسلامى يستند إلى مجموعه من المفاهيم المطلقة عن قيود الزمان والمكان، وبالتالي صالحه لكل زمان ومكان، أهمها مفهوم الشورى ،الذى مضمونه تبادل العلم بمشكله مشتركة، ثم تبادل المعرفة بحلولها المحتملة، وأساليب تحقيقها،ثم تعين القرار الذي يرى كل مشارك انه الحل الصحيح للمسألة، والمعرفة وذلك بالإشارة به على الآخرين، أما كيفه قيام السلطة في زمان ومكان معينين فقد ترك الإسلام للمسلمين أمر الاجتهاد فيها، بما في ذلك الاستفادة من إسهامات المجتمعات الأخرى ،وهنا يمكن الأخذ بالديموقراطيه كأسلوب لتبادل العلم بمشكله مشتركة، ثم تبادل المعرفة بحلولها المحتملة، وأساليب تحقيقها،ثم تعين القرار الذي يرى كل مشارك انه الحل الصحيح للمسألة، والمعرفة وذلك بالإشارة به على الآخرين ،هنا تكون العلاقة بين الشورى والديموقراطيه علاقة تحديد وتكامل اى ان الشورى تحدد الديموقراطيه كما يحدد الكل الجزء فيكملها وتغنيها ولكن لا تلغيها ...
ج/الشورى بين الإلزام والإعلام : وهناك مذهبين في الفكر السياسي الاسلامى الاول يرى ان الشورى ملزمه، والثاني يرى أنها معلمه. ونحن إذ نرى صواب المذهب الاول لان الأمر بالشورى ورد بصيغه الإلزامـ، فانه يجب ملاحظه ان إذا كان هناك وجه خطاْ في المذهب الثاني، وهو نفى صفه الإلزام عن الشورى، فان هناك وجه صواب في هذا المذهب، وهو ان هناك قضايا فنيه تستلزم راى المختصين من علماء وخبراء، وليس راى الشعب او اغلبه لانها غير متصلة بمشاكله ، وهى ذات صفه استشاريه غير ملزمه...
د/مصطلح الحكم : ومن هذه الحجج ان الديموقراطيه طبقا لأصل المصطلح تستند الحكم للشعب (حكم الشعب)،بينما القران يسند الحكم لله ،هذه الحجة لا تكون صحيحة إلا إذا كان لفظ ( الحكم ) الوارد في القرآن يراد به السلطة، لان المقصود بحكم الشعب في أصل المصطلح سلطه الشعب، وهذا غير صحيح ،إذا أن هذه اللفظ إذا ورد في القرآن منسوباً إلى الله تعالى فانه يعني السيادة التكليفيه والتكوينية ، وإذا ورد منسوباً إلى الإنسان فأنه يعني الفصل في الخصومات والقضاء كما في قوله تعالى ﴿و داؤود وسليمان إذا يحكمان في الحرث ﴾ وقوله تعالى ﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾، كما يعني الحكمة النظرية كما في قوله تعالى عن يحي عليه السلام ﴿ يا يحي خذ الكتاب بقوة واتيناه الحكم صبيا﴾ وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ﴿ ربي هب لي حكما وألحقني بالصالحين﴾ في تفسير البيضاوي أن لفظ الحكم ورد في القران بمعني الحكمة النظرية وفصل الخصومات.اما مصطلح السلطة كما في الفكر السياسي الغربي فلم يستخدم في الفكر السياسي الإسلامي، وان اشتق من كلمة سلطان التي وردت في القرآن: ﴿ هلك عني سلطانية﴾ ﴿يا معشر الإنس والجن إن استطعتم إن تنقذوا من أقطار السماوات و الأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان ﴾ والمصطلح المقابل له في الفكر السياسي الإسلامي هو مصطلح ( الأمر) ومنه سمي من اسند إلية السلطة ( الأمير) و(أولي الأمر). ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ… ﴾ ( النساء: 59)و هو المصطلح الذي استخدمه الخلفاء الراشدين والصحابة ،فعند وفاة الرسول(ص) تحدث أبو بكر عن السلطة فقال ” إن محمد قد مضي لسبيله ولابد لهذا الأمر من قائم يقوم به”.وقال عمر بن الخطاب يصف السلطة ” إن هذا الأمر لا يصلح إلا بالشدة التي لا جبرية فيها وباللين الذي لا وهن فيه”.وتحدث علي ابن أبي طالب عن إن موت النبي(ص) قد أعقبه تنازع الناس في السلطة فقال… أن تنازع الأمر بعده...
د/بين السيادة والسلطة:ومن هذه الحجج ان الديموقراطيه تسند الحاكميه (السيادة اى السلطة المطلقة)، وكذا التشريع(حق وضع القواعد القانونية
المطلقة) والملكية (حق التصرف المطلق في المال) للشعب،-بينما الإسلام– انطلاقا من مفهوم التوحيد- يسندهما لله تعالى وحدة . غير ان هذه ألحجه تخلط بين الدلالة الخاصة المنفردة للديموقراطيه ممثله فى الديموقراطيه الليبرالية، والتى لا تميز بين السيادة والسلطة، وكذا لا تميز بين التشريع والتقنين والملكيه والانتفاع، وتسندهم حميعا إلى الشعب، وبين ألدلاله العامة المشتركة للديموقراطيه .فالديموقراطيه لا تعنى إسناد السيادة(السلطة المطلقة) للشعب “اى تفسير حكم الشعب بأنه سيادة الشعب”
إلا في الصيغة الليبرالية للديموقراطيه، والتي ظهرت في مراحل تاليه لظهور المصطلح” القرن السابع عشر”. أما تفسير حكم الشعب بأنه حاكميه الشعب فغير متصور، لان الأخير هو مصطلح اسلامى يقابل مصطلح السيادة فى الفكر الغربي يقول الإمام الغزالي ( الحاكم هو الشارع ، و لا حكم إلا لله تعالى لا حكم غيرة،وأما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك علي مملوكه ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي ( صلى الله عليه وسلم) والسلطان والسيد و الأب والزوج فان أمروا أو أوجبوا لم يجب شئ بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ، فالواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته ).فالحاكم عند الغزالي هو الذي له حق وضع القانون ابتداء ( الحاكم هو الشارع) كما انه مصدر السلطة ( أما النبي (صلى الله عليه وسلم) والسلطان والسيد والأب والزوج فان أمروا أو أوجبوا لم يجب شئ بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى)....
ه/مفهوم الاغلبيه: ومن هذه الحجج ان مفهوم الاغلبيه الذى يكمن خلف اى مفهوم ديموقراطى يتناقض مع الإسلام من عده أوجه أهمها:أولا:ان الصواب هو ما صوبه الشرع،فضلا عن ان رأى الاغلبيه قد يكون خطاْ. والرد هنا ان ترجيح رأي الأغلبية إنما يكون فى الفروع ، التي ترك الإسلام للناس امر الاجتهاد فى تحديد ما هو صواب أو خطاْ فيها، وليس فى الأصول النصية، التى حدد الإسلام ماهو صواب او خطاْ فيها. كما ان ترجيح فى الفروع ليس لان ما تراه الأغلبية هو الرأي الصحيح ، فالصحيح فى الأصول والفروع هو ما يطابق الحقيقة التكوينيه او التكليفيه، والحقيقة ذات وجود موضوعي غير متوقف علي وعي الناس، فلا وعي الأغلبية ولا وعي الأقلية دليل علي صحة أرائهم وفي هذا يستوون ، إنما يرجح رأي الأغلبية فى الفروع بحكم المساواة بين البشر والحفاظ علي وحدة المجتمع،يقول الشيخ محمد رشيد رضا (….ومنه يعلم أن ما شرعة الله من العمل برأي الأكثرية فسببه أنه هو الأمثل في الأمور العامة لا لأنهم معصومون منها ).ثانيا:أن القرآن ذم الكثير بكونها جاهلة وضالة في مثل الآيات:﴿ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ (يوسف:
21)…﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ ( الروم: 63). والرد أن القران ذم كثرة الكفر والضلالة لا كثرة الإيمان التي قرر الرسول ( صلى الله عليه وسلم) أنها لا تجمع علي ضلاله. يقول الشيخ محمد الغزالي ” وان ما استشهد به السيد المحاضر من بعض الآيات مثل الآية ( ولكن أكثرهم يجهلون )، فهذا في الأمم الضال وفي المشركين ، وأما سواد الأمة الاسلاميه فما تجمع علي ضلالة”. كما أن هذا في أمور الدين لا أمور الدنيا، وبالرجوع إلى سياق الآيات التي ورد فيها ذم الكثرة والتفاسير المختلفة للآيات نجد أن المراد بالكثرة كثرة الكفر لا الإسلام ، ففي تفسير الجلالين مثلاً قوله(( أكثر من في الأرض)) أي الكفار ( وعن سبيل الله)أي الدين”. ومن أدله ترجيح رأى الاغلبيه فى الفروع :ا/في السنة : في غزوة احد استشار الرسول ( صلى الله عليه وسلم) المسلمين في الخروج لمقاتله قريش أو البقاء ،ولكن أغلبية المسلمين أبو إلا الخروج ،فاخذ الرسول برأيهم، قال الحافظ بن حجر( وأبى كثير من الناس إلا الخروج).وروى الحافظ ابن كثير( وشاورهم في احد في ان يقعد بالمدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم).ب/أما عند علماء أهل السنة : فيقول الغزالي في مسألة ( إذا بويع
لإمامين) (أنهم لو اختلفوا في الأمور وجب الترجيح بالكثرة… ولأن الكثرة أقوى مسلك من مسالك الترجيح).وقال ابن تيميه في مبايعة أبى بكر( وإنما صار إماما بمبايعه جمهور الصحابة).وذهب أبى جرير الطبري، وابو بكر الرازي ، واحمد بن حنبل في احدي الروايتين عنه إلى انعقاد الإجماع برأي الأكثرين إذا قل مخالفهم ، وذهب بعضهم إلى انعقاد الإجماع برأي الأكثرية إذا كان مخالفوهم لا يبلغون حد التواتر ، وذهب بعضهم إلى القول الأكثر حجة ولكن لا يسمي إجماعا، ورأى آخرون ان إتباع رأي الأكثرية أولى فقط .ومن أقوال الفقهاء ” الأكثرية مدار الحكم عند فقدان دليل أخر،…. وإذا اختلط موتى المسلمين بموت الكفار وأريد الدفن والصلاة اعتبر الأكثر.وأوصى الرسول (
ص) المسلمين ان يلزمون عند الفتنة – أي الاختلاف- الجماعة – أي الأغلبية ، فقال” أمتي لا تجمع علي ضلالة” رواة بن ماجة وقال “يد الله مع الجماعة ” وقال ” عليكم بالسواد الأعظم “.ولذا اختار علما السنة لأنفسهم اسم ( أهل السنة والجماعة)، أي الكثرة...
و/البيعة بين الخصوص والعموم: ومن هذه الحجج أن اختيار الحاكم في المنظور السياسي الاسلامى يتم ببيعة أهل الحل والعقد، وهى بيعه خاصة . وهذا غير صحيح، ففي المنظور السياسي الإسلامي يتم اختيار الحاكم طبقا لبيعتان هما
: أولا: البيعة الخاصة: وهى بيعه أهل الحل والعقد ، وهي الجماعة التي لها حق البيعة الإمام من بين أعضائها، وهي تقارب ما يسمى في الفكر السياسي الحديث ( الهيئة التشريعية) التي تكون من ممثلين الأغلبية الشعب بانتخاب، والتي تتولي اختيار الحكومة (السلطة التنفيذية)، التي تكون مسئولية أمام هولاء الممثلين ( النظام البرلماني) . كما ان أهل الحل والعقد كانوا ممثلين لأغلبية الشعب تفويضا، وهو ما نلاحظه في جماعه المهاجرين الأولين التي تكون من عشرة كانوا يمثلون أهم البطون من القرشيين الذين هاجروا من مكة إلى يثرب ، فكان ذلك تفويضا، ولذا يجوز أن يكون اختيار أهل الحل والعقد في عصرنا بالانتخاب باعتبار ذلك وسيلة لضمان كونهم يمثلون أغلبية الجماعة، يوضح الإمام الغزالي صفات من له الحق في العقد للإمام ” أن يكون مطاعا ذا شوكه .. فالشخص الواحد المتبوع المطاع الموصوف بهذا الغرض لا شخصين أو ثلاثة فلا بد من اتفاقهم، وليس المقصود أعيان المبايعين، وإنما الغرض قيام شوكه الإمام بالإتباع والأشياع، ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من معتبري كل زمان” وهذة البيعة بمثابة الترشيح. ثانيا:البيعة العامة:إن البيعة الأولي لا تكفي وحدها، فلابد من البيعة العامة التي هي بمثابة تصديق علي الترشيح، وإكمال للعقد .يقول ابن تيمية ” وكذلك عمر لما عهد إليه ابوبكر ولم يبايعوة لم يصر إمام ،وكذلك عثمان لم يصر إمام باختيار بعضهم، بل بمبايعة الناس له”، ويقول الغزالي” ولو لم يبايع ابابكر غير عمر، وبقي كافة جميع الخلق مخالفين له لما انعقدت الإمامة ،فان المقصود الذي طلبنا له الإمام جمع شتات الآراء ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين “وعن عمر بن الخطاب (من بايع رجلا علي غير مشورة المسلمين فلا يبايع هو والذي بايعه تفوت أن يقتلا )وقولة (فمن تأمر منكم من غير مشورة من المسلمين فاقتلوه) ( أبو يعلى كتاب الإمامة ص 214).
ثانيا: الموقف النقدي: هذا الموقف يتجاوز موقفي الرفض أو القبول المطلقين لمفهوم الديموقراطيه، إلى موقف نقدي يقوم على التمييز بين دلالتي المفهوم ، فالإسلام لا يتناقض مع الدلالة العامة المشتركة لمفهوم الديمقراطية، اى انيكون التنظيم القانوني للمجتمع متفقا مع ما يريده الناس فيه،وهو ما يتحقق من خلال الديموقراطيه كنظام فني لضمان سلطه الشعب ضد استبداد الحكام. أما الدلالة الخاصة المنفردة للمفهوم اى الديموقراطيه الليبرالية ، فيقوم الموقف الصحيح منها على اخذ وقبول ما لا يناقض أصول الدين وواقع المجتمعات المسلمة، ورد ورفض ما يناقضهما .هذا الموقف يقوم إذا على قبول مفهوم الديموقراطيه بعد تقييده بالمفاهيم الكلية للفلسفة السياسية الاسلاميه،والتي هي بمثابة ضوابط موضوعيه مطلقه للتنظير والممارسة السياسية. أهمها:
ا/ التمييز بين الأصول والفروع: يجب التمييز بين أصول الدين ، التي مصدرها النصوص يقينية الورود القطعية الدلالة ، والتي تسمى تشريعا، والتي لا يجوز مخالفها او الاتفاق على مخالفتها سواء بواسطة فرد او فئه او اغلبيه او الشعب كله. والفروع التي مصدرها النصوص ظنيه الورود والدلالة، والتي تسمى اجتهادا، وفيها اختلف ويختلف المسلين بدون إثم، فمن أصاب فله أجران ومن اخطأ فله اجر، وهنا نرجح الاحتكام إلى رأى الاغلبيه . وطبقا لهذا فانه يجوز الاحتكام إلى رأى الشعب او أغلبيته في مجال السياسة
(السلطة) باعتبار ما ذهب إليه أهل السنة من ان الامامه (السلطة) من فروع الدين لا أصوله ....
ب/ التمييز بين السلطة والسيادة: بناءا على التمييز السابق بين الأصول والفروع يجب التمييز بين السيادة (السلطة المطلقة ) والسلطة (ممارسه السيادة في مكان وزمان معينين ) ، وذلك بإسناد الحاكمية(السيادة) لله تعالى وحدة – استنادا إلى مفهوم التوحيد ، واستخلاف الجماعة في إظهار الحاكميه ، بإسناد الأمر(السلطة) إليها، وممارستها لها مقيده بهذه ألحاكميه (السيادة)(وأمرهم شورى بينهم) ،أما الحاكم فنائب ووكيل عنها لها حق تعيينه ومراقبته وعزله، يقول الماوردي عن البيعة أنها ” عقد مرضاة واختيار لا يدخله اكراة ولا إجبار” ويقول أبو يعلي أن الخليفة ” وكيل للمسلمين “،وهنا يمكن الأخذ بالديموقراطيه كنظام فني لضمان ان يكون الحاكم نائب ووكيل عن الجماعة .
ثالثا: رفض المنظور السياسي الاسلامى للثيوقراطيه:كما رفض المنظور السياسي الاسلامى الثيوقراطيه ،وهذا الرفض هو مضمون الجانب السلبي للدلالة العامة المشتركة لمصطلح ” الدولة المدنية “:
تعريف الثيوقراطية : الأصل اللغوي لمصطلح الثيوقراطيه مشتق من الكلمة اليونانية ( Theokratia) وتعني الحكم الالهى ،أما اصطلاحا فان الثيوقراطيه هي مذهب يسند إلى الحاكم سلطه دينيه “روحيه” : مطلقه”مظهرها الاساسى سلطه التحليل والتحريم بدون نص”، ومقيده “من مظاهرها انفراده بسلطة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ” ، ويترتب على هذا أحقيته في الانفراد بالسلطة السياسية ”الزمنية”
تعارض الثيوقراطيه مع المنظور السياسي الاسلامى : والثيوقراطيه تتعارض مع المنظور السياسي الاسلامى،وفيما يلي نورد أدله هذا التعارض:1 / ليس في الإسلام سلطه دينيه مطلقه ” التحليل و التحريم بدون نص قطعي ” :
أول صفه للثيوقراطيه هي إنها تسند إلى الحكام سلطه دينيه مطلقه” مظهرها الاساسى التحليل والتحريم بدون نص يقيني الورد قطعي الدلالة ، وهو ما نهت عنه النصوص – كما سبق ذكره – قال تعالى ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ.)(النحل:116)...
2/الحكام لا ينفردون بسلطة دينيه مقيده” الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر “:ثاني صفه للثيوقراطيه أن الحكام ينفردون بسلطة دينيه مقيده” من مظاهرها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهو ما يتعرض مع كون هذه السلطة الدينية المقيدة مخوله – في الإسلام – بموجب الاستخلاف العام لجماعة المسلمين﴿ كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾، أما اى جماعه من المسلمين – ومنها جماعه الحاكم ونوابه – فهي مكلفه بالأمر بالمعروف او النهى عن المنكر من باب التخصص، وليس الانفراد كما فى قوله تعالى(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )(آل عمران: 104)....
3/الحكام لا ينفردون بالسلطة السياسية : ثالث صفه للثيوقراطيه أن الحكام ينفردون بالسلطة السياسية ، وهو ما يتعارض مع كون المنظور السياسي الاسلامى يسند السلطة السياسية – التي عبر عنها القران بمصطلح الأمر- إلى
الجماعة- بموجب الاستخلاف العام – قال تعالى ﴿ وأمرهم شورى بينهم)، أما الحاكم فنائب ووكيل عن الجماعة، لها حق تعينه ومراقبته وعزله ، ي، يقول أبو يعلي (الخليفة وكيل للمسلمين ) (المارودي، الأحكام السلطانية، ص 7 )،ويقول الماوردي ( البيعة عقد مرضاة واختيار لا يدخله اكراة ولا إجبار)... .
4/طاعة الحكام مقيده وليست مطلقه: ومن صفات الثيوقراطيه وجوب طاعة الإمام طاعة مطلقه ،وهو ما يتعارض مع تحريم النصوص للطاعة المطلقة للحكام او غيرهم ، وإيجابها للطاعة المقيدة – المشروطة – اى الطاعة بالمعروف ، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم ) (إنما الطاعة في المعروف لا طاعة في معصية)، قال الماوردي ( إذا تكاملت فيه شروط العادلة ، تجوز بها شهادته وتصبح ولايته ، فإذا انخرم منها وصف منع هذه الشهادة والولاية فلم يسمع له قول ولم ينفذ له حكم)، .وقال الإمام ابن حزم ( فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- فإذا زاغ عن شيء منهما، منع من ذلك وأقيم عليه الحق والحق ، فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلعه ، خُلع وولي غيره |)....
الدلالة الخاصة المنفردة لمصطلح” الدولة المدنية” الموقف النقدي منها :
أما الدلالة الخاصة المنفردة لمصطلح” الدولة المدنية” ، فمضمونها ما اكتسبه مصطلح” الدولة المدنية “من معنى كمحصله لتطبيقه في واقع مجتمع معين، والذي تنفرد بفهمه فلسفات ومناهج معرفه معينه المفهوم الليبرالي ”
العلماني ” للدولة المدنية” : ومثال للدلالة الخاصة المنفردة للمصطلح المفهوم الليبرالي للدولة المدنية، كما جرى تطبيقه فى واقع المجتمعات الغربية، ويقوم المفهوم الليبرالي للدولة المدنية – استنادا إلى مفهوم القانون الطبيعي – على إسناد السلطة والسيادة – والتقنين والتشريع- للشعب، فهو لا يميز – خلافا للمنظور السياسي الاسلامى – بين السيادة والسلطة من جهه، والاجتهاد والتشريع من جهة أخرى، يقول جون لوك (سلامة الشعب هي السنّة العليا، مبدأ عادل أساسي لا يضِّل مَن أخذ به بأمانة قط”. ويجب أن تهدف “القوانين إلى غرض واحد أخير، هو خير الشعب … ولا يحق للسلطة التشريعية ولا ينبغي لها أن تُسَلم صلاحية وضع القوانين لأية هيئة أخرى أو تضعها في غير الموضع الذي وضعها الشعب فيه قط) (في الحكم المدني، ص 235 وص225). والموقف الصحيح من هذه الدلالة الخاصة المنفردة لمصطلح”
الدولة المدنيه ” هو الموقف النقدي الذي يقوم على ورد ورفض ما خالف أصول الدين وواقع المجتمعات المسلمة،واخذ وقبول ما وافقهما.
التجديد: وهذا الموقف النقدي من الدولة المدنية يستند إلى موقف يقوم على أن تحقيق التقدم الحضاري لمجتمعات المسلمة ، يتم باستيعاب ما لا يناقض أصول الإسلام كدين”التي تمثل الهيكل الحضاري للمجتمعات المسلمة” ، سواء كانت من اجتهادات المسلمين ، أو إسهامات المجتمعات المعاصرة الأخرى. فهو موقف يسند إلى التجديد، والتجديد لغة أعاده الشيء الى سيرته الأولى (لسان العرب 3/111) ،أما في الاصطلاح الشرعي فهو الاجتهاد في فروع الدين المتغيرة، والمقيد”المحدود” بأصوله النصية الثابتة ، قال (صلى الله عليه
وسلم) (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) (سنن أبى داود، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة ح رقم 3740 والحاكم فى المستدرك 4/522).
