سقطت الفاشر كما لم تسقط مدينة من قبل. لم تُهزم بالسلاح وحده، بل بالأوهام التي زرعها الكيزان في عقول جنرالاتهم وصحافييهم والهتيفة البلابسة: أوهام القوة، وأحلام النصر، وعباءة الوطنية الزائفة التي خبّؤوا تحتها خوفهم القديم من الحقيقة.
لم تكن الفاشر مجرد مساحة تتنازعها البنادق، بل آخر المتاريس في تراجيديا وطنٍ يُذبح بيد من أقسموا على حمايته. المدينة أنهكها الحصار، وتجمدت أرصفة الأسواق تحت وطأة الخوف، ووجوه الأطفال الصغار ال بلا مأوى. ما عادت المدينة تعرف معنى الليل أو النهار، كانت تنتظر تَدافع أقدام الجنود لينقذوها، كما ينتظر المُزارع المطر.
حين هيمنت عليها مليشيا الدعم السريع، بدا المشهد إعلان النهاية… لا لمعركة، بل لوهم طويل اسمه “الإنقاذ”. كل شيء حدث سريعاً، لكن جذوره تمتد في أخطاء تراكمت منذ أن صدّق البرهان أن بإمكانه الجمع بين سيف الكيزان وبسط يد السلام إلى العالم الحر.
منذ الشهور الأولى، كان واضحاً أن السلطة في بورتسودان لا تقاتل من أجل الوطن، بل من أجل وهم. كل بيانٍ كان وعداً أجوف، وكل جولة عسكرية كانت ستاراً يخفي تآكل الدولة من الداخل. حتى حين أعلنوا أن الفاشر «صامدة»، كانوا يعلمون أنها وحدها، وأن الموت يقترب منها كاقتراب الليل من مدينة بلا قمر.
في واشنطن، كانت “الرباعية” – أميركا والسعودية ومصر والإمارات – تفتح نافذة صغيرة للأمل: هدنة مؤقتة، ممرات آمنة، فرصة لعودة العقل. لكن وفد الجيش جاء متكئاً على لغة السوق لا لغة الدولة. ظنّ أن طُعمه من المعادن والساحل سيجذب اهتمام ترامب، الشغوف بالاستحواذ والهيمنة. لكن الوفد نسي أن الرجل، مهما كان جشعاً، لن يضحي بعلاقات حلفائه الخليجيين، وأن السياسة عنده ليست إيماناً، بل مزاد مصالح.
لم يفهموا أن الرياض لم تعد تنظر إلى السودان من ثقب الأيديولوجيا، بل من منظور الأمن والاستثمار والمستقبل، وأن أبوظبي والقاهرة (رغم براغميتها) لا مكان فيها لمن يرفع راية الإسلام السياسي. العالم تغيّر، بينما ظل البرهان أسير تردده، يهاب الكيزان أكثر مما يهاب عدوه في الميدان. فوّت فرصة نادرة ليختار الدولة لا الجماعة، المستقبل لا الماضي، وترك الخرائط تُحرق على مكاتب الخراب بينما آخر قلاع دارفور تسقط.
دخلت المليشيا الفاشر كما يدخل الغبار بيتاً مهجوراً: بلا صرخة، بلا راية، بلا خلاص. صرخات الجوع والخوف كانت الموسيقى الوحيدة في الشوارع. بيوتٌ محروقة، مدارس مغلقة، وأشجار ميتة على الأرصفة، كل شيء يعكس الانكسار الأخلاقي والسياسي. المدينة كانت تنتظر نجدة لم تأتِ، وشعبها ظل ضحية وهم باعوه أسياد السلطة.
في اليوم التالي لرفض الهدنة، سقطت عن الفاشر ورقة التوت الأخيرة: فقدت سلطة الانقلابيين فقدت بوصلة التاريخ، وراح منّي أركو مناوي يجهش بالبكاء.
سقوطها لم يكن عسكرياً فحسب، بل أخلاقياً وسياسياً؛ سقوط الرهان على وهم، وعلى فكرة أن العالم سيغفر للكيزان جرائمهم لأنهم يبذلون المعادن في سوق شراء الضمائر.
تسأل الفاشر اليوم: من الذي أسقطني؟
المليشيا التي اقتحمتني؟ أم أولئك الذين فاوضوا باسمي ثم باعوا أرواح سُكّاني في مزاد السياسة؟.
الإجابة تتسلل من بين أنقاضها: سقطتُ لأنكم صدّقتم أن الله سيقاتل عنكم، بينما أنتم تتنازعون الغنائم.
الفاشر ليست مجرد مدينة باتت في حُكم المليشيا، بل مرآة لما آل إليه السودان: وطن ينهشه صراع الماضي على جثة المستقبل. فاشر السلطان تودع نفسها، والعالم يراقب من بعيد حتى يكتمل الانهيار.
ما تبقّى الآن درس أخير: الخراب لا يأتي من الخارج، بل من الذين رفضوا الإصغاء حين كانت الأبواب مفتوحة، فاختاروا الكهوف على الضوء.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم