الشاعرية و الشعراء

في هذه الدراسة أرجو أن أعرض بعض الأفكار و الخواطر والملاحظات عن موضوع الشاعرية و الشعراء وكما يلاحظ القاري تأتي الشاعرية أولاً لأنها هي فن كتابة الشعر أو هي القدرة التي تجعل الشعراء شعراء في المقام الأول ولذلك ستكون مناط البحث وموضوع الاهتمام الأول ولكن لا يعني هذا أن الشعراء ليس لهم دور، فدورهم مشهود لا يتطرق اليه الشك فهم الذين يرجع اليهم الفضل في تنمية و تطوير الملكات الشاعرية وابرازها الى حيز الوجود عن طريق التعلم و المران و القراءة و المثابرة.
لقد دفعني لكتابة هذه المقالة سؤال تبادر الى ذهني لماذا يكتب الشعراء أشعاراً مختلفة عن الموضوع الواحد حتى و لو كانت تجاربهم و ظروف حياتهم والخلفيات متماثلة من حيث البيئة الطبيعية و الثقافية والمجتمعية. ولعله من الخير ان تتنوع الأشعار وفي ذلك التنوع نعمة و ليس نقمة. يقول شيخ المعرة ابو العلاء: اجمع غرائب أزهار تمر بها … من مشئم وعراقي إذا جيتا، فغرائب الأزهار مثل غرائب الأشعار مستحسنة.
والملاحظ اختلاف الشعر باختلاف الشعراء اذ يضع كل منهم بصماته الثقافية او الجينية على أعماله الأدبية. هناك عوامل ذاتية وموضوعية تتداخل و تتفاعل فيما بينها. العوامل الذاتية قد تكون لها الغلبة في مضمار الانتاج الشعري و الأدبي. وهناك بوتقة في كيان كل شاعر تتفاعل فيها العوامل الذاتية و الموضوعية و الثقافية يخرج من تلك البوتقة شعر كل شاعر يحمل بصمات هويته الشخصية الفريدة التي لا تتكرر أبداً إذ أن الهويات الشخصية الانسانية لا تتطابق أبداً ولا يوجد في عالم البشر ما يسمى بالإنجليزية – cloning – أي صورة طبق الأصل قد يكون هناك تشابه ولكن لا يوجد مجال لصور طبق الأصل فالبشر مختلفون فيما بينهم وفي هذا الاختلاف حكمة ولن تجد لسنة الله تبديلا. وإذا كان الأمر كذلك فانه يفسر اختلاف التعبير الشعري من شاعر الى آخر إذ أن الاختلاف في هذا الجانب هو سيد الموقف.

كنه أو حقيقة الشاعرية
الشاعرية بلا شك هي قدرة عقلية ولا يختلف إثنان في كونها قدرة أو مهارة تأتي كموهبة أو تُكتسب اكتساباً و تقودنا محاولة فهم أو تعريف الشاعرية الى موضوع وثيق الصلة بها و هو القدرات العقلية الأساسية التي يتميز بها العقل الانساني وأود أن اوجزها فيما يلي:
أولاً تتفاوت القدرات العقلية بين زيد و عمرو ويمكن تصنيف القدرات العقلية على أنها قدرات 1- قدرة أو قوة إداركية (cognitive power) تمكن المرء من الوعي بنفسه و العالم من حوله 2- قدرة لغوية تعبيرية وثيقة الصلة بالحروف كتابةً و نطقاً – 3 قدرات رياضية حسابية وثيقة الصلة بالأرقام 4- قدرات تحليلية – analyticتعنى بفهم الأشياء و تحليلها تحليلاً كمياً أو نوعياً وبيان تداخل العناصر المكونة لها وطبيعة ذلك التداخل 5–قدرات تركيبية synthetic 6– قدرات خيالية، والأدب و الشعر عموماً لهما صلة وثيقة بالخيال الخلاق وكان أساتذتنا في كلية الآداب يقولون أن التصوير الفوتوغرافي للواقع لا ينتج أدباً كما كانت العرب تقول إن أعذب الشعر أكذبه أي أكثره جنوحاً نحو الخيال. وليست هذه القدرات العقلية السالفة الذكر سوى القدرات الأساسية إذ توجد قدرات أخرى ينطوي عليها العقل الانساني وصدق شيخ المعرة حين قال:
يرتجي الناس أن يقوم إمامٌ
ناطقٌ في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا امام سوى ال
عقل مشيراً في صبحه و المساء
ومن بين تلك القدرات الأخرى التي ينطوي عليها العقل الانساني قدرة الشاعرية وهي قدرة ليست مستقلة بداتها إذ أنها جزء من القدرات التعبيرية و اللغوية و لكنها حالة عقلية- mind- set ترفدها قدرات عقلية أخرى مثل القدرات الادراكية و التركيبية و الخيالية. وقد يختص بقدرة الشاعرية الشعراء دون سائر خلق الله.
ولا يمكن لمن يمتلك قدرة الشاعرية و القدرات العقلية الرافدة لها أن يصبح شاعرا بصورة تلقائية.
إذ أن الأمر يستلزم مقتضيات و متطلبات أخرى مثل التعلم و كون الشاعر المعني / الشاعرة المعنية له / لها توجهات و اهتمامات أدبية و شاعرية وأنه / انها يدوام على صقل موهبته وأنه محب للشعر ويقرأه باستمرار ويحفظه لكي تترسخ الأوزان الشعرية في عقله. كما أن الأمر يقتضي أن يكون الشاعر متفاعل مع أحداث و تجارب الحياة ويعيش في خضم تيارها القوي وأنه متأثر بها عاطفياً و فكرياً وأنه ملتزم ومتفاعل مع قضايا الحياة التزاماً حقيقياً وكذلك تجاه القضايا الأدبية و الفكرية وأنه يعيش في قلب الأحداث وليس في هامشها.
خلاصة القول عن الشاعرية هو انها حالة عقلية ترفدها قدرات عقلية أخرى وقد تكون تلك الحالة العقلية المتعلقة بالشاعرية ظاهرة او مخفية. هناك عوامل تساعد على اظهارها أي الشاعرية يمكن تسميتها بالمنشطات أو المحفزات ومن أهمها عناصر الالهام وهناك أيضاً عوامل تؤدي الى اخفائها ويمكن تسميتها بالمثبطات. وإذا كانت الشاعرية قوية و متجذرة في أعماق النفس الانسانية فإنها تظهر بقوة وتعلن عن نفسها، وإن كانت الشاعرية ضعيفة أو متوسطة، أو كانت هناك عوامل مثبطة في البيئة المحيطة تحول دون ظهورها فإنها سوف تبقى كطاقة كامنة في النفس الانسانية تنتظر المدد في شكل الهام أو انفعال ما كي تبين و تفصح عن نفسها بوضوح وقوة.
دعنا نناقش موضوع الإلهام في الشعر ونتتبع تطور مفهومه عبر عصور الفكر والتاريخ:
الالهام الأدبي و الشعري
أعتقد أن الإلهام الشعري و الأدبي هو تلك العوامل المتوفرة والمواتية في البيئة الطبيعية والحياتية و الثقافية التي تحفز الشاعر أو الكاتب لكي يكتب أو يقول الشعر. ينطبق هذا الفهم على سائر ضروب التعبير الأدبي و لا يقتصر على الشعر وحده. بمعنى آخر الإلهام هو الاستجابة من قبل الشاعر لظروف و مستجدات في البيئة الطبيعية او الثقافية المحيطة تكون مواتية للإنتاج الأدبي أو الشعري. كانت العرب تعتقد أن الإلهام الشعري يأتي من قبل الشيطان ويمثل هذا فهماً اسطورياً لمسألة الإلهام الشعري و الأدبي كان سائداً في عصور السحر و الخرافة. يقول الراجز العربي:
“من كان شيطانه أنثى فشيطاني ذكر”. وفي نفس المعني يقول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدة لتكريم الأستاذ أمين الريحاني اللبناني عندما جاء إلى مصر من المهجر في أمريكا، وأقام له الأدباء حفلًا على سفح الأهرام،:
قضَّيتَ أيامَ الشباب بعالَمٍ
لبِسَ السنينَ قشيبةَ الأَبْرادِ
ولَدَ البدائِعَ والرَّوائِعَ كلَّها
وعدَتْهُ أنْ يلِدَ البيانَ عُوادِ
لم يخترِعْ شيطانَ حسَّانٍ ولَمْ
تُخرِج مصانِعُه لسانَ زيادِ
الله كرَّمَ بالبيانِ عصابةً
في العالمين عزيزةَ الميلادِ
ومع روعة قصيدة أمير الشعراء أعلاه الا أني أخالفه الرأي بأن المجتمع الأمريكي أو المجتمعات الغربية الأوروبية عموماً “عدته أن يلد البيان عوادي” علماً بأن ذلك المجتمع ( الأمريكي) أنجب أفذاذ الأدباء و الشعراء و الشاعرات و المفكرين والفلاسفة وليس صحيحاً أن الصناعة منعته أن ينجب أئمة الفكر و البيان و لا داعي لكي أذكر أسماء بعينها لأنها معروفة و يعرفها القاصي و الداني. لكن يهمني في أبيات شوقي أنه ذكر شيطان حسان والذي كانت العرب تعتبره مصدراً للإلهام الشعري. لكن ما هي مصادر الالهام
الحقيقية وليس الأسطورية الخيالية مثل شيطان حسان؟
هناك مصادر متعدة للإلهام الشعري توجد في البيئة الطبيعية والثقافية والمجتمعية المحيطة بالشاعر وقد تلعب العوامل الذاتية أو النفسية دوراً في مجال الالهام معنى هذا أن الالهام الأدبي و الشعري يأني من مصادر خارجية و داخلية وهو متعدد الجوانب و يصعب حصره أو تحديده ولا أنسى التجارب الحياتية التي يعيشها الشاعر وتؤثر فيه عاطفيا أو فكرياً وتحرك في نفسه بواعث البوح والافصاح عن تلك التجارب الحياتية
ونذكر على سبيل المثال و ليس الحصر أهم مصادر الالهام كما يلي:
تجارب السفر و الغربة
يقول الإمام العظيم الشافعي والذي كان له باع طويل في الشعر:
تغرب عن الأوطان في طلب العلى
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج همً واكتساب معيشة
وعلمً و أداب وصحبة ماجد
وبالنسبة لتفريج الهم يقول الشاعر العباسي البحتري
“ولربما نجى الفتى من همه وخد القلاص و ليلهن الدامسُ”
وقد يكون السفر هو انعتاق الروح في رحلة الوجود أو قد يهيئ الظروف الملائمة لذلك الانعتاق ومما تقدم نستشف أن السفر له مفعول على النفس الانسانية وله تأثيره عليها وقد يكون السفر أيضاً وخاصة في الأزمان السحيقة تجربة شاقة وربما تعرض للخطر و الأهوال والتجارب الصعبة من يسافرون بالبر أو البحر فتحرك تلك الأحوال الصعبة في نفس المسافر (نوازع التعبير الأدبي) مما يحفزه للتعبير الأدبي فأن كان كاتباً أو قاصاً أو مفكراً كتب في ذلك أو أن يلجأ للتعبير الشعري إن كان شاعراً ويقال أن المعانة و المشقة هي من ضمن القوى الدافعة من وراء الانتاج الأدبي ولذلك وحسب هذا الرأي فإن الشخص أو الأشخاص الذين تتسم حياتهم بالدعة أو بحبوحة العيش قلما ينتجون أدباً.
لاحظ بعض النقاد الاكاديميين أو النقاد الهواة أن بعض الأدباء كتبوا أعظم ما كتبوا و هم في حالة الغربة- diaspora ويقال أيضاً ” و للغربة في الحر فعال النار في التبر” أي أنها تخرج خير ما في الانسان. وقد يكون الانتاج الأدبي أو الشعري من بين عناصر الخير المنشودة.
كان حداة الركب في الزمن الغابر ينشدون الأشعار فتستجيب الأبل لما فيها من الموسيقى الشجية و تطرب لذلك وتقبل على السير بهمة و نشاط و تبدأ الرحلة والتي غالباً ما تكون طويلة و شاقة فيجد العربي نفسه وجهاً لوجه مع اللامحدود و اللامتناهي والآفاق الممتدة بغير نهاية والنجوم المتلألئة في سماء الكون يهتدي بها وسط ظلام الليل الدامس فيحرك ذلك في نفسه نوازع التعبير الأدبي ويحرك في نفسه محفزات الابداع الخلاق فانتج لنا أعظم الأشعار و أروعها في تاريخ البشرية.
ومن الطريف أن نذكر في هذا الصدد أن العقاد انتقد شوقي لأن الأخير وصف الطائرة
فقال ما معناه إذا كان الشاعر العربي القديم وصف الناقة يأتي شوقي في العصر الحديث فيصف الطائرة و تساءل العقاد متهكماً عن علاقة الشعر بوسائل المواصلات. و كاتب هذه الكلمات يعتقد أن هناك علاقة ما لأن وسائل المواصلات هي التي تقرب البعيد وتبعد القريب ولا زالت كلمات الشاعر العظيم الأعشى تتردد إذ يقول: “ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً ايها الرجل”
ولا زالت المسافة من بين التحديات التي تواجه الانسانية ويعتبر قهر المسافة من أعظم أشواق النفس الانسانية وفيه مجال للتعبير الشعري والأدبي.
وفي هذا الصدد لاحظ الدكتور محمد ابراهيم الشوش أستاذ الأدب في جامعة الخرطوم عليه رحمة الله، أن الكاتب المبدع الطيب صالح كتب معظم رواياته ومن بينها رواية ” موسم الهجرة الى الشمال الرواية المشهورة الخالدة وهو متغرب في مدينة لندن. أي أن تجربة الغربة أخرجت لنا خير ما تنطوي عليه شخصية الطيب صالح و هي تلك الروايات الرائعة, وهناك الكثير من الأمثلة الحية المعاشة التي تؤكد بما لا يدع للشك سبيلاً صحة ما ذهب اليه الدكتور إبراهيم الشوش وأنا أضيف الى ذلك أنه لولا تغرب الكاتب العالمي الطيب صالح لما أنتج لنا هذه الروائع الأدبية وهذا ايضاً يذكرنا بحكمة الامام العظيم الشافعي عن فوائد الأسفار,
وتقول الكاتبة البريطانية المشهورة كيه راولينغ مؤلفة كتاب هاري بوتر أن فكرة كتابها ” الوظيفة العرضية” – Casual Job جاءتها و هي مسافرة على متن الطائرة وهذا أيضاً يعزز فكرة أو النظرية المتعلقة بتأثير السفر و الغربة على الأعمال الأدبية.
ويرى كاتب هذه المقالة أن تنويع التجارب الحياتية والتي يتيحها السفر والتغرب قد يكون له مردود إيجابي على الشاعر. السفر ينقل المسافر الى بيئة طبيعية و ثقافية ومجتمعية جديدة وقد تكون أيضاً منطوية على طريقة حياة جديدة مختلفة . السفر و التغرب يرفدان الشاعرية بمدد قوي من التجارب و المشاعر و الرؤى و الأفكار التي قد تجد طريقها الى التعبير الأدبي. والسفر يؤدي فيما يؤدي الى تنويع التجارب الحياتية مما يفتح الباب واسعاً أمام التوجهات و الأعمال الأدبية شعراً ونثراً وما الشعر وما الأدب الا صدى للتجارب الحياتية التي يعيشها الأديب أو الشاعر. ومن شأن تنويع التجارب الحياتية أنه يوسع المدارك و ينمي العقول و يشحذ الملكات ومنها الملكات الشعرية و يثري الوجدان و يعزز الوعي.
ولا بد للأديب المرهف الواعي بحقائق الوجود و طبائع الأشياء أن يفهم تلك المتغيرات التي تأتي في أعقاب التجارب الحياتية الجديدة ويتفاعل ويتجاوب معها بعقله و قلبه ويعبر عنها نثراً أو شعراً. يشكل هذا جزءاً من رسالة الأديب أو الشاعر إذ عليه أن يبصر الناس بما تنطوي عليه تلك التجاريب و يسترعي الانتباه الى أنماط من الشخصيات و والسلوكيات قد يقصر عن استيعابها الخيال. وقد يكون من أهداف الأدب أن يسترعي الانتباه لظواهر تتعلق بالنفس الانسانية و المجتمع الانساني فيزداد فهم الناس و يتسع خيالهم لاستيعاب تلك الأطوار والأنماط الجديدة والعلم بان تلك النماذج و الأنماط والسلوكيات كما تعكسها الأعمال الشعرية و الأدبية و التي يحاول الأديب تصويرها توجد بحق و حقيقة في عالمنا الماثل. ويعتقد كاتب هذه الكلمات أن رسالة الأدب في الحياة أنه يحاول ان يزيد الوعي بظواهر تتعلق بالنفس الانسانية أو المجتمع الانساني أو يلفت نظر القارئ اليها فيستوعبها مما ينتج عنه زيادة الوعي الانساني وتوسعة الخيال وجعله يدرك بتواجد نماذج جديدة من السلوكيات و الشخصيات و الأنماط، و أن هذه الشخصيات و النماذج توجد بيننا و في عالمنا الحقيقي.
و يعني مفهوم تجربة الغربة الوارد في هذه الدراسة ومن منظور فكرتها وموضوعها تلك البيئة الطبيعية و المجتمعية و الثقافية المستجدة او المتغيرة التي ينغمس فيها الشاعر أو يصطلي بنار أتونها و تجربة الغربة او الهجرة ونصها في اللغة الانجليزية هو ة-diaspora تنطوي على تنويع التجارب الحياتية بعد الانتقال الى بيئة جديدة وتنويع التجارب الحياتية كما سنوضح لاحقاً أمر عظيم القدر بالنسبة لشاعرية الشعراء و يرفدها ببعد جديد ومدد قوي يعيد صياغتها و تشكيلها لتعكس المتغيرات المترتبة على تجربة الغربة ( التي تنطوي على تنويع البيئة الطبيعية و المجتمعية و الثقافية)
وفي هذا الصدد نتذكر قصة الشاعر العباسي علي الجهم الذي مدح الخليفة العباسي المتوكل واصفاً اياه بالكلب و بالتيس و الدلو – أنت كالكلب في حفاظك للود – وكالتيس أي الأسد في قراع الخطوب وكالدلو لا عدمناك دلواُ من كبار الدلاء – فانزعج الحاضرون في مجلس الخليفة وهم به بعضهم و لكن الخليفة طمأنهم بأن ذلك من أثر البداوة على الشعر وصدق حدس الخليفة لأن الشاعر علي الجهم حينما إستقر به المقام في الحضر صاغ القصيدة التي يقول فيها: عيون المها بين الرصافة و الجسر جلبن الهوى من حيث أدري و لا أدري. وهذا مثال يساق للتدليل على غلبة عوامل البيئة المحيطة الطبيعية و الثقافية و المجتمعية على الشاعرية ولكن يجب ألا نغفل دور العوامل الداخلية الذاتية و التي تتفاعل مع هذه العناصر الخارجية ويتم التفاعل الكيمائي بين العناصر الذاتية والقدرات العقلية و الهوية الشخصية للشاعر و داخل بوتقة الشاعر ومن ثم ينتج الشعر وهذه عملية خلق او ولادة شديدة التعقيد وليست بالأمر الهين. وعليه وبعد أن استقر علي الجهم في الحضر وتعرض لآثار تغيير البيئة الطبيعية و الثقافية و المجتمعية وتنويع التجارب الحياتية فيما يسميه الناس الغربة أو التغرب وانصهرت تلك العوامل في بوتقة نفسه مع العوامل الذاتية المتمثلة في عناصر هويته الشخصية الفريدة التي لا تتكرر انتج لنا تلك القصيدة العصماء التي مطلعها: عيون المها بين الرصافة و الجسر.

ويهمني أن أورد أمثلة حية عن تأثير الغربة القوي على بعض أعمال الأقدمين و المحدثين الأدبية و الشعرية وتحضرني في هذا المقام و فيما يتعلق بالأقدمين قصة قصيدة “قمر بغداد” على ما فيها من النهاية المأساوية لشاعرها إبن زريق وهو الأديب الشاعر المشهور أبو الحسن علي بن زُرَيْق الكاتب البغدادي المتوفى سنة 420هـ وتتلخص قصته في إنه قرر أن يهاجر الى الأندلس في طلب الرزق و لكن يوم الرحيل اجهشت زوجته بالبكاء و تشبثت به وتعلقت بثيابه وتوسلت اليه تطلب منه ألا يفارقها إذ أنها لم تطق الفراق وسافر ابن زريق للأندلس حيث توفاه الله و لم يعد الى وطنه و حينما افتقده أصدقاؤه في الأندلس وذهبوا يبحثون عنه وجدوه ميتاً في غرفته و متوسداً رقعة بها القصيدة المشورة بقمر بغداد

أستودع الله في بغداد لي قمرا ** بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي أن يودعني ** صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه ** وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ** وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق ** عني بفرقته لكن أرقعه
بالله يا منزل القصر الذي درست ** آثاره وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا ** أم الليالي التي أمضت ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله ** وجاد غيث على مغناك يمرعه
عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا ** جسمي تجمعني يوما وتجمعه
وإن ينل أحد منا منيته ** فما الذي في قضاء الله يصنعه
وفيما يتعلق بالمحدثين وخاصة في القرن العشرين الذي شهد نهضة قوية في الشعر العربي وبزغ فيه نجم أمير الشعراء المتوج أحمد علي شوقي باشا وكذلك بزغ فيه نجم أمير الشعراء غير المتوج محمود سامي البارودي وغيرهم من شعراء مصر و السودان و العراق وفلسطين وتونس أمثال محمد سعيد العباسي و التجاني يوسف بشير وكمال عبد الحليم و ابو القاسم الشابي ومحمد مهدي الجواهري والبياتي و السياب وايليا ابو ماضي و ميخائيل نعيمة و فدوى طوقان والقائمة تطول وهذا على سبيل المثال و ليس الحصر. من المؤكد أن الشعر العربي قد نهض نهضة عظيمة في القرن العشرين بحيث أصبحت نهضته تلك تضاهي نهضته في عصوره الذهبية مثل العصر الجاهلي و العباسي والأندلسي.
نواصل مناقشة موضوع أعمال أدبية أو أشعار كتبت في الغربة
نذكر في هذا الصدد المتعلق بتأثيرات الغربة على الانتاج الشعري الشاعر المصري علي محمود طه المهندس وقصيدته ” الجندول” التي نظمها حين زار مدينة البندقية الايطالية وتعتبر قصيدة الجندول التي تغنى بها المطرب المصري المشهور محمد عبد الوهاب من أعظم القصائد العربية التي كتبت في القرن العشرين.
أبيات من قصيدة الجندول:
أين من عيني هاتيك المجالي
يا عروس البحر يا حلم الخيال
أين عشاقك سمار الليالي
أين من واديك يا مهد الجمال
موكب الغيد و عيد الكرنفال
وسرى الجندول في عرض القنال
ونورد في هذا المجال أيضاَ قصيدة الشاعر اللبناني ميخائيل نعيمة عن النهر المتجمد الذي شاهده و هو مقيم في روسيا. فكتب قصيدة النهر المتجمد و تعتبر أيضاَ من أعظم قصائد القرن العشرين. وهذه القصيدة تثير اهتمامي لكونها من القصائد العظيمة التي كتبت في الغربة
مقتطفات من قصيدة النهر المتجمد
يا نهرُ، هل نضبتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخريرْ؟
أم قد هَرِمْتَ وخار عزمُكَ فانثنيتَ عن المسير؟
بالأمسِ كنتَ مرنّماً بين الحدائقِ والزهورْ
تتلو على الدنيا وما فيها أحاديثَ الدهور
بالأمس كنتَ تسير لا تخشى الموانعَ في الطريقْ
واليومَ قد هبطتْ عليك سكينةُ اللحدِ العميق
بالأمس كنتَ إذا أتيتُكَ باكياً سلَّيْتَني
واليومَ صرتَ إذا أتيتُكَ ضاحكاً أبكيتني
بالأمسِ كنتَ إذا سمعتَ تنهُّدِي وتوجُّعِي
تبكي ، وها أبكي أنا وحدي، ولا تبكي معي !
ما هذه الأكفانُ؟ أم هذي قيودٌ من جليدْ
قد كبَّلَتْكَ وذَلَّلَتْكَ بها يدُ البرْدِ الشديد؟
ها حولكَ الصفصافُ لا ورقٌ عليه ولا جمالْ
يجثو كئيباً كلما مرَّتْ بهِ ريحُ الشمال
والحَوْرُ يندُبُ فوق رأسِكَ ناثراً أغصانَهُ
لا يسرح الحسُّونُ فيهِ مردِّداً ألحانَهُ
تأتيه أسرابٌ من الغربانِ تنعَقُ في الفضا
فكأنها ترثي شباباً من حياتِكَ قد مضى
وكأنها بنعيبها عندَ الصباحِ وفي المساءْ
جوقٌ يُشَيِّعُ جسمَكَ الصافي إلى دارِ البقاء


لكن سينصرف الشتا، وتعود أيامُ الربيعْ
فتفكّ جسمكَ من عِقَالٍ مَكَّنَتْهُ يدُ الصقيع
وتكرّ موجتُكَ النقيةُ حُرَّةً نحوَ البِحَارْ
حُبلى بأسرارِ الدجى ، ثَملى بأنوارِ النهار
وتعود تبسمُ إذ يلاطف وجهَكَ الصافي النسيمْ
وتعود تسبحُ في مياهِكَ أنجمُ الليلِ البهيم
والبدرُ يبسطُ من سماه عليكَ ستراً من لُجَيْنْ
والشمسُ تسترُ بالأزاهرِ منكبَيْكَ العارِيَيْن


ولا يمكن أن نختم هذا الموضوع المتعلق بتأثر الغربة دون التطرق لذكر الشاعر محمد أحمد المحجوب رئيس وزراء السودان الأسبق وقصيدته المشهورة الفردوس المفقود في رثاء الأندلس و كان قد ذهب الى إسبانيا لحضور مؤتم برلماني دولي عقد في إسبانيا وبعد انتهاء المؤتمر عرج المحجوب على آثار الأندلس يزورها لأول مرة فجادت قريحته بالأبيات التالية وبذلك أصبح آخر من بكى الأندلس من شعراء الأمة العربية:

مقتطفات من قصيدة الفردوس المفقود
نزلت شطك بعد البين ولهانا
فذقت فيك من التبريح ألوانا
وسرت فيك غريبا ضل سامره
داراً وشوقاٍ وأحباباً واخواناً
فلا اللسان لسان العرب نعرفه
ولا الزمان كما كنا وما كانا
ولا الخمائل تشجينا بلابلها
ولا النسيم سقاه الطل يلقانا
ولا المساجد يسعى في مآذنها
مع العشيات صوت الله ريانا
كم فارس فيك أوفى المجد شرعته
وأورد الخيل ودياناً وشطآنا
وشاد للعرب أمجاداً مؤثلة
دانت لسطوته الدنيا وما دانا
وهلهل الشعر زفزافاً مقاطعه
وفجّر الروض أطيافاً وألحانا
يسعى إلى الله في محرابه ورعاً
وللجمال يمد الروح قربانا
لم يبق منك سوى ذكرى تؤرقنا
وغير دار هوىً أصغت لنجوانا
و استميح القارئ عذراً وأنا أختتم هذا الفصل عن تأثيرات الغربة على بعض أعمال الشعراء أن أورد فيما يلي تجربتي الشخصية في هذا السياق وما تمخضت عنه من أشعار كتبتها وأنا في الغربة بالولايات المتحدة الأمريكية في سبعينيات القرن العشرين علها تفيد القارئ أو تجذب اهتمامه وعليه أرجو من القارئ الكريم الاطلاع على نص قصيدة ” ثلج سيراكيوز” التي ألفها كاتب المقالة في العام 1978 في مدينة سيراكيوز
رب ثلجٍ عانق الأرض وذاب
عمره أقصر من عمر شهاب
نور الأفق بومضٍ ثم غاب
يا تلج سيراكيوز المهاب
لم تكن في البدء مرهوب الجناب
لا و لا كنت نذيراً بعذاب
يوم كللت هامات الصلاب
يوم عانقت الربا يوم جللت الهضاب
كنت قصة قد روتها الريح للسحب المواطر
كنت قبلة في جبين الأرض بثتها العناصر
غامرٌ منها الصدى المدائن و الدساكر
بمثلها حَفل المدى والأفق زاخر
طرب الجميع لوقعها و عمتهم بشائر
لكن يوم ترعرعت وعن الطوق شببت
ولما اشتد ساعداك وأحكمت
قبضتك القوية حينذاك
صرت نقمة صرت جباراً عنيد
قُد منه القلب من صخر الجليد
راح في غمرة شكٍ لا يبيد
في ظلام الليل و البرد الشديد
راح و الآفاق حبالى مثقلاتٍ بمزيد
يوسع الأقوام بطشاً ووعيد
المشاعر والشعر
هناك موضوع قريب جداً من موضوع الالهام هو ذلك الموضوع المتعلق بالمشاعر الانسانية دعني أحاول النظر الى المشاعر الانسانية من زاوية الشعر وما تعنيه المشاعر في ذلك الخصوص إذ يعتقد البعض أن الشعر هو تعبير عن المشاعر الإنسانية وقد تكون المشاعر صامتة تتردد في أغوار النفس وقد تكون ناطقة تبوح بها النفس نثراً و شعراً. فما هي المشاعر الانسانية على وجه التحديد وما علاقتها بالشاعرية و الشعر..
طبعاً الاجابة هي المشاعر المعروفة من حب وكره و حزن و سرور وقلق و و كآبة وغضب وما اليه من أحوال تعتري النفس الانسانية ويعبر عنها الشاعر أو الأديب شعراً ونثراً وهذه الأحوال مستقلة عن الشاعرية ولكنها تعتبر من مستلزمات الأداء الشعري لأنها تنشئ حاجة لذلك الأداء ويسعى الشعراء للتعبير عنها بقوة أو ضعف حسبما أوتي الشاعر من أدوات البيان و القدرات التعبيرية و اللغوية.. لا يوجد في النفس حزن أو فرح و لكن توجد قابلية للحزن و الفرح والغضب والحب و البغض حسبما تمليه حوادث الدهر و تقلبات الزمان أي أن هنالك سبب و ونتيجة – cause and effect- مثلاً الانسان له قابلية للغضب و لكنه يغضب حين يحدث شيء أو حادث ما يدعو للغضب ثم تعبر النفس الشاعرة عن ذلك الغضب شعراً أو بخلاف ذلك
. المشاعر الانسانية هي رد الفعل الانساني السيكولوجي تجاه الحوادث و الظواهر الطبيعية والتطورات التي يمر بها الانسان أثناء رحلة وجوده في الكون. و تشكل معيناً لا ينضب تماماً كما أن الحوادث و التطورات الحياتية لا تنضب. أي أن هنالك سبب ونتيجة – cause and effect- مستمران على مدار الزمن مثلاً الانسان له قابلية للغضب و لكنه يغضب حين يحدث شيء أو حادث ما يدعو للغضب ثم تعبر النفس الشاعرة عن ذلك الغضب شعراً أو بخلاف ذلك
المشاعر. و يمكن أن تعتبر المشاعر من الملهمات التي تحرك في الأديب نوازع التعبير الأدبي وتثير حوافز الانتاج الأدبي في نفس الشاعر وحين تثور المشاعر تكون هناك حاجة للتعبير الأدبي أو الشعري و حين تتزامن معها أيضاً قدرة تعبيرية و لغوية. واذا اجتمعت الحاجة والقدرة على استيفاء تلك الحاجة والاستجابة لمتطلباتها يحدث الانتاج الشعري. ويتم ذلك وفقاً للعملية المعقدة التي تشمل كل مدخلات الانتاج الأدبي أو الشعري من مشاعر وحاجة و قدرة وعوامل ذاتية تنصهر في نطاق بوتقة ذاتية تحمل السمات والخصائص و معالم الهوية الشخصية مع القدرات الذاتية و التجارب الحياتية و الملهمات التي يسعى الأديب أو الشاعر للتعبير عنها
وفي العادة هذه المشاعر لا توجد داخل النفس الانسانية كمواد خام أو حالات مستقلة قائمة بذاتها ولكن الصحيح أنها توجد كقابلية أو ردود أفعال لظواهر في الطبيعة و في الموقف الإنساني. والدليل على ذلك أنه إذا غضب أو فرح شخص ما دون سبب يتشكك الناس في قواه العقلية وعليه توجد لدى الانسان قابلية الفرح و الحزن والغضب إذا نشأت في البيئة الطبيعية أو الانسانية الأسباب التي تثير أو تؤجج تلك المشاعر أو العواطف. وحينما يتعرض الانسان لما يثير المشاعر يعبر عنها بطرق مختلفة منها البكاء و التبسم أو الحزن و الصراخ ولغة الجسد لكن الأدباء و الشعراء قد يعبرون عن أنفسهم نثراً أو شعراً.

يقول الشاعر و المفكر الكبير المصري محمود عباس العقاد في هذا الموضوع المتعلق بالمشاعر وكيفية التعبير عنها شعراً في حالة تعذر استخدام لغة الجسد بفعالية وبيسر و بتلقائية
شعري دموعي وما بالشعر من عوضٍ
عن الدموع نفاها جفن محزون
يا سؤ ما أبقت الدنيا لمغتبطٍ
على المدامع أجفان المساكين
هم أطلقوا الحزن فارتاحت جوانحهم
وما استرحت بحزنٍ فيَ مدفون
ويقول في نفس المعني العلامة الدكتور عبد الله الطيب المجذوب عن شعره
شفاء النفس إن دجت الليالي
وإن ثقلت ممارسة الخصوم
ودمعي حين جف الدمع عجزاً
عن الاسعاد للقلب الكليم
المشاعر الانسانية هي في الوقع تعتبر جزءاً من مصادر الالهام و جزءاً من مستلزمات الأداء الشعري لأنها تحرك أو تحفز نوازع التعبير الأدبي و الشعري في الشخص المعني فان كان شاعرا عبر عن حزنه أو فرحه أو غضبه شعراً ومن هنا نشأ شعر المديح و شعر الرثاء وشعر الهجاء و شعر الغزل ليعبر شعراً عن تلك العواطف و المشاعر الانسانية

الشعر العقائدي أو المذهبي – العاطفة الدينية
أجمع النفاد العرب الأقدمون على جودة شعر شعراء الشيعة و الخوارج و الحق يقال أنه شعر كان في النسق الأعلى من البيان من حيث صدق العاطفة وجزالة الأسلوب و قوة و روعة الأداء الشعري
وفي عصرنا الحديث ينطبق هذا على شعراء الحزب الشيوعي أو الأحزاب الشيوعية العربية وأبرزهم محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي و بدر شاكر السياب من العراق وكمال عبد الحليم من جمهورية مصر العربية مؤلف ديوان ” إصرار” وعلي عبد القيوم مؤلف ديوان “الخيل و الحواجز” من السودان و وكلهم شعراء محسنون إن لم نقل أنهم من أفذاذ الشعراء و قد كانوا كذلك وقد تكون مساهمة الشعراء الشيوعيين في تاريخ الشعر العربي أنهم كتبوا شعرا يختلف من حيث الشكل و الموضوع و المضمون وتتردد في أشعارهم مفردات جديدة و مفاهيم جديدة لم ترد من قبل في أشعار الأقدمين ومن أمثلة ذلك الأبيات التالية لبدر شاكر السياب
رصاصٌ رصاصٌ رصاص
لمن كل هذا الرصاص
لأطفال كورية البائسين
وعمال مرسيليا الكادحين
وعمال بغداد و الآخرين
ويقول كمال عبد الحليم الشاعر المصري الشيوعي مؤلف ديوان ” إصرار” في قصيدة عيد ميلادي:
ما حياتي إنا ضيعتها
دون أن أبني بناءاً للغد
إن أنا عشت و شعبي مرهقٌ
مستغلٌ ثم لم أمدد يدي
لصراع الظالم المستعبد
وصراع المستغل المعتدي
فأنا لست بإنسان له
عيد ميلاد- أنا لم اولد
ويقول الشاعر العراقي بحر العلوم مادحاً لينين
حياتك تاريخ يعلمنا أن
الشدائد بالثورات تنكسرُ
وأن من آمنوا بالشعب انتصروا
وأن من كفروا بالشعب اندحروا
وفيك يا عبقري العصر أمثلةٌ
لمن أراد مثالاً فيه يعتبر

يقول الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري في مدح الدكتور هاشم الوتري عميد كلية الطب في جامعة بغداد آنذاك :
ولانت صنت الدار يوم ابحاها
باغٍ يُنازلُ في الكريهةِ طالبا
الْغَيُّ يُنْجِدُ بالرَصاصُ مُزَمْجِراً
والرّشدَ يَنجِدُ بالحجارةِ حاصبا
وَلأنتَ أثخَنْتَ الفؤادَ من الأسى
للمثُخَنينَ مِن الجراحِ تعاقُبا
أعراسُ مملكةٍ تُزَفُّ لمجدِها
غُررُ الشَّبابِ إلى التُرابِ كواكبا
الحْاضنينَ جِراحَهَمْ وكأنَّهمْ
يتَحَضَّنونَ خرائداً وكواعبا
ومن الملاحظ أيضاً ان الشعراء اليساريين أو الشيوعيين قدموا مساهمتهم الشعرية، و التي يعتبرها كاتب الدراسة جزءاً من تاريخ تطور الشعر العربي، في القرن العشرين مما يعزز الرأي السالف الذكر بأن القرن العشرين شهد نهضة في الشعر العربي تضاهي نهضته في عصوره الذهبية.

مواضيع الشعر التقليدية
هي تلك المواضيع التي ذكرناها آنفاً وقد ذكر المولى عز وجل في محكم تنزيله العزيز أن الشعراء في كل وادٍ يهيمون وهناك من قال ” خبال الشعر يرتاد الثريا” والشعراء أحرار في اختيار ما يلائمهم من ضروب التعبير الأدبي الا ان موضوعاتهم تعكس التجارب الحياتية و المجتمعية و خلفيتهم الثقافية وما يعنيهم و يستأثر باهتمامهم من قضايا الحياة والوجود
وقد يكون في أشعار بعض الشعراء مغذى رئيسي أو موضوع رئيسي هام و يكون شغله الشاغل أن يعبر عن ذلك المغزى الرئيسي والأمثلة كثيرة فأمير الشعراء احمد شوقي سخر شعره او معظمه للتغني بأمجاد الأتراك العثمانيين بينما كرس أمير شعراء السودان محمد سعيد العباس شعره ليعبر عن محبته لمصر والتغني بمآثرها و أمجادها وكذلك كرس الدكتور عبد الله الطيب المجذوب شعره لنهر النيل العظيم. وكان الشاعر المبدع الدكتور محمد عبد الحي يركز على موضوع مملكة سنار كهوية تاريخية مكتسبة بينما كرس الشاعر المبدع دكتور الواثق شعره
لهجاء أمدرمان وذلك لرمزيتها التاريخية و الثقافية ولم يستهدف الواثق مدينة أمدرمان كمدينة كما فعل الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي حين قال:
والعائدون من المدينة
يا لها وحشاً ضرير
صرعاه موتانا و اجساد النساء
والحالمون الطيبون
و لم يستهدفها لأنها تمثل المدينة حسب مفهوم المدينة في الفكر المعاصر أو غيره
بل استهدف الشاعر الواثق مدينة أمدرمان لكونها ترمز لثقافة أو طريقة حياة قد تجاوزها الزمن حسب رأي الشاعر وتقديره الشخصي لذلك فهو يعتقد أنها صارت في طور الإندثار أو أنها إندثرت فعلا ( انظر قصيدة جنازة أمدرمان)
وفي الأقدمين لا ننسى خمريات أبي نواس أو أشعار الزهد لأبي العتاهية او نقائض جرير و الفرزدق كأمثلة على المغزى الرئيسي الذي قد يتبلور أحياناً لدى بعض الشعراء

الظواهر الطبيعية والحياتية متعددة الجوانب- multi- dimensional
والنفس الشاعرة تتفاعل فكرياً و وجدانياً مع جانب من تلك الجوانب أو أنها تتفاعل مع تلك الظواهر من زاوية معينة أي أن هناك انتقائية ، لكن تلك الانتقائية تكشف الكثير عن إهتمامات الشاعر والقضايا الحساسة بالنسبة له و التي تثير اهتمامه وتمس وتراً حساسا في وجدانه و روحه. وتحكم كيفية تفاعله مع تلك القضايا. الزاوية أو المنظور الذي يتخذه الشاعر ربما يلخص لنا الكثير عن هويته الشخصية و تجاربه الحياتية وتربيته العلمية لا سيما في مراحل الطفولة و الشباب حين يتعرف لأول مرة على العالم من حوله و و ثقافته وقناعاته وجميع هذه العناصر تشكل وعيه و نظرته للعالم. وليس ذلك بالشيء القليل أو الأمر اليسير. ولعله من نافلة القول أن تلك العناصر التي تشكل وعي الشاعر وتحدد هويته الشخصية و الثقافية تنعكس بالضرورة على الأداء الشعري للشاعر برمته بما في ذلك القضايا التي تجذب اهتمامه و تلهمه والمواضيع الشعرية التي يتناولها و يعبر عنها وكذلك الزوايا التي تثير اهتمامه في الظواهر الطبيعية و الانسانية والحياتية المتعددة الجوانب.
حتى لو كانت التجارب الحياتية واحدة و الشخص واحد فان الأمر يتوقف على فهم هذه التجارب ومن اي منظور يتم ذلك الفهم و ينبني ذلك الادراك و كيف يتفاعل معها المرء و كيف يدركها و اي زاوية ينظر اليها و يتجاوب معها عاطفيا او ذهنيا واي ذكريات تستدعي تلك التجاريب الحياتية واي مشاعر تثيرها وكيف تدخل في بوتقة الشعور و تخرج لنا شيئاً مختلفا
الشعر والطبيعة وعصر الصناعة و الاصطناعية
نشأ الشعر في حضن الطبيعة ومنها استمد لغته وصوره وكثير من مغازيه ومعانيه وقد شكلت الطبيعة بالنسبة للشعر و الأدب معيناً لا ينضب لذلك كانت ثورة الشعراء الرومانتيكيين عارمة ضد المد الصناعي و المد الحضري الذي واكب الثورة الصناعية في أوروبا و أمريكا وكان من نتائجها او ثمرة من ثمارها أن يوجد في الأدب الأمريكي حب مفقود بين المثقف و المدينة الناتجة عن الثورة الصناعية. ويرى بعض المفكرين الغربيين أن الثورة الصناعية لعبت دوراً سلبيا و كان لها تأثير مدمر على الطبيعة البشرية من حيث الجوانب المادية والروحية والأخلاقية للحياة. و حينما هل عصر الصناعة الحديث الذي نتفيأ ظلاله الوارفة أعتقد البعض بأن الشعر انتهى دوره و دالت دولته و هناك من يتندر بقوله ذلك شاعر في عصر الصناعة. ولكن لي رأي مغاير فلا أعتقد أن هناك من يستطيع اسكات صوت الشعر لأنه متجذر في أعماق النفس الانسانية وفضلاً عن ذلك فإنه أي الشعر وممارسته يشكلان جزءاً من طريقة الحياة الانسانية التي تفسح مجالاً للشعر و الأدب والابداع الأدبي بمختلف ضروبه و أنواعه ولا يمكن تصور نمط من الحياة الانسانية يخلو من الشعر والغناء و الابداع الأدبي. الشعر بالنسبة للناس ضروري ضرورة قصوى فهو يلبي حاجة من حاجات النفس الانسانية و يعبر عن أشوقها و هواجسها و يفصح عن آمالها و آلامها وينتصر لها في مواجهة التحديات الماثلة.
خلاصة القول هو أن الشعر تيار خالد وغالب في حياة البشر ولن تسكته التطورات المتمثلة في الصناعة وتداعياتها الاجتماعية و الاقتصادية ولن يسكته الذكاء الاصطناعي أو الاصطناعية بمختلف مشاريعها و تجلياتها الكبرى، وسوف يتجاوز الشعر كل التحديات و يخرج منتصراً من معركة البقاء.
لله در المفكر الكبير و الشاعر العظيم محمود عباس العقاد حين يقول
الشعر من نفس الرحمن مقتبسٌ
و الشاعر الفذ بين الناس رحمان
ويقول أيضاً في نفس القصيدة
وَالـشِّـعْـرُ أَلْـسِـنَـةٌ تُفْضِي الْحَيَاةُ بِهَا
إِلَـى الْـحَـيَـاةِ بِـمَـا يَـطْـوِيـهِ كِـتْمَانُ
لَـوْلَا الْـقَـرِيـضُ لَـكَـانَـتْ وَهْيَ فَاتِنَةٌ
خَـرْسَـاءَ لَـيْـسَ لَـهَـا بِـالْـقَـوْلِ تِبْيَانُ
مَـا دَامَ فِـي الْكَوْنِ رُكْنٌ لِلْحَيَاةِ يُرى
فَــفِــي صَـحَـائِـفِـهِ لِلـشِّـعْـرِ دِيـوَانُ
وهناك جانب آخر لمسألة الصناعة و الاصطناعية. الأخيرة في حياة البشر هي أقدم من الصناعة وقد نشأت الاصطناعية وهي تطوير أشياء أو أدوات او معدات لا توجد في الطبيعة وقد تكون مشابهة لها بجهد انساني. الاصطناعية برزت منذ أول يوم مارس البشر فيه حياتهم في كوكب الأرض وبدأوا مسيرتهم الحضارية ولكنها اكتسبت زخماً و بعداً صناعياً بعد الثورة الصناعية ولا بد أن الصناعة والاصطناعية رفدت اللغة بمفردات او تركيبات لغوية جديدة لذلك أصبحت الصناعة والاصطناعية جزء من تاريخ تطور اللغات ورفدتها بمعين لا ينضب من المصطلحات والمفاهيم و التراكيب اللغوية.
الشعر و التاريخ والمجتمع
هذه هي الأطر الخارجية التي يتحرك الشعر من خلالها او الروافد التي ترفد الشعر من حيث المواضيع والالهام و الصور والمغازي أو المعاني التي يحاول الشعراء التعبير عنها . وكما أسلفنا فإن الشعر نشأ في حضن الطبيعة ومنها إستمد لغته وصوره و بعض مواضيعه التي يسعى للإفصاح عنها وأعتقد أن علاقة الانسان بالطبيعة بالمعنى الحرفي للكلمة أقدم من تاريخ الانسانية المكتوب . ومن هنا نستشف أن علاقة الشعر بالطبيعة هي أقدم وأوثق من علاقة الشعر بالتاريخ. كان الانسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة ولكنه في تاريخ غير محدد ولكنه موغل في القدم، إنفصل عن الطبيعة ليمارس طريقة حياته الخاصة به و يبني تأريخه و ثقافته ومجده ككيان منفصل و مستقل في الكون. علاقة الأدب و الشعر بالتاريخ عميقة وقديمة وربما تكون قد بدأت منذ بدايات التأريخ و إستمرت الى ما لا نهاية. ويعنى الشعر بالتعبير عن الذكريات وهي من المواضيع الأثيرة لدى الشعراء وتمس وتراً حساساً في ذواتهم. وقد تكون الذكريات على المستوى الشخصي الذاتي ولكن حين تكون على المستوى الجماعي فإنها تدخلنا في مجال التاريخ وما التاريخ الا ذكريات على مستوى الجماعة أو الأمة او الإنسانية قاطبة. وهناك ذاكرة ذاتية على مستوى الشخص وذاكرة جماعية على مستوى الجماعة أو الأمة او الإنسانية
أود أن أناقش موضوع المجتمع من منظور التأثيرات المتبادلة بين الفرد و المجتمع وانعكاس ذلك الأمر على النفس الشاعرة فهو في غاية الأهمية للفرد الذي هو اجتماعي و معظم أنشطته ومصالحه تتم في اطار اجتماعي. ويحتوي المجتمع أيضاً على رصيد لا ينفد من التجارب الحياتية و التي طالما ألهمت الشعراء وربما يكون شعرهم صدى لتلك التجارب الحياتية التي تلهمهم و تحرك فيهم نوازع التعبير الأدبي و الشعري وما الشعر الا صدي للتجارب الحياتية لشاعر ما. والتجارب الحياتية بالنسبة لشخص ما هي في الغالب تجارب إجتماعية. التجارب الاجتماعية يترتب عليها زيادة الوعي بقضايا الحياة وتزود الفرد بمعلومات و معارف وقد تنطوي أيضاً على تجارب تعليمية يتعلم منها الفرد ويزيد وعيه بطبائع الأشياء و حقائق الوجود وهذا مما يرفد شاعريته ويزيدها عمقاً وقوة. وليست العلاقة بين الفرد و المجتمع مثالية في كل الأحيان قد تختل المعادلة فيطغى طرف على طرف فتصبح العلاقة غير سوية
المجتمع قد تكون له اليد الطولي فهو الذي يضع و ينفذ معايير صارمة للسلوك .وأحياناً يطغى الفرد ويهيمن هيمنة كاملة على الجماعة أو المجتمع. وقد تكون العلاقة بين الفرد و المجتمع سوية أيضاً وفي كل الحالات يكون هناك تأثير سلبي أو ايجابي على النفس الشاعرة فتعبر عن ذلك شعراً يحمل بصماتها و معالم شخصيتها و ثقافتها. وربما نضرب مثلاً على التأثير الاجتماعي الايجابي بالشاعر ابو نواس الذي عمل في شبابه صبي عطار في سوق الكوفة وكان العطارين بحكم مهنتهم وفي وقت كانت فيه المعارف موسوعية مهتمين بالكيمياء و الطب فنجد بعض المفردات و المصطلحات المتعلقة بالكيمياء والطب مبثوثة في أشعار ابي نواس و الأمثلة كثيرة على ذلك
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
وقوله
تفشت في عروقهم كتفشي البرء في السقم
أو كلامه في القصيدة نفسها عن مزج الخمر بالماء و النور
رَقَّت عَنِ الماءِ حَتّى ما يُلائِمُها
لَطافَةً وَجَفا عَن شَكلِها الماءُ
فَلَو مَزَجتَ بِها نوراً لَمازَجَها
حَتّى تَوَلَّدُ أَنوارٌ وَأَضواءُ
وكلام ابي نواس عن المزج و التمازج يذكرنا بمفردات و مصطلحات علم الكيمياء. وسبق لي أن عالجت هذا الموضوع في المقالة المشورة بعنوان ” ثقافة ابي نواس الطبية و العلمية”

الاعجاز الشعري
أود أن أتطرق لموضوع الاعجاز في الشعر وأطرح السؤال هل الشعر معجز و الاجابة نعم لأن الله جل جلاله اختص فقط طائفة من البشر بتلك الموهبة هم الشعراء ويهمني أن أنوه بأن الاعجاز في مجال الشعر نسبي و ليس مطلق كما أنه يختلف عن مفهوم الاعجاز القرآني
ويجدر أن نذكر في هذا الخصوص أن شيخ المعرة ابو العلاء له كتاب عن المتنبئ أسمه “معجز أحمد” ضاع مع كتاب “الفصول و الغايات” للمعري من 100 مجلد بسبب غزو التتار لبغداد و القاء الكتب في نهر دجلة. ومن عنوان الكتاب نفهم أن أبي العلاء والذي كان متعصباً للمتنبئ، كان يعتقد أن شعر المتنبئ معجز أي أن الشعراء الآخرين لا يستطيعون أن يأتوا بمثله. وبالرغم من ذلك فإن الاعجاز في الشعر نسبي وقابل للتغيير فمثلاَ اذا ظهر في المستقبل أو الماضي من هو أشعر من المتنبئ يكون قد انتفى ذلك الاعجاز. وقد لا يعجب أبو العلاء أنه بعد مرور أكثر من ألف العام فضل المستشرقون شعر أبي العلاء على شعر المتنبئ.
صلاح الدين التهامي المكي
sameki@hotmail.com

عن صلاح الدين التهامي المكي

Avatar