السياسة والاقتصاد والنساء في الدول النامية: ترابط معقد وتحديات مستمرة

د. نازك حامد الهاشمي
ترتبط السياسة والاقتصاد في كل الدول (ويشمل ذلك الدول النامية أيضاً) بعلاقة وثيقة وتاريخية، إذ لا يمكن فهم تطور أحدهما دون النظر إلى الآخر. فمنذ حصول الكثير من الدول النامية على استقلالها في منتصف القرن العشرين، واجهت معظم تلك الدول تحديات جسيمة في بناء مؤسسات اقتصادية مستقرة وفعالة. ويُعزى ذلك – بدرجة كبيرة – إلى هشاشة أنظمتها السياسية، وضعف الحوكمة، وغياب الاستقرار التشريعي والمؤسسي بها. واستُخدمت في الغالب السياسات الاقتصادية لخدمة مصالح سياسية ضيقة، مما أدى إلى سوء توزيع الموارد، وظهور الفساد، وغياب التخطيط طويل الأجل. ونتيجة لذلك، اختلّت إدارة الموارد العامة، وتراجعت جودة الخدمات الأساسية، وتعثّرت مشاريع التنمية، مما زاد من حدة الأزمات الاقتصادية مثل ارتفاع معدلات التضخم والبطالة، ونقص وتدهور الخدمات العامة.
وفي المقابل، أثّرت هذه الأزمات الاقتصادية المتكررة سلباً على شرعية الأنظمة السياسية نفسها، وأدت إلى اضطرابات اجتماعية واحتجاجات شعبية، مختلفة ومتباينة الأسباب. كما أن اعتماد الدول النامية المفرط على المعونات الخارجية أو عدم استغلال مواردها الطبيعية بشكل فعّال جعل قراراتها السياسية في كثير من الأحيان رهينةً للضغوط الاقتصادية والدولية، مما حدّ من قدرتها على تبنّي سياسات مستقلة ومستدامة. وعقب نيل الاستقلال، كان من المنتظر أن تنطلق الدول النامية نحو بناء دولة حديثة تحقق التوازن بين متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال الاستثمار في التعليم، والرعاية الصحية، والبنية التحتية، وتمكين مختلف فئات المجتمع. غير أن الواقع أظهر تركيزًا سياسيًا مفرطًا على السيطرة على مقاليد الحكم وتثبيت النفوذ، في ظل غياب رؤية وطنية شاملة لإعادة هيكلة الاقتصاد أو تطوير المجتمع. وأفضى ذلك إلى فراغ واضح في السياسات التنموية، لا سيما في مجالات التعليم، والصحة، ودعم الإنتاج، وتمكين الفئات الضعيفة وفي مقدمتها النساء. والسودان مثال جيد على تلك الحالة.
وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته النساء في العديد من الدول النامية على صعيد التعليم والعمل، إلى جانب سنّ تشريعات تقوم على المساواة بين الجنسين، لا يزال تصنيفهن يقع ضمن الفئات الضعيفة في واقع الممارسة العملية. ويعود استمرار هذا الوضع إلى شبكة معقدة من العوامل الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي تتغلغل في البنية العميقة للمجتمعات، وتتجاوز حدود القوانين والنصوص. فالتمييز القائم على النوع الاجتماعي ما زال راسخًا في الذهنية العامة، إذ تُختزل قدرات النساء في أدوار تقليدية، ويتم التشكيك في أهليتهن للقيادة أو اتخاذ القرار، لا سيما في المجالات الاقتصادية والسياسية. وحتى حين تزداد نسبة التحصيل العلمي بين النساء، لا يرافق ذلك تحسّن مماثل في تمثيلهن في سوق العمل أو المناصب العليا، مما يعكس اختلالًا في تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص للجميع. فالمشكلة ليست في التأهيل والقدرة، بقدر ما هي في التمثيل العادل وفتح المجال للمشاركة الفعالة.
إضافة إلى ذلك، تستمر الهياكل المؤسسية في إنتاج أنماط من الإقصاء، من خلال سياسات تشغيل غير منصفة، وصعوبة وصول النساء إلى التمويل والدعم للمشاريع، وغياب آليات فعّالة تحميهن من التحرش والعنف والتمييز في بيئة العمل. وهكذا تُترك المرأة على هامش الاقتصاد، حتى وإن كانت تمتلك المؤهلات والقدرة. كذلك ومن الجوانب الأكثر إضرارًا أن بعض الأنظمة المجتمعية والسياسية ما تزال تُوظف تصنيف النساء ضمن الفئات الضعيفة كأداة إقصاء ناعمة. فعوضاً عن إدماج النساء كقوة فاعلة ومتكاملة في عملية بناء الدولة، يُزَجّ بهن في صراعات جانبية، أو يُستخدم حضورهن لأغراض رمزية في الخطابات السياسية، دون أن يُمنحن دورًا فعليًا في مواقع اتخاذ القرار. وهذا الإقصاء الممنهج (إن صح التعبير) لا يُقوّض مساهمة النساء فحسب، بل يُفوّت على الدولة فرصة الاستفادة من كامل طاقات النساء البشرية، ويُفرغ مفهوم الإشراك الفعّال من محتواه الحقيقي.
غير أنه ينبغي ذكر أن هناك بعض التجارب الناجحة في قليل من الدول النامية عكست وعيًا بأهمية إدماج النساء إدماجًا حقيقيًا لا شكليًا. فمثلاً: قامت دولة رواندا بعد الإبادة الجماعية، بوضع سياسات واضحة لدعم المرأة، واليوم تُعد تلك الدولة من أعلى الدول من حيث نسبة تمثيل النساء في البرلمان (تفوق 60%)، ونجحت في ربط المساواة بين الجنسين بخطط إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية. كذلك في تونس، شهدت السنوات الأخيرة خطوات تشريعية متقدمة نحو ضمان مشاركة النساء في الحياة العامة، والتمثيل المتوازن في الانتخابات، مما أسهم في حضور سياسي واقتصادي أنشط للنساء. كذلك في بنغلاديش، أدت النساء – رغم التحديات الاقتصادية – أدوارًا قيادية في مجال الصناعات الصغيرة والمتوسطة، كما تولت المرأة منصب رئاسة الحكومة لعدة دورات، مما أفضى لتغيير الصورة النمطية عن دورها في الشأن العام. وتُظهر هذه النماذج وغيرها أن تجاوز النظرة التقليدية للمرأة كطرف ضعيف أو تابع، واستبدالها بسياسات قائمة على الإشراك المؤسسي العادل، لا يعزز المساواة بين الجنسين فحسب، بل يُسهم بشكل مباشر في استقرار المجتمعات ورفع كفاءتها التنموية.
لقد أدت النساء تاريخيا أدوارًا حيوية في الاقتصاد منذ العصور القديمة، إلا أن مساهمتهن لم تُوثق بشكل كافٍ نظرًا لهيمنة أنماط اجتماعية تقليدية على كتابة التاريخ وتحديد مفهوم “العمل المنتج'”. فعلى سبيل المثال، تشارك النساء في المجتمعات الزراعية التقليدية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بنسبة تصل إلى 60% من الأنشطة الزراعية، مثل الزراعة اليدوية وجني المحاصيل ورعاية الحيوانات، دون أن تُعترف بهذه الأدوار بحسبانها مساهمة مباشرة في الاقتصاد الوطني. ومع منتصف القرن العشرين، وبالتحديد بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت نسب مشاركة النساء في سوق العمل تشهد ارتفاعاً ملحوظًا، مدفوعًا بحاجة الدول في البلدان المتأثرة إلى أيدٍ عاملة بعد خسائر الحرب. وشكلت النساء في السودان، منذ عقود، ركيزة أساسية في الاقتصاد غير الرسمي، لا سيما في الأسواق الشعبية ومجالات الصناعات اليدوية. كما أدّت المرأة الريفية دورًا محوريًا في الإنتاج الزراعي والغذائي، غير أنها لم تنل ما تستحقه من اعتراف مؤسسي أو دعم اقتصادي فعّال. لقد أسهم تطور التعليم في السودان في تمكين النساء من الاندماج بشكل أوسع في القطاعات الحديثة، مثل التكنولوجيا والخدمات والقطاع المالي. وقد برزت العديد من النساء في قيادة مشاريع رقمية مبتكرة، وتأسيس شركات ناشئة في مجالات متنوعة، مما يعكس تنوع مشاركتهن في القطاعين العام والخاص، وتفوقهن في تخصصات متعددة. ولقد أتاح هذا التحول آفاقًا جديدة للنساء للمشاركة الاقتصادية تتجاوز الأدوار التقليدية، وعزز من حضورهن في المشهد الاقتصادي المعاصر. كذلك ومنذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023م (التي تعرضت فيها العديد من النساء – بشكل خاص- للاستغلال ومختلف أنواع الاعتداءات) تبلورت أدوار النساء السودانيات بوصفهن فاعلات رئيسيات في التصدي للتحديات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الحرب. فقد اضطلعن بأعباء إضافية نتيجة للنزوح القسري وتفكك البنية الأسرية، مما استدعى انخراطهن المتزايد في الأنشطة الاقتصادية غير النظامية، لضمان كسب العيش الكريم وتأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة لأسرهن. وفي هذا السياق، ساهمت النساء بفعالية في تقديم العون الإنساني والدعم النفسي للمجتمعات النازحة. وقد عكست استمرارية هذه المبادرات قدرة النساء على التكيّف والإبداع في ظل أوضاع بالغة الصعوبة والتعقيد، مما يؤكد على دورهن الحيوي في تعزيز الصمود المجتمعي خلال الأزمات. ومع ذلك، فإن هذا التمثيل الملحوظ في المجال الاقتصادي لا يقابله حضور موازٍ في الشأن السياسي؛ إذ لا تزال مشاركة النساء في مواقع صنع القرار محدودة، بل تكاد تكون منعدمة في بعض السياقات، الأمر الذي يسلّط الضوء على اختلال التوازن بين التمكين الاقتصادي والتمثيل السياسي، ويستدعي مراجعة جادة لآليات إدماج النساء في الحياة العامة بصورة شاملة وعادلة.
وعلى الرغم من التقدم الملحوظ الذي تحقق في مجالات التعليم، وصدور تشريعات تدعم مبدأ المساواة بين الجنسين، لا تزال مشاركة النساء في معظم الدول النامية في الحياة الاقتصادية والسياسية دون المستوى المنشود. ويُعزى استمرار هذا التفاوت إلى تداخل عوامل هيكلية ومجتمعية؛ فجزء منه يرتبط بضعف البنى المؤسسية وغياب السياسات الداعمة للإنصاف في الفرص، بينما ارتبط الجزء الآخر بتأثير الأعراف الاجتماعية والثقافية التي كانت تُقيّد وصول النساء إلى مواقع صنع القرار، وهو ما بدأ يشهد تراجعًا تدريجيًا في بعض الدول نتيجة التحولات المجتمعية والإصلاحات القانونية. فمن الناحية الاقتصادية، تسهم النساء بشكل كبير في القطاعات غير الرسمية، لا سيما في الزراعة، والتجارة المتناهية الصغر، والخدمات المجتمعية. ومع ذلك، فإن هذه الأنشطة غالبًا ما تبقى خارج نطاق الإحصاءات الرسمية، ولا تحظى بالحماية أو الدعم المؤسسي الكافي. ففي إفريقيا، على سبيل المثال، تُشكّل النساء نحو 70% من القوى العاملة في الزراعة، إلا أن نسبة امتلاكهن للأراضي والموارد الإنتاجية لا تزال ضئيلة، ما يُضعف فرصهن في توسيع نطاق الإنتاج والاستفادة من فرص التمويل والتنمية المستدامة. أما على الصعيد السياسي، فلا يزال تمثيل النساء في مواقع صنع القرار محدودًا في معظم الدول النامية، سواء على مستوى السلطة التنفيذية أو الهيئات التشريعية. وقد لجأت بعض الدول إلى اعتماد نظم التمييز الإيجابي (المخل أحيانا) مثل تخصيص نسب محددة من المقاعد للنساء داخل البرلمانات والمجالس المحلية، في محاولة لتعزيز حضورهن. ورغم أهمية هذه الإجراءات كخطوة مرحلية، فإنها كثيرًا ما تبقى شكلية، إذا لم تُصاحبها سياسات تضمن مشاركة جوهرية ومؤثرة في صياغة السياسات العامة وصناعة القرار. وتبقى المعضلة قائمة بين الوفرة العددية وجدوى التأثير، حيث يتعين الانتقال من التمثيل الرمزي إلى التمكين الفعلي.
إن هذا الواقع يفرض ضرورة إعادة النظر في النهج التنموي في الدول النامية، الذي كثيرًا ما يضع قضايا النساء في الهامش أو يتعامل معها بوصفها قضايا ثانوية. لذا ينبغي أن تُدمج قضايا النساء ضمن الاستراتيجيات الأساسية للتنمية الوطنية، ليس فقط من منطلق العدالة والإنصاف، بل كذلك باعتبار أن تمكين النساء رافعة أساسية لتعزيز الكفاءة الاقتصادية، وتوسيع قاعدة الإنتاج، والاستثمار في رأس المال البشري. فبناء مؤسسات مرنة وشاملة يتطلب تجاوز العقبات التي تعيق المشاركة المتكافئة، وتعزيز بيئة تضمن استفادة كل أفراد المجتمع (من الجنسين) من الفرص المتاحة.
إن هذا النهج لا يسهم في تحقيق تنمية مستدامة فحسب، بل يرسّخ أيضًا استقرارًا طويل الأمد يستفيد منه كل أفراد الأجيال القادمة.

nazikelhashmi@hotmail.com

شاهد أيضاً

عبقري الزمان

الشيخ بابكر بدرى اول مؤسس للتعليم الأهلى للبنات بالسودان من المرحله الاوليه الى الجامعيه لله …