العلل البنيوية في تكوين الدولة السودانية (5): أصحاب المصلحة الحقيقية في الديموقراطية العلمانية

 


 

حامد بدوي
3 October, 2019

 

 

hamid6by4@hotmail.com

(5) أصحاب المصلحة الحقيقية في الديموقراطية العلمانية
لإثبات فرضية أن ما كان يسمى بأحزاب "الأقليات" هي مرتكز التيار العلماني اليموقراطي وأن سكان الأطراف والهوامش هم أصحاب المصلحة الحقيقية في الديموقراطية العلمانية الواقية من التغول السياسي والاقتصادي والثقافي باسم العروبة والدين، لا بد من أن نعود إلى الوراء، إلى بداية تكوّن الحركة السياسية السودانية تحت ظل الاستعمار الثنائي. ففي تلك الفترة نشأ خلاف بين دولتي الحكم الثنائي، مصر وبريطانيا - في الرؤية لمستقبل السودان. كان المصريون يريدون "السيادة على السودان". وكان البريطانيون على قناعة بأن شعب السودان يختلف عن الشعب المصري، وأن ساسة مصر الذين أبدو فشلاً ذريعاً في إدارة بلادهم وأغرقوها في الديون ورضيو بانتهاك سيادتها عن طريق إدخال المحاكم المختلطة، ليسوا جديرين بإدارة بلاد واسعة ذات إمكانيات ضحمة مثل السودان. بالطبع، فإن وراء موقف كل واحدة من دولتي الاستعمار الثنائي، مطامع اقتصادية. وكانت ثمة محادثات ومفاوضات مارثونية بين الحكومتين، المصرية والبريطانية حول هذا الأمر، الذي انتهي مخالفاً لما طمع فيه المصريون ولما خطط له البريطانيون.
هذا الموقف البريطاني قد باعد ما بين ما كان يعرف باسم "حكومة السودان" برئاسة الحاكم العام المرشح من قبل بريطانيا والمعين بقرار مصري، وبين التيار الاتحادي الذي كان يسعى لربط السودان بمصر. لهذا نجد أن التيار الاتحادي قد عبأ كل قواه لمحاربة حكومة الحاكم العام. لهذا، وفي حركة تضليل واضحة دمغوا فترة الحكم الثنائي باسم "الاستعمار البريطاني" رغم أن السودان لم يكن في يوم من الايام مستعمرة بريطانية من الناحية القانونية. فمانديت حملة كتشر لإعادة فتح السودان كان ينص صراحة على "استعادة أملاك خديوي مصر في السودان" أي الأساس القانوني لاستعمار السودان كان مصرياً. ومع ذلك يردد السودانيون حتى اليوم جملة "الاستعمار الانجليزي". نعم الإدارة في معظمها كانت انجليزية، لكن كل انجليزي عمل في السودان إبان فترة الحكم الثنائي، كان موظفاً مصرياً، من الحاكم العام الذي كان باستمرار يحمل لغب "باشا" حتى أصغر موظف بريطاني الجنسية. وهذه واحدة من عديد من الخدع الاتحادية التي تحولت لدى العامة إلى حقائق، وسوف نأتي لذكر ذلك في حينه.
من ناحية أخرى كانت لدى الساسة البريطانيين خشية وشكوك حول مرامي زعيم طائفة الأنصار وسند التيار الاستقلالي، عبدالرحمن المهدي. وما كان يخشاه الساسة البريطانيون، هو عودة ما يسمونها دولة الدروايش الدينية التي أنهاها التدخل البريطاني ومساعدة مصر على إعادة فتح السودان.
هذا الموقف البريطاني دفع "حكومة الحاكم العام" في الخرطوم، إلى البحث عن، بل محاولة خلق تيار سياسي ثالث يقود السودان بعيداً عن أطماع بشوات مصر وبعيداً عن اطماع عبد الرحمن المهدي وباتجاه تأسيس دولة وطنية ديموقراطية علمانية على نمط مشابه للدولة القومية التي نشأت في الهند وتكون خاضعة لبريطانيا . وقد كانت لحكومة الحاكم العام عدة محاولات في هذا الشأن، باءت جميعها بالفشل. وهنا نصل إلى توضيح فكرة أن أهل الهامش هم أصحاب المصلحة الحقيقية في النظام الديموقراطي العلماني.
فعندما فجعت إدارة الحاكم العام في المتعلمين الذين كانت تعدهم في مدارسها لقيادة التيار الديموقراطي العلماني من اجل مناهضة التيار الإتحادي العروبي الساعي لضم السودان لمصر ولمناهضة التيار الإستقلالي الديني الساعي لإعادة الحكم المهدوي، حيث اجتمع المتعلمون السودانيون في ما عرف بتنظيم "الخريجين" ثم انقسموا ليتوزعوا بين التيارين العروبي والديني، عندما حدث ذلك، اتجه تفكير حكومة الحاكم العام التي كانت تسمى رسمياً "حكومة السودان"، إلى أهل المناطق الطرفية البعيدة عن المركز. ويشهد التاريخ كيف سعت تلك الإدارة لإنشاء (الحزب الجمهوري الإشتراكي) من زعماء القبائل في الشمال والشرق والجنوب والغرب، باعتبار أن أهل المناطق الطرفية المهمشة هم أصحاب مصلحة حقيقية في قيام سودان ديموقراطي علماني بعيداً عن أطماع الساسة المصريين وبعيداً عن طموحات السيد عبد الرحمن المهدي السياسية المرتبطة بالدين. ورغم فشل هذا الحزب وموته المبكر لما لقيه من حرب من جميع التيارات، بعضها عن وعي، مثل الاتحاديين والاستقلاليين، وبعضها عن جهل، مثل قوى اليسار، إلا أنه قد أثبت من خلال عمره القصير بأن قضايا أهل المناطق الطرفية البعيدة المهمشة، لا بد لها من وعاء سياسي يأتي من خارج التيارين الكبيرين، الإتحادي العروبي والإستقلالي الديني.
غير أن نظار الشرق وعمد الغرب وسلاطين الجنوب وجبال النوبة لم يكن لديهم، في ذلك الوقت المبكر، من الوعي السياسي والإجتماعي ما يجعلهم يجارون فهم إدارة الحاكم العام، كما أن أهل المناطق الطرفية البعيدة عن المركز لم يكونوا على مستوى من الوعي السياسي بحيث يفهمون ضرورة قيام هذا الوعاء. ولم يقع فهم هذه الضرورة السياسية في الاطراف والهوامش، إلا بعد الإستقلال حيث أضطروا لخلق إتحاداتهم وأحزابهم السياسية خارج التيارين المذكورين، تلك التنظيمات التي عرفت بأحزاب الأقليات أو بالأحزاب الجهوية، رغم ما في هذه التسميات من مغالطات.
والآن، وبعد مرور ما يزيد عن الخمسين عاماً، فإن وعي أهل المناطق الطرفية البعيدة عن المركز بتناقض مصالحهم مع توجهات التيار العروبي والتيار الديني، قد تعمق ونضج لدرجة أنهم قد اخذوا يقاتلون من أجل فرض خياراتهم السياسية على الساحة السودانية.

نواصل
///////////////

 

آراء