سقوط مدينة الفاشر 26 أكتوبر 2025 مثله مثل تمرد حامية توريت 1955، أنتج صدمة كبُرى للعقل الشمالي الجمعي الشعبي والنُخبوي ، الذي لا يقبل الشك في سرديته النيوكولونيالية الإستيطانية ، الكارهة للأهالي والمُعادية للهُويات المحلية.
كانت عملية السقوط التاريخي هذه ، ضرورة كُبرى وتاريخية ثورية ، لهدم ذهنية ورهانات هذا العقل الكمبرادوري – الشمالي – الحامل لمُسلّمات الاستعمار ووصايته المُزدوجة ، على الشعوب الوطنية في السودان التركو مصري منذ 1820.
مُشكلة السودان التركو مصري التاريخية ، لم تكن هي (نمط الاستبداد السياسي) ولا (نمط الحكومات العسكرية) البريتوريانية pretorian armies (المدعومة من المُجتمعات الشمالية كشرط اجتماعي لأمننتها من إنتقام الشعوب الوطنية الأخرى التاريخي المكبوت) ، الذي فرضه الفتح المصري أو البريطاني ، كنمط حكامة مُمحل.
بل في منظومة الاستعمار الداخلي والوصاية المزدوجة ، وفي الهيمنة الشمالية النيلية على مُجريات التشكيل الكولونيالي نفسه (1820-1898) ، كحقيقة مُجردة مذكورة في أبواب الإعتراف السردي (من داخل الحوار الوطني أو خارجه) بالأزمة التاريخية كما هي (راجع : جعفر محمد علي بخيت 1968 ومنصور خالد 2011 ، مدرسة الشمالي الآخر otherness school) ، دون تجريم لمكون إثني أو إحالات جدلية لتبرير تصفية وجوده الإقليمي وتهميشه مُزدوجاً ، كما شابت تشوهات تجارب التحرُر الوطني من إسبانيا إلى الجزائر وزيمبابوي.
واذا كانت تركيا العثمانية ، أقامت منظومة الإستعمار الاستيطاني ، في السودان والجزائر وقامت بتخليقهما كارتوغرافياً ، مثلما سمحت السفارات الأوربية للإمبراطور الأمهري منليك الثاني بتنفيذ نفس المهمة بحق الشعوب الإثيوبية وللشاه تجاه الشعوب الإيرانية والملك البشتوني تجاه الشعوب الأفغانية إلخ.
من خلال إقصاء الأهالي من المشاركة في الحكم ، وتوطين نموذج الإقطاع الأوربي وطبقاته الإستعمارية الثلاثة أو الأربعة (في نموذج امريكا اللاتينية) أو مُشابهاً له.
(Peninsulares , Creoles, Mestizos, Mulattoes, Native Americans and Africans).
فإن منظومة الوصاية المزدوجة double mandate ، التي أرساها البريطانيين , هي مؤسسة حنتوب وكلية غوردون التذكارية ، ومؤسسة قوة دفاع السودان الكلونياليتين ، اللتين لم يحتملا مُنافسة المؤسسات الاجتماعية (الإدارة الأهلية والدينية) في الشرعية السياسية (مذابح 1969 ضد الإدارة الأهلية وعائلة المهدي إلى جانب عائلات دينية أخرى مثالاً).
الأحزاب السياسية المُنبثقة عن منظومة الوصاية المزدوجة البريطانية هذه ، عن النشاط السياسي داخلها ، قوة دفاع السودان (جمعية اللواء الأبيض) وبعثة حنتوب (أحزاب الأمة والإتحادي الفيليست والشوقيست والأحزاب المُنشقة عنهما لاحقاً) مثلت ما يسميه ماركس في وصفه لعلاقة الإمبريالية الأوربية بالوسطاء المحليين والدول المصنوعة إستعمارياً (الإحتكارات الكبرى) Monopolies.
لا يمكن وصف هذه النُخبة الكولونيالية من مُثقفي الإستعمار (التي تسمي نفسها بالقوات السياسية في السبعينات أو القوى المدنية اليوم) ، بأكثر من أنها طبقة إحتكارات كبرى ، تحتكر المُساومة السياسية والاجتماعية مع (الخارج) وتنوب عنه إسمياً في (الداخل).
أما الأحزاب السياسية المُنبثقة عن القوى الاجتماعية (الإدارة الأهلية والدينية) ، مثل أحزاب الناظر بابو نمر و الزعيم الاجتماعي بوث ديو وحزب عائلة الخليفة عبدالله التعايشي كما لاحقاً فيلب عباس غبوش ومؤتمر البجا في الأربعينات و الخمسينات إلخ ، كما أحزاب الطريقة الهندية والتيجانية ونفوذ هيئة شئون الأنصار تدريجياً والأدوار السياسية للطريقة السمانية والعائلات الدينية في مختلف أنحاء البلاد ، ومحاولات إحياءها تحت مُسمى تحالف أو إتحاد قوى الريف في الثمانينات وحقبة أكتوبر 1964 ، أو تحالف أهل السودان (المرجعيات الدينية) في الألفية الثانية علي يد نظام 1989 إلخ ، فقد أبرز واقع تهميشها وموتها الإكلينيكي وإقصاءها من المُساومة السياسية الكولونيالية في 1954 ، عملية إقصاءها من تكوين الدولة العميقة (الأم) ، التي ولدت يوم أن وجدت مؤسسات الوصاية المزدوجة البريطانية نفسها.
تم هذا الإقصاء من تكوين الدولة العميقة الأم ، بطريقة منهجية للغاية ، من خلال حرمانها من الموارد السياسية political resources theory , والموارد المالية , والوصول إلى قواعدها الاجتماعية من خلال سلسلة من التدابير التشريعية والاجتماعية التفكيكية لبنية مجتمعاتها وولاءاتهم (الزبونية).
تفكيك منظومة الوصاية المزدوجة البريطانية هذه ، لا يمكن أن يتم إلا من خلال ديمقراطية ثورية وجبهة متحدة لقوى الريف .
قادرة على تنظيم نفسها سياسياً ، وتوليد بديل سياسي ثوري تنموي ، مثله مثل تحول اثيوبيا 1991 على يد جبهة تحرير تغراي.
قادر على الإجابة عن سؤال القوميات التاريخي nationalities question ، في ألمانيا و الإمبراطورية النمساوية المجرية والاتحاد السوفياتي إلخ , كما الإتحاد اليوغسلافي إلخ ، يُؤدي إلى إشراك القوميات الإثنية والشعوب الوطنية ، كما الطبقات المُغلقة والأقليات ، مشاركة مُباشرة في الحكم ، وإستبعاد وساطة (الإحتكارات السياسية الكبرى) , أو الأحزاب السياسية الكولونيالية والنيوكولونيالية في الخرطوم (المركز) والمُدن.
مهمته , أن يسترد الحُكم الإقليمي (سيادة الأقاليم من خلال تحطيم المركز المتمثل في الجيش ونسق مدرسة غوردون) ، ويُعيد بحصافة إجتماعية ، ثقة الريف والإثنيات في الريف في الدولة ومنظومة الحكم الجديد بدون إصطفاف اجتماعي أو إنقسام ، من خلال إعادة إنتاج الفدرالية وأنظمة الحكم الذاتي التي كانت موجودة في السودان التاريخي في القرن السادس عشر وقبل 1820. ضمن سياق من التمثيل الاجتماعي المباشر بدون وساطة النخبة الكولونيالية.
منظومتي (تأسيس) و (صمود) ، إلى جانب منظومة (مورال) الإحتكارية أيضاً .. على هامش الإحتكارات السياسية الكبرى ، وسياق تشكيلها الاجتماعي ، لا يُمكن إندماجهم معاً أو إندماج التكوين الأول والثاني ، دون تناحُر دامي على إلغاء الآخر ، بين تناقضات الهويات الفرعية Sub identities والإقليمية (الجهوية) التي تمثلها أو تنافح لتمثيلها ، على غرار الوحدة اليمنية 1994 والباكستانية 1971 والسورية المصرية 1961 إلخ. وإبتلاع تنجانيقا لزنجبار إلخ.
الرهان على إندماج تكويني (تأسيس) و (صمود) بوصفهما واجهات كمبردورية ثقافية لقوى إقطاعية متباينة أساساً ، سيكون مكلفاً للغاية و رهاناً دامياً ، من الأفضل الإنصراف عنه إلى إعلان النظام الفيدرالي بدون مواربات وتصفية الإحتكارات السياسية الكبرى أو الأحزاب السياسية الكولونيالية (أحزاب مثقفي دولة بيروقراطيين بلا جماهير) ، قدمت نفسها تاريخياً كروابط طلابية إنقسامية ، عرفت منذ الثلاثينات والأربعينات التناحر الأيدلوجي والاجتماعي الطبقي ، أكثر مما عرفت المُمارسة السياسية المِهنية (حكم التكنوقراط) أو الجادة (تجربة جميع أنظمتها الايدلوجية والطائفية مثالاً).
تُمثل تشكيلة (تأسيس) الاجتماعية ، الكتلة الميكافيلية المُعارضة أو المضادة للنظام الإستعماري والنيوكولونيالي لاحقاً بعد 1955 ، الذي مارس الخديعة السياسية وانتج دولته العميقة من خلال تأليب الإثنيات ضد بعضها.
بينما تمثل تشكيلة (صمود) الاجتماعية ، الكتلة الايدلوجية لهذا النظام الاستعماري منذ 1898. وقبل أن تصل بواخر كتشنر إلى الخرطوم وتنصيب المهدوية المضادة counter mahdism من مُجتمعات السودان النهري , التي ستُخضِع الصحراء النيلية التشادية التي أنتجت المهدية (جغرافيا التمرُد).
لا يُمكن تحطيم الجيش أو (المركز) وأكبر حزب سياسي برجوازي ، بدون تبيين مكانة من اسميهم (الكتلة الوظيفية) أو التقليدية , حسب ترجمة مصطلح غرامشي ، من تشكيلة النظام السياسي المرتقب ، ومن التنظيم الفيدرالي (موقعهم من النظام الفيدرالي). أي لا يُمكن ذلك بدون مُناقشة وضعية السُكان الأصليين ، كما هو الجدل مابعد الإستعماري والأطروحة – الوطنية – مابعد الإستعمارية في ماليزيا 1969 وجنوب افريقيا 1994. وأيضاً ايرلندا الشمالية.
المعنيين هُنا ، هُم السُكان الأصليين من البجا (البدويت) والنوبيين في الشمال (الشمال النوبي وممالكه الخمسة ومهاجريه جنوباً محس الجنوب ودناقلة الجنوب وحلفاويي الجنوب الخ) .
ودارفور (مجموعة البرتي البرقد الميدوب التناحر شمالاً الداجو والبيقو جنوباً) , والجنوب الكبير (جبال النوبا) ، إلى جانب بقية التشكيلات الاجتماعية من البانتو (الفرتيت) , كما أخيراً إثنية الأنقسنا في النيل الازرق.
يُشكل هؤلاء (الكتلة الوظيفية) داخل مؤسسات الدولة العميقة النيوكولونيالية خصوصاً المؤسسة العسكرية تحت مُسميات شتىً ، وحُراسها الحقيقيين أو الفئة الوظيفية التقليدية ، في أي نظام كولونيالي عبر التاريخ يتمكن من تحييد السكان الأصليين أو إبادتهم ، الذين يعتقدون أنهم أحق بوراثتها والمُحافظة على بقاءها ، من الإثنيات المهاجرة الأخرى ، التي تُنافس النظام النيوكولونيالي القائم (جمهورية 1956) على طبيعته الاستيطانية (القومية الاستيطانية settler nationalism) , أكثر مما تُفارق مبادئه الاستعمارية.
كما أنه لا يمكن تدمير النادي السياسي الكولونيالي أو الإحتكارات السياسية الكبرى المُسماة بالأحزاب السياسية في الخرطوم وتارة (القوى المدنية المَزعومة) ، والتي لا يُوجد حزب إقليمي واحد أو فئوي أو إجتماعي ضمن تشكيلتها الأصيلة ، بدون مُناقشة وضعية وعلاقة الدولة بالهُويات الفرعية ، أو علاقة الدولة بالقبيلة (الإثنية) ، بكل شجاعة وبدون تشويش تاريخي وفلسفي. بصراحة دستورية لا لبس فيها.
أما هيمنة الشمال النيلي ، على ما سواه من إثنيات ، كمعضلة إجتماعية من التحدي الإثني المحتدم ، فنهايته كامنة في التنافس الحالي بين القومية الشمالية النهرية والقومية الدارفورية ، الذي سبقه التنافُس بين القومية الشمالية النيلية والقومية الجنوبية في الثلاثينات والستينات ، كتصادُم قوميات ( هُويات سياسية تاريخية) كُبرى ، سيؤدي إلى (خلاص الهويات الفرعية – الأنثربولوجية) أو القوميات الثقافية cultural nationalisms ، واستقرار نظام الحكم ، مهما كانت الكُلفة الاجتماعية للإنقسام.
إنتاج وعي شعبي ، ضرورة ثقافية ممدة لولادة جبهة مُتحدة أو ديمقراطية مركزية إئتلافية (فيدرالية إثنية) ، لا تُقصي تكويناً إثنياً من حكم نفسه ذاتياً بدون وساطة ولا وصاية مزدوجة (إدارة مجتمع بواسطة مجموعة إثنية أخرى) ، مثل تجربة جبهة تحرير تغراي (الوياني) مع الجبهة الثورية الفيدرالية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا ، كمظلة حُكم دستورية ، يمكن أن يحقق مِثل هذا التفتيت والتوزيع الدقيق ثقافياً للسُلطة الكولونيالية المُمركزة (devoultionary federalism).
ويحقن الدماء التي تُسال في سياق التحدي الإثني ، والبحث عن التصحيح السياسي للأوضاع الإجتماعية للإثنيات من خلال (وباء العنف) أو (إرهاب الدولة).
northernwindpasserby94@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم