العسكرتاريا.. النيوكولونياليزم

ناجي شريف بابكر
١٥ أكتوبر ٢٠٢٥
.
المؤسسة العسكرية ما بعد الإستعمار، ربما ليس في السودان وحده، يبدو لي انها قد ورثت تركة استعمارية مُثقلةً ومتعمدة تضمن لدول الهيمنة إستمرار المصالح رغم رحيل ظاهري لجيوشها الإستعما رية.
يتمثل ذلك في مبدأ التفوق والوصاية على المجتمع المدني من خلال نظرة ثنائية تنطوي على إستعلاء مقابل دونية.. عسكري مقابل مدني.. قوة مسلحة باطشة مقابل ضعف أعزل.. إنضباط مقابل فوضى مفترضة..
هذه المدارس العسكرية تناقلت هذا الإرث الإستعلائي في مناهجها منذ ان كانت عصابات وخلايا مسلحة تم تشكيلها لمناصرة الحلفاء في مواجهة دول المحور إبان الحرب الثانية، ومن ثمّ للدفاع عن حكومات الإنتداب في مواجهة أهل الأرض.. هكذا تم تصميمها لتخريج كائن مسلح، غير منتم، ليس لمواجهة أشرار معتدين إنما في مواجهة الآخر الوطني الأعزل منزوع الحقوق، الذي لا نصير له..
حتى الإنتفاضات التي قامت بها مجموعات من هذه العناصر في مواجهة حكومات الإنتداب، كحركة اللواء الأبيض في الخرطوم والتي تمثل جزءا من الإرشيف النضالي للمؤسسة العسكرية السودانية، لم تكن تهدف لانعتاق البلاد من ربقة الهيمنة، أكثر من كونها انحيازا لصالح مستعمر على حساب آخر¹.
في أهازيجها والعبارات المأثورة لها التي يحفظها الناس عن ظهر قلب ك “ملَكي ساي”.. وكمفردة “الكُهنَة”، بضم الكاف وتسكين الهاء، التي تطلق كإهانة قصوى للمجند تهدف لتشبيهه في عدم إنضباطه بالمدني (الكـهْنة هي الخِرقة التي تستعمل لمسح الأحذية).. في كثير من الجلالات والأهازيج التي ترددها طوابير الصباح في المعسكرات وفي داخل الكليات تغرس المدارس العسكرية في افرادها إشارات كثيرة في هذا المنحى.

حينما يتخرج افراد تلك المدارس العسكرية، وينخرطون في الخدمة يجدون أن من سبقوهم من قادتهم يسيطرون على الحكم والموارد والثروات.. فيتم عزلهم عن مجتمعاتهم المدنية من خلال الإمتيازات التي توفرها السلطة لهم ولأسرهم. تتمثل الإمتيازات في مربعات سكنية مخصصة، مستشفيات مرفهة وعلاج مجاني بتقنيات يندر تواجدها في المستشفيات التي تتعالج فيها سائر الشعوب، مؤسسات تعليمية جامعية ومدارس مخصصة لأبنائهم، وصناديق تنهض بكل إحتياجاتهم ومناسباتهم الإجتماعية. هذا بالإضافة للهيكل الراتبي الذي يوفر مرتبات وإمتيازات وسلفيات لا تقبل المقارنة مع المهن الأخرى.. فقد رفعت واحدة من قرارات الإنقاذ الرئاسية مرتب الجندي لما يعادل وقتها أربعة أضعاف مرتب الطبيب العمومي في وزارة الصحة².. يتم الإنفاق على تلك القطاعات والإغداق عليها مقابل ولائها للإستبداد والإستماتة في الدفاع عنه لقاء تلك الإمتيازات.. والتعامي في الوقت نفسه عن الفظائع التي يتم إرتكابها بحق المجتمعات المدنية الواسعة.. بل والتواطؤ فيها…
هذا على غير ما هو الحال في بقية قطاعات المجتمع المدني الذي يعيش فقرا مدقعا (مان ميد إمبافاريشمينت)..بحيث لا يتمتع المواطن الأعزل في وطنه الملئ بالموارد والثروات، بأدنى الحقوق في التعليم او العلاج المجاني.. لدرجة تكرر فيها إقدام مستشفيات الخرطوم الخاصة، من فقر الناس ومسقبتهم، على حجز جثامين الموتى مقابل الفواتير التي عجز المرافقون عن تسويتها..
لا ينبغي أن يفهم هذا المنشور أو أن يُجيّر لمساندة الحملات الجائرة، التي تتحايل لتشتيت الجهود الوطنية والفئوية الساعية للتضامن والإندماج، من خلال تصوير الشعوب وكأنها كانتونات معزولة ومتناقضة المصالح.. فالجنود والفلاحون والعمال وسائر البسطاء من الشعوب، غض النظر عن الأوضاع المعيشية التي وفرتها لهم أنظمة الإستبداد أو حرمتهم منها، هم مواطنون بكامل الأهلية، تتحد مصالحهم رغم تمايزهم الفئوي، ولهم أنصبتهم العادلة في الدخول والثروات والموارد التي تزخر بها أوطانهم دون تقيّد بلون أو برأي أوبجنس أو عقيدة ..
إن ما يبدو انها عطايا يوفرها الأستبداد لمن والاه ومن تواطأ معه، من الجنود وصغار الضباط هي في الأصل إستحقاقات.. لكنها في المساق الذي تمنح لهم به، تبدو وكأنها عطايا وأيادٍ يتكرم بها الطغاة ليشتروا مقابلها ولاءً ومداهنة لا يستحقوها، من مُتَلَقينَ بدوا كمتسولين، لكنهم في الأصل أصحاب حقوق، عطايا كان بالإمكان إن تضامنوا مع سائر شعوبهم المقهورة، أن ينالوها مضاعفة كحقوق وأنصبة مستحقة بحكم المواطنة، لا كعطايا محرّمة، ودون ان يكونوا مضطرين لبذل كرامتهم وانحيازهم الوطني إزاءها
إن سلطة التراتيبية التي تحكم المنظومات العسكرية، تطغي على المنطق وعلى القانون المدني وحتى على العسكري، وتبدو وكأنها سخرة واستعباد مطلق.. فلا يحق لمن هو أدنى رتبة أن يحتج إذا ما كانت الأوامر التي تلقاها من قائده المباشر، تخرق القوانين أو الأخلاق (كحادثة إختطاف أميرة في مطلع الثمانينات)³. أو انها مخالفة لقوانين الإشتباك التي سبق ان تم تلقينهم إياها.. ناهيك عن ان يحتج في مواجهة مظالم وقعت على قطاعات واسعة اخرى من المجتمع، الذي نجحت سلطة الإستبداد في عزله عنها وغيرت نظرته لأفرادها.
تتبدى تلك العزلة في أسوأ صورها حينمايقوم فرد الجيش أو الأمن أو الشرطة بتنفيذ أوامر القنص وبإطلاق النار ليقتل محتجين مدنيين عُزّل وبأيادٍ خالية فيمثل بجثثهم بركلهم أو باستخدام أعيرة هي في العادة تستخدم في مواجهة المدرّعات.. ضحابا كان الواجب الأساسي للمؤسسة العسكرية أو الشرطية التي قتلتهم أن تحافظ على حياتهم، وأن تفديهم في مواجهة أعداء وهميين.. كان الأولى ليس قتلهم، إنما حمايتهم من القتل، لأن المواطنين المدنيين هم لحم المجتمع وسداته الذين يسهرون ليوفروا الإيرادات العامة لتسيير دولاب الدولة، الإيرادات التي تخصص منها مرتبات الجيوش والأجهزة الأمنية، أحذيتها وإمتيازاتها.
أما على مستوى الحكم فإن هيمنة القوى الإستعمارية المتمثل في تواجد جيوشها وحكومات إنتدابها في عواصم الإحتلال، قد تحورت من خلال مفهوم العسكرتاريا، إلى هيمنة بالوكالة تضمنها لها الأنظمة العسكرية والإنقلابات، التي تطلع بها الطغم العسكرية في المستعمرات السابقة..
تواصل تلك الطغم العسكرية الحاكمة في ضمان مصالح الإستعمار من خلال ضمانات تدفق تلك المصالح دون عوائق، وتبدأ تدريجيا في احتكار الموارد والإمتيازات الإستثمارية ثم ابتلاع المؤسسات العامة.. ويتوالى الزحف على احتكار الأنشطة الإقتصادية كالإتصالات والمقاولات والصناعات المدنية والإنشاءات.. ذلك مقابل إلتزام دول الهيمنة بالحماية والمساندة والإمداد بالسلاح وتدريب أجهزة الأمن والشرطة على منظومة القمع ومكافحة الشغب .. وتوفير التدريب وتقنيات وفنون التعذيب لمواجهة الناشطين (قضية إختطاف سفير البرازيل في كولومبيا في السبعينات)⁴ وتصفية المعارضة، لإحكام السيطرة على الشعوب..
في تلك الأثناء يتم الدخول في اتفاقيات مزمنة تضمن انسياب الموارد والثروات لمصالح الإستعمار، مثالا لذلك
-اتفاقيات الدفاع المشترك لحماية الأنظمة في مواجهة شعوبها
-إتفاقيات إقتسام مياه الأنهار وتخصيص المياه الجوفية والتنازل عن الاراضي
-إمتيازات المربعات الإستثمارية لاستخلاص المعادن الثمينة كاليورانيوم من النيجر ..الذهب والنفط والمياه من السودان والغابون..
-الماس والبلاتين والكلتان من الكونغو.
-إتفاقيات التجارة والمقايضة لضمان إنسياب المواد الأولية واللحوم والحبوب مقابل سلع إستهلاكية كاللدائن والبلاستيك، كسلع ملوثة للبيئة ووضيعة الفائدة.
ولضمان إستدامة تلك العلاقة الطفيلية، يتم التواطؤ على تقليص تنامي المشاريع الوطنية الكبرى وتجفيف تلك القائمة منها كمشروع الجزيرة، والمشاريع القومية الأخرى كالزيداب وطوكر وجبال النوبة في حالة السودان.. لضمان توفير عشرات المليارات من الأمتار المكعبة من المياه كفوائض وعطايا لصالح دول الهيمنة.
ليس ذلك فحسب، فإن ضمان المصالح الإستعمارية يتطلب وضع إقتصادات مستعمراتها في حالة من الثبات والفقر المستديم، وربما التحكم في تضاعفها ونموها السكاني ..حتى لا تتفاقم الدخول ويتعاظم الطلب الكلي مما يخلق ضغوطا إضافية على فوائض الموارد والثروات بما فيها المياه.
إن من مصلحة الشعوب المحررة أن تطّلعَ بمراجعات واسعة لتلك المناهج العسكرية العقيمة التي تعمق من القطيعة المجتمعية وتفرّخ أوضاعا أشبه بأنظمة الفصل العنصري وسط شعوبها. . كما يلزمها إعادة صياغة عقائد جيوشها وتذكيرها انها هناك لحماية شعوبها والدفاع عن مصالحها في مواجهة الآخر الغازي والمعتدي.. وأنها ليست هناك لحماية أنظمة مستبدة فاسدة وتمكينها من سرقة ثروات وموارد شعوبها، وتعويق جهود النهضة والإختراق التنموي المنشود.
لا فرق في الإنسانية ما بين العسكري والمهندس والطبيب وعامل الصحة.. لأن العسكرية ليست دماء زرقاء نبيلة تحيل أصحابها لنبلاء وأمراء تدين لهم شعوبهم، التي ولدتهم وارضعتهم، بالولاء والطاعة المطلقة.
nagibabiker@gmail.com


لمطالعة الحواشي (فوتنوتس) تعذر إدراجها هنا..

عن ناجي شريف بابكر

ناجي شريف بابكر

شاهد أيضاً

الهمباتة لا يقتلون النساء.. ليسوا سواء!!

في نقد مقاربة أخلاقية غير لائقة، تجشمها صحفيٌ إسلامي، في تعريضة له بسردية هيئة الدفاع …