القاهرة -الخرطوم … اتجاه واحد

بقلم عمر العمر
العلاقات السودانية المصرية الموسومة ب(الأزلية)يشوبها كثير من أعراض الأزل. فمنذ عهد الوالي المؤسس ظلت المصالح العليا للدولة المصرية تحكم العلاقة مع (جنوب الوادي) . هذه الرؤية العليا ليست وقفاً على القضايا الاقتصادية والأمنية فقط .بل على عكس تيار النهر الخالد ظلت التيارات الثقافية والاجتماعية تهب كذلك من الشمال إلى الجنوب . بينما استسلمت السلطات المتعاقبة في الخرطوم لهذا التاريخ لم يرهن الشعب نفسه للجغرافيا السياسية . فهذا التساوق على الصعيد الرسمي أكثر مما على المستويات الشعبية. النخب السودانية الشغوفة بنهل المعرفة والثقافة من الشمال لم تنهض بما يحدث تغييرًا في المعادلة المختلة . لكن هناك شخصيات وتنظيمات جأرت بالشكاوي في منحنيات زمانية متباينة. مصر ليست استثناءاً. فبحكم قوتها وطموحها يستهويها دور (الشقيقة الكبرى)كما في عدد من علاقات الجوار العربي ودول مغايرة . الدولة السودانية لم ترض لنفسها فقط استنكاف الندية -إلا في حادثة يتيمة- بل جعلت الشقيقة الكبرى ظهيرًا على شعبها . حينما حاول ساسة سودانيون الخروج عن النص التأريخي عمدت مصرإلى ازاحتهم عن مسرح السلطة.

باستثناء دور محمد نحيب إبان الحقبة الناصرية ظل السودان ضمن مفهوم أمني قومي مصري غائم تجاه الدول الأفريقية قاطبة .ناصر منح اهتماما للسودان في سياق بناء كاريزماته قائدا لمحاربة الاستعمار في العالم الثالث . فالحديث عن قبوله تقرير مصير السودان يتغافل ادراكه خطورة الجلاء البريطاني عن مصر و البقاء في السودان . كما أن التراجع عن التصعيد في حلايب ليس مرده فقط جرأة عبدالله خليل ،بل لأن ناصر رغم دكتاتوريته كان يصغي الى مؤسساته ومستشاريه . هذه ميزة افتقدها لاحقوه . كما أضاع خلفاء عبدالله خليل حسه الوطني .هذا النقص المزدوج أقحم العلاقات الثنائية في نفق ملغوم بمغامرات عسكرية زادت من تعكير الأجواء . من ذلك بيع مدينة حلفا ، قصف الجزيره أبا ، احتجاز بابكر النور وفاروق حمدالله في ليبيا تسويق انقلاب البشير على التجربة الديمقراطية عربيا ، ثم قضم مثلث حلايب رد فعل ثأرياً على حماقة محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا.

في المقابل كل الأنظمة في الخرطوم لجأت الى الاتكاء على (الشقيقة الكبرى)

فحتى عبود لم يكن يستهدف إزالة ما أسماه آنذاك (الجفوة المفتعلة) عندما ارتضى إغراق مدينة حلفا العريقة مقابل ثمن بخس . فالقصد هو تعضيد نظامه العسكري .كذلك ذهب جعفر نميري على الدرب نفسه حد توقيع تحالف عسكري بغطاء تكامل سياسي اقتصادي. وحده النظام قطف حصاد ذلك الجهد إلى أجل مؤقت ثم انتهى النميري نفسه رهينة عند حليفه بأمر الحليف الأعلى. القذافي قطع طريق بابكر وفاروق (بأسنان تحالف عسكري رباعي ) حسب تعبير السادات . مبارك استنكف مناداة الصادق المهدي بمراجعة اتفاقات مياه النيل فسارع لتأييد انقلاب الترابي -البشير .البرهان أنجز الانقلاب على ثورة ديسمبر بتنسيق وتدبير مع القاهرة . للمرة الثانية مصر تقمع تجربة ديمقراطية في (جنوب الوادي).لم يعد سرًا تلقي البرهان دعما في حربه ضد الجنجويد رغم مساهمة (الاخوان)في اشعال واذكاء الحرب! صحيح لجأ آلاف السودانيين إلى مصر هربا من نار الحرب لانهم لايستطيعون الهروب من الجغرافيا. لكن مصر لم تكن ارض الميعاد حسب احلام اللاجئين.! ربما لأنها هي نفسها مثقلة بهموم فوق الاحتمال.

هكذا طلت مصر تمتّن علاقاتها هي الأخرى مع أنطمة الخرطوم في غياب خارطة تنمية اقتصادية اجتماعية تشد عبرها أواصر الشعبين . هي كانت قادرة على ذلك رسما وتمويلا وتنفيذا منذ أيام عبد الناصر.ذلك جانب من قصور استراتيحي ضمن النظرة المصرية تجاه افريقيا بأسرها والسودان خاصة .فالارتباط السياسي بين القاهرة وغانا ايام نكروما ومع تنزنتيا زمن نايريري و سيكونوري في غينيا و مع اثيوبيا على عهد هيلاسياسي لم يثمر أي تعاون أبعد.حتى محاولات التغلغل داخل الحركة السياسية في السودان اعتمد على مكايدة( الاستقلاليين )اكثر من فهم نافذ للواقع فباء جهدها إلى تعثر إن لم يكن اخفاق .العلاقات السياسية ظلت أسيرة الاتجاه الرسمي الأحادي من الشمال إلى الحنوب. وحدها اتفاقية الحريات الأربعة تشكل خطوة متقدمة على طريق تبادل الاستثمارات .لكن فئة محدودة أفادت من جدواها مقارنة مع موازنة عائدات استثمارات الدولة المصرية في الازمة السودانية الراهنة.

ربما أتاح وجود أكثر من رواق سوداني داخل الأزهر وهجرة طلاب للدراسة في الجامعات والمعاهد المصرية منذ عهد مبكر. كذلك انشاء فرع لجامعة القاهرة في الخرطوم.ربما اتاح ذلك كله