السّودان .. هَلْ يَغفو والزلازلُ حَوْله ؟
أقرب إلى القلب:
jamalim@yahoo.com
( 1 )
في السنوات التي شهدتْ التمهيد لخروج المستعمر من السودان، كانت السياسة المتبعه هي إحلال السودانيين محل البريطانيين، فيما عرف بسياسة "السودنة". ولأنّ السودان كان يقع في دائرة وزارة الخارجية، لا وزارة المستعمرات، فقد درجت بريطانيا على الإستفادة من خبرات معظم الإداريين الذين تعاقبوا على إدارة شئون السودان، للعمل في ما تبقى لها من مستعمرات. روبرتسون بعد السودان، ذهب حاكماً عاماً في نيجيريا. السير دونالد هولي، وقد عرفته القضارف قاضياً كبيراً، ثم بعد أن استقلّ السودان عاد إلى بلاده والتحق بوزارة الخارجية فيها. ذهب ممثلاً لبريطانيا في الإمارات المتصالحة، والتي صارت لاحقاً( 1971 ) دولة الإمارات المتحدة. وذهب هولي بعدها متصرفاً إلى سلطنة عمان. لا أجد أمامي قوائم بإسماء الإداريين الذين عملوا في السودان وأوفدتهم بلادهم من بعد، إلى إدارة مستعمراتها الأخرى، لكنهم كُثر. أردت أن أبيّن لك عزيزي القاريء، أن الخارجية البريطانية، وقد بعثت بأفضل وأذكى عناصرها من خريجي جامعاتها العريقة، كيمبريدج وأوكسفورد، للعمل في إدارة السودان طيلة الستين عاما التي جثم فيها الاستعمار في السودان، عمدتْ إلى الإفادة من خبراتهم وتجاربهم، بعد طيّ صفحة الاستعمار، ولم تعاملهم كفائض عمالة، واستوفدتهم للعمل خارج بريطانيا. ما زال للمملكة المتحدة، مستعمراتها في جنوب آسيا وفي القارة الأفريقية، والتي بقيت تحكمها لسنوات، بعد أن استقل السودان عام 1956. بدا السودان وكأنه معهدٌ يتدرّب فيه إداريوها، ويتخرّجون منهُ للعمل في المناطق الإستعمارية الأخرى، التي تبقت لبريطانيا، وبينها على سبيل المثال، كينيا ونيجيريا وسلطنة عمان والإمارات المتصالحة (الإمارت العربية المتحدة لاحقاً بعد 1971)، بما فيها اليمن . بلغة اليوم : كان السودان أشبه بمعهدٍ لتدريب الإدارة الإستعمارية !
( 2 )
بعد طفرة الثورة النفطية في العقود الوسيطة من القرن الماضي ، بدأ تبدّل الحال في بلدان الخليج، من مجتمعٍ بدوي بسيط إلى مجتمع رفاهٍ، موّلته عائدات النفط الغزيرة. ما كان السودان ذلك البلد الفقير، فقد كانت له ثروة معتبرة في سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، خاصة بعد الحرب الكورية، التي من آثارها أن استفاد السودان من الفجوات الاقتصادية التي نجمت عن تلك الحرب، فكسب من صادرات قطنه طويل التيلة، ما دعم خزانته بالعملة الصعبة، التي كانت شحيحة ذلك الزمان.
وأضرب لك مثلاً، لا بقصد الامتنان، بل لإبانة مكانة السودان أوانذاك. لقد أهدَى الإمام الراحل عبدالرحمن المهدي سيارة للعاهل السعودي الملك عبدالعزيز آل سعود، والظنّ أنها السيارة الأولى التي استعملها الملك. ليس ذلك فحسب، بل إن الأمراء الكبار من آل سعود، يحفظون للسودان ولأعيانه، في التاريخ القريب، طيب مساعداتهم للسعودية وقت أن كان الماء شحيحاً، ينتظره أهل جدّة ذلك الزمان، من حجّاج قادمين من موانيء السودان. لا ينسى آل سعود أفضال السودان، فتجد للسودان والسودانيين، مكانة عزيزة عندهم، حتى في سنوات الشدّة في أيام فيضانات 1988 التي اجتاحت الخرطوم، أو في أوقات التأزّم المفتعل، حينَ ألهب ظهورهم من ألهبها، بألسنة إعلامية حِداد، إذ روابط الدّم بين البلدين لا تحيلها الأزمات، مهما استفحلها مأجورٌ متفلّتٌ أخرق، إلى ماءٍ يسيل على الرّمال. وأقول لك إنها روابط الدّم وستبقى قويّة متأصِّلة، وأنا أعلم مثلاً، ما لآل الحجيلان في السعودية من روابط بأهلنا في النهود. أما لصديقي الكابتن السفير علي قاقارين ، فإني أحدّثه كيف كنتُ - وقت أن عملت قنصلا في سفارة السودان في العاصمة الرياض في أواخر الثمانينات- أجدّد صلاحية جواز عمنا المرحوم عبدالله، والد اللاعب المشهور ماجد عبدالله. . ولعل الخواطر تستكثر انهمالها على الذاكرة مع ما يحفّزها لذلك، فتفعل فعلها، كما المهماز على خاصرة الجواد. أما تغنّى المغني "زنقار" برائعة اللبناني الياس فرحات في الثلاثينيات، "يا عروس الرّوض.."، قبل أن يشدو بها في جدّة "حسن جاوا" ومن بعد "محمد عبده " و"عبادي الجوهر". .؟
( 3 )
ولننظر في شائعة كسلِ السودانيين المغتربين في بلدان الخليج، فالظنّ أنها تقوى بسبب التنافس في تلك البلدان، بين مغتربي السودان وبقية المغتربين من أقطار عربية أخرى، ومن الشّام خاصّة، فيما أسمع. فقد بلغت السماجة بأحدهم أن ادّعى أن حاجّاً سودانياً وقف مُتسمّراً جوار الكعبة المشرّفة، منتظراً- من كسلهِ- أن تدور الكعبة حوله وهو واقف، لا أن يطوف هو حولها ! وتكثر الدّعابات ولكنها تخرج في أحيان كثيرة عن اللياقة، وتمسّ سلباً الشخصية السودانية، وتسمها بما ليس منها، وإنّا إلى ذلك لا ندّعي الكمال، وليس السودان قبيلاً من الملائكة المنزّهين. .
يعرف جيل البناة من الخليجيين ، كيفَ كان بذلُ السودانيين في إعمار بلدانهم في مجالات الهندسة والطب والقضاء والإعلام والتعليم والصحافة وغيرها من المجالات، شراكة تقوم على الإخاء والمحبة الصادقة، لا على التذاكي والانتهاب، مثلما يفعل آخرون. ولكون الشخصية السودانية لم تجبل على التكبّر أو الاستعلاء، بل هي على التواضع في أكثرها، فإنّ تواتر الشائعات المضرّة، يترك أثره على الكرامة، بما يستوجب مواجهة ومُكاشفة لازمة .
( 4 )
وصلتُ بك عزيزي القاريء، إلى خواتيم مقالي ولك أن تسأل ، ما الذي قاد قلمي إلى كل هذا الحديث الطويل . لكَ ألف حقٌ إنْ سألت مستعجبا.
أقول لك إنّي وقفت على صورةٍ رقمية، ربما التقطها هاتفٌ جوّالٍ متلصّص، لحجاج يفترشون أرض صالة المطار في انتظار طائرات طال انتظارها، لتقلّهم إلى جدّة. استلقى أكثرهم وأغفى من تعب الانتظار في ساعات الفجر. من التقط لهم الصورة وهم نيام، كتب عليها : أنظروا هذا هو "الربيع السوداني"! وكان الأحرى أن ينقل الصورة لسلطات المطار المعني، منتقداً ويقول لها : "حرام عليكم تعذيب المسافرين!"، لكنها السماجة لا تصدر إلا عن غباء .
الذي أغاظني وسيغيظك معي، أنّ من بثّ الصورة، تصوّر أن السودانيّ مِن كسلهِ، ما زال عليه الإنتظار طويلا ليفعل ما فعله إخوته في مصر وتونس وليبيا وسوريا واليمن. ولعلّ من الحماقة التعامل مع مثل هذه العقلية السمجة، فمن يروّج لهذا السخف لا يدرك أن الرّبيع السوداني، كان في أوّل عهده في أكتوبر من عام 1964، حين اشتعل الشارع السوداني، وأسقط حكماً عسكرياً شمولياً طاغيا، وقد كانت ثورة سودانية حققتْ بذكاءٍ، وبأقل تكلفةٍ مادية وبشرية، وبأيدٍ سودانية لا بقوات من وراء البحار، تحوّلاً كبيراً في البلاد، وحقق نقلة تاريخية غير مسبوقة في منطقة تتمايل من ثقل انقلاباتها العسكرية، ذات اليسار وذات اليمين. إبّان تلك السنوات، فإنّ الناظر إلى البلدان العربية، سيرى بعضها وقد رزح تحت نظم شمولية، تتردّد بين سلطوية جامحة أوقومية أواشتراكية مزيفة، وأخرى تئنّ تحت تيجان الملوك والسلاطين. كنا في السودان، وبعد أكتوبر 1964، في ربيع حقيقي، فيما كانت بقية البلدان العربية في ليلٍ بهيم.
كتبتُ في مقالٍ سابق، نشرته في "الأحداث" بتاريخ 17 يونيو 2011 ، وفي صحيفة "السفير" اللبنانية بتاريخ 18 يونيو 2011 ، وفي بابي هذا، بعنوان: "الفَريْق عَبّود : دُروْسٌ في التنَحّي . ." ما يلي :
( بعيداً عن تقييم فترة حكمه ( أعني الفريق عبود )، وما شابها من حرب شعواء ضد المواطنين في جنوب السودان، وقمع عنيف للمعارضة، وصل أقصى درجاته في مواجهة طلاب جامعة الخرطوم، ثم الشارع العريض كله بعد ذلك، كما لم تخلُ فترة حكمه كذلك من بعض حماقات جرت في أكثر الأحوال دون علمه، فقد أرسى الفريق عبّود مثلا نبيلاً لتنحٍ، حفظ للشعب كرامته وللجيش هيبته. كان "هندرسون" في كتابه المشار إليه، يرى في نزاهةِ وسموِّ خلق الفريق عبّود ، شبهاً بالجنرال محمد نجيب في مصر، مع ملاحظة قصر فترة نجيب في الحكم، وطولها نسبياً في حالة الفريق عبّود.
أنظر حولك عزيزي القاريء ، فترى كيفَ تعامل زعماءٌ وقادةٌ في الشّرق الأوسط وفي الشّمال الأفريقي، مع شعوبهم ومع قواتهم المسلحة. ما كان الفريق ابراهيم عبود، رأس السلطة في السودان، من نوفمبر 1958 وحتى 1964، حريصاً على كرسي سلطة، ولا على ثروات يستجمعها له أو لأسرته أو للموالين له، بل كانت عينهُ على استقرار البلد، وعلى سلامة المؤسسة العسكرية وهيبتها، وهو القائد الأعلى للجيش. فوق ذلك، كان مستعداً لمن يريد أن يحاسبه أن يفعل .
بعد أشهر قليلة، كان الرجل يتجوّل مواطناً عادياً، يُمارس مجاملاته الاجتماعية ويزور الأسواق ، مثل عامة الناس، ولم يفقد احترام شعبه له حتى لحظة رحيله.
ترى مَن وعَى هذا الدّرس الذي قدمهُ السودان لرؤساءٍ كانوا طغاة وفراعنة وقياصرة من حولنا، فرّوا من قصورهم إلى بلدان أجنبية، أو لاذوا بأجحارهم جرذاناً مطاردة ، أو تشبّثوا بكراسيّهم يقاتلون شعوبهم، قتال المؤمنين للكفرة. . ؟
رحم الله الفريق عبود ، فلهُ مكانة مقدرة في ذاكرة السودان. . )
( 5 )
أقرأُ باعجاب مُتعاظم تلك السيرة الذكيّة التي كتبها الدكتور عبد الله علي ابراهيم لثورة 21 أكتوبر عام 1964، بحسبانها "الربيع السياسي" في نسخته السودانية الحقيقية. لو يتذكر من كتبوا وصوروا بهواتفهم الجوالة، نوم المسافرين السودانيين في المطارات، كيف كان ربيع السودان ربيعاً حقيقياً، وكيف تهيّأ للسودان بنسائم ربيعه السمحة تلك، أن يستضيف قمّة عربية بعد الهزيمة الكبرى في يونيو 1967، عجزتْ كل العواصم العربية الأخرى عن استضافتها. في ربيعنا السوداني، كان إخوتنا في البلدان العربية- الشمولية منها والملوكية- مستغرقون في مواسم خوف وظلام واستلابٍ وانكسار. من ترى، سخر منهم ومن استهزأ. .؟
وليس لي أنْ أشمت، وأنا أكاد أرى، وبعينَي زرقاء اليمامة، أن ثورة الإتصالات الرقمية، وقد تضاعفتْ سرعةُ تأثيراتها على مصائر الشعوب والحكومات، لن تستهدف بلداً وتعفي آخر. لا يجدي الاستخفاف بها، ولا الاستهانة بما تحمل من عناصر تحولٍ وتغييرٍ وانعطاف. ستقضم هذه الثورة الكثير من قبضة الحكومات، شمولياتها وملكياتها، فتحيل قوة التحوّل حتماً لازماً إلى أيدي الشعوب، بعد أن استطالت سنوات الإستلاب، واستشرى سلطان المفسدة، وآن لها أن تلج إلى ساحات الإفاقة والوعي.
أيّها السّاخرون هنا أوهناك، هو الزلزال - على قول حكيم السياسة منصور خالد- وسيأخذ الناس كما تأخذهم صيحةُ يومِ الدِّين. أجل، هو "حزام الزلازل العربي"، وليس "ربيعاً عربياً"، كما جرى توصيف التحوّلات بهذه العبارة على ألسنة الصحافة والإعلام، بحسن نية . أمّا نحن في السودان فسنعرف – من خبراتنا المتراكمة في الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي- كيف نصنع الزلازل، وكيف نصنع من "فسيخ" ارتجاجاتها شرباتا ، ومن اهتزازاتها مواسم ربيعٍ حقيقية، وبأقل تكلفة وعبر أقصر طريق. . !
الخرطوم- أول نوفمبر 2011