الدولة المدنية ومشكله العلاقة بين الدين والدولة: ويتصل مصطلح ” الدولة المدنية ” بمشكله علاقة الدين بالدولة والحلول التي قدمت لها:
أولا: الثيوقراطيه ( دينيه السلطة والتشريع) : الحل الأول يقوم على الخلط بين الدين والدولة، وجعل العلاقة بينهم علاقة تطابق” وليست علاقة وحده وارتباط”، ومثال له الثيوقراطيه “الدوله الدينيه بالمفهوم الغربي” ، التي مضمونها انفراد الحاكم بالسلطة السياسية دون الشعب ، كنتيجة لازمه لانفراده بالسلطة الروحية ( الدينيه ) دونه . . وهذا الحل ينتهي إلى القول بدينيه السلطة والتشريع ، اى نفى مدنيه السلطة . هذا الحل يودى إلى تحويل المطلق عن قيود الزمان والمكان(الدين) إلى محدود بالزمان والمكان
(السلطة) أو العكس ، وبالتي إضفاء قدسيه الدين واطلاقيته على البشر واجتهاداتهم المحدودة بالزمان والمكان ، و هو ما رفضه الإسلام حين ميز بين التشريع كوضع الهي ثابت والاجتهاد ككسب بشرى ، كما أن المنظور السياسي الاسلامى يرفض الثيوقراطيه ، لأنه ينفى وجود سلطه دينيه مطلقه”التحليل والتحريم بدون نص”، كما ينفى انفراد الحاكم بالسلطة الدينيه المقيده”الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر” دون الجماعة، فهذه السلطة مخوله بموجب الاستخلاف العام للجماعة﴿ كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾.
ثانيا: العلمانية(مدنيه السلطة والتشريع): الحل الثاني يقوم على فصل الدين عن الدولة، اى فصل السلطة الروحية (الدينية) عن السلطة السياسية ، واهم ممثل له العلمانية التي كانت في الأصل ركن من أركان الديانة المسيحية، استنادا إلى قول المسيح (عليه السلام) “أعطوا ما قيصر لقيصر وما لله لله ” (متى 17: 21) ، وهو ركن لا يقوم على مجرد مقوله ” أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ، بل يقوم على هذا المبدأ وعلى تطبيقاته المتكررة في آيات الإنجيل (د. عصمت سيف الدولة ، عن العروبة والإسلام ، ص 198)، ثم تحولت العلمانية إلي تيار فكرى معين ، ظهر في مرحله معينه من مراحل التاريخ الاوربى، تحول إلي ثوره ضد تدخل الكنيسة في الحكم ، انتهى إلي أقامه نظام علماني في موقفه من الدين ، فردى في موقفه من المجتمع ، راسمالى في موقفه من الاقتصاد، ديمقراطي ليبرالي في موقفه من الدولة. كان محصله عوامل ثقافية ونفسيه وتاريخية وحضارية ، سادت أوربا نحو سبعه قرون.
وهذا الحل يقول بمدنيه السلطة والتشريع ، اى ينفى دينيه التشريع، وهنا نلاحظ انه بالاضافه إلى أن هذا الحل لا يعبر عن الحل الإسلامي للمشكلة، فان جوهر الدعوة إلى العلمانية في مجتمع اسلامى هو أن تستبدل المفاهيم والقيم والقواعد الاسلاميه ،بالمفاهيم والقيم والقواعد الغربية لتحقيق قدر من الشعور المستقر بالانتماء إلى الحضارة الغربية وهو مضمون التغريب.
ثالثا:المنظور السياسي الاسلامى (مدنيه السلطة ودينيه التشريع) : والحل الإسلامي يقوم على أن علاقة الدين بالدولة هى علاقة وحدة وارتباط (وليست علاقة خلط أو تطابق كما فى الثيوقراطيه )،. لان السلطة في الإسلام مقيده بمفاهيم وقيم قواعد كليه ، مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعي الدلالة “كالشورى والعدل والمساواة….كما أنها علاقة تمييز( وليست علاقة فصل كما في العلمانية) ، لان الإسلام- كما سبق ذكره- ميز بين التشريع كوضع الهي ثابت والاجتهاد ككسب بشرى متغير، فالمنظور السياسي الاسلامى يقوم على مدنيه السلطة (وليس التشريع كما في العلمانية) ” لان الحاكم في المنظور السياسي الاسلامى نائب ووكيل عن الجماعة، لها حق تعيينه ومراقبته وعزله اذا جار” ،كما يق وم المنظور السياسي الاسلامى على دينيه التشريع ” على مستوى أصوله ” (وليس السلطة كما في الثيوقراطيه) ، “باعتبار أن قواعد الشريعة الاصوليه هي المصدر الرئيسي للتشريع ”.
_____________________
للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زياره العنوان:
drsabrikhalil@wordpress.com
//////////////////////

 

آراء