khirawi@hotmail.com
علاء خيراوي
في السياسة، لا شيء يُوجِع الكاذب أكثر من كلمة صادقة تأتي من خارج حساباته. وحين ينطق صاحب سلطةٍ حقيقيةٍ في الإقليم بما ظلّ الناس همساً في الخرطوم، تسقط الأقنعة دفعةً واحدة. كلمةٌ واحدة من رجلٍ يعرف دهاليز النفوذ في الشرق الأوسط كالشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، كانت كافية لتفكّ شيفرة صمتٍ طويلٍ ظلّ يغطّي على قبح العسكر وتجار الدين في السودان. لم تكن تصريحاته مجرّد رأيٍ عابر في “بودكاست”، بل صفعةً سياسيةً مدروسة وجّهها إلى وجوهٍ امتهنت بيع الأوطان تحت لافتة “الوطنية”. فجأةً، عمّ السكون معسكر بورتسودان، وجفّت حناجرُ طالما كانت تزمجر دفاعاً عن “الجيش المقدّس”، إذ تبيّن أن المعبد قد سقط على رؤوس كهنته.
لقد قال الشيخ القطري ما لم يجرؤ كثيرون على قوله من العرب؛ إن قادة الجيش السوداني صاروا أداةً للتخريب، وأنهم يجرّون البلاد إلى هاويةٍ لا قاع لها. لم يكن يتحدث من موقع الخصومة، بل من موقع المعرفة الدقيقة بملفات المنطقة وبأدوارها الخفية، وهو الذي جلس عقوداً على مقعد صنع القرار الإقليمي ورسم خرائط النفوذ بين العواصم المتنازعة. لذلك، حين تحدّث عن “قادة الجيش السوداني” بوصفهم عملاء الخارج، لم يكن ذلك مجازاً بل تشخيصاً سياسياً بارد الدقّة، من رجلٍ يعرف كيف تُدار الحروب بالوكالة وكيف تُشترى الولاءات وتُباع الأوطان على طاولة المصالح.
وما يضاعف وزن كلماته أنّ الدوحة نفسها، التي كان الشيخ أحد أبرز مهندسي سياستها، كانت الحليف الأقوى للجيش والإسلاميين طوال سنوات حكمهم. احتضنتهم حين لفظهم الجميع، وموّلت مشاريعهم السياسية والإعلامية، وحمتهم دبلوماسياً في أكثر من محفل. أن تأتي الإدانة اليوم من داخل هذا البيت القديم، لا من خارجه، فذلك ما يمنحها وقعَ الزلزال السياسي؛ إذ لم يعد المتّهِم خصماً تقليدياً، بل شريكاً سابقاً يعرف الأسرار ويكشفها ببرودٍ وثقة العارف بما يقول.
وما يثير الدهشة أن أولئك الذين يصيحون صباح مساء باسم “السيادة الوطنية” تبلّدت ألسنتهم، وكأنّهم تلقّوا أمر صمتٍ من فوقهم. لم نسمع بياناً ولا تبريراً، ولا حتى محاولة تبرّع بالردّ على “الشيخ”، لأنّهم يعلمون أن الردّ على قطر ليس كغيرها. قطر هي المأوى والملاذ، وهي المموّل والراعي الخفي لكثير من مشاريع الإسلاميين في المنطقة، ومنهم من يعيش اليوم على عطاياها السياسية والمالية. فكيف يجرؤ التابع على معاتبة سيده؟
الحقيقة أنّ الصمت هذه المرّة لم يكن دبلوماسية، بل افتضاحاً كاملاً لطبقةٍ من العسكر والكيزان لم تعد تملك حتى وهم السيادة. فالتصريحات لم تُصبهم في كبريائهم، لأنهم فقدوه منذ أن رفعوا السلاح على شعبهم، بل أصابتهم في مصدر رزقهم، في علاقتهم المريبة بالعواصم التي تحرّكهم وتغذّي وجودهم. ولهذا، لم يكن أمامهم سوى أن يلوذوا بالصمت، فالإنكار هنا لن يُنقذهم، والردّ سيستفزّ من يطعمهم.
لكن ما قاله الشيخ حمد يتجاوز لحظة النقد السياسي؛ إنه حكم تاريخي على طبقةٍ من الخونة المحترفين الذين لبسوا ثوب الوطنية وهم يطعنون وطنهم من الخلف. لقد وضع إصبعه على الجرح الذي حاولوا تغطيته لعقود؛ أن الجيش الذي يتحدثون عنه ليس جيش الوطن، بل جيش المصالح الخاصة، جيش المزارع والعقود والتهريب والولاءات الخارجية.
من المؤلم أن يأتي هذا التشخيص من الخارج، لكنه في الوقت ذاته مريح من حيث إنه يُحرّر الوعي العام من آخر الأقنعة. فحين يقول أحد مهندسي سياسات الخليج إن قادة الجيش السوداني أدواتٌ لتدمير بلادهم، فهو لا يتحدث بخصومةٍ أيديولوجية، بل من موقع المتابع لتاريخٍ طويل من الارتهان والابتذال السياسي الذي جعل من المؤسسة العسكرية جسراً تعبر عليه الأطماع الأجنبية.
إنّ ما نطق به الشيخ لم يكن إساءةً، بل كشفاً أخلاقياً وسياسياً يضع النقاط على حروف مرحلةٍ تهاوت فيها الدولة السودانية بين أيدي من تاجروا باسمها. ومن هنا، فإنّ ردّ الفعل الحقيقي على هذه الكلمات لا يكون في الإعلام ولا في الشتائم، بل في إعادة بناء مفهوم الوطنية ذاته على أنقاض الخيانة. لأنّ أخطر ما فعله العسكر والإسلاميون معاً ليس فقط أنهم دمّروا مؤسسات البلاد، بل شوّهوا فكرة الوطن حتى باتت تُذكر مقترنةً بالكذب والدم والنهب.
لقد آن للسودانيين أن يدركوا أنّ ما قاله الشيخ حمد بن جاسم ليس استثناءً، بل هو ما يقوله كل من رأى حقيقة الخراب دون أن يجرؤ على البوح بها. وحده من لا يدين بالولاء للعسكر أو للكيزان يمكن أن يرى الحقيقة في عُريها الكامل؛ أن السودان لم يسقط لأن أعداءه تآمروا عليه، بل لأن من تولّوا أمره كانوا ألدّ أعدائه.
إنّ ما قاله الشيخ لم يكن طعنةً في خاصرة السودان، بل جرسَ إنذارٍ في وجه الوعي المخدَّر الذي ما زال يقدّس جلاديه. نحن أمام لحظةٍ تاريخيةٍ تفرض علينا أن نعيد تعريف البطولة والخيانة، وأن نفرّق بين من يرفع شعار الوطن وبين من ينهبه باسمه. العسكر والكيزان لا يحكمون اليوم بسطوة السلاح فقط، بل بخرافةٍ متجذّرةٍ في وجدان الناس تقول إنّ من يلبس البزة العسكرية هو “المنقذ” مهما فعل. تلك الخرافة هي التي جعلت الدم رخيصاً، والكرامة مشاعاً، والبلاد مرتعاً للوصاية الخارجية.
حين يسقط الخوف من الأذهان، يسقط معه سلطان الزيف. ومن هنا، فإنّ صمت الأبواق بعد كلمة الشيخ لم يكن نهاية نقاش، بل بداية مرحلةٍ جديدةٍ من الوعي؛ مرحلةٍ يدرك فيها الناس أن الذين باعوا وطنهم لم يُكرهوا على البيع، بل اختاروه طوعاً. لم تكن تصريحات الشيخ إلا مرآةً وضعت أمامنا صورتنا كما هي، بلا رتوش ولا أوهام. ومن يتجرأ على النظر في المرآة هو وحده الذي يملك حقّ الحلم بسودانٍ جديد.
فلتسقط إذن عبادة العسكر، ولينتهِ زمن تقديس اللصوص باسم السيادة. السودان لا يحتاج إلى أوصياء، بل إلى وعيٍ جمعيٍّ يتجاوز الخوف ويعيد للسياسة معناها النبيل؛ خدمة الناس، لا تملّكهم. ومن هذا الوعي وحده تُبعث الأوطان، لا من فوهات البنادق، ولا من صفقات الخونة.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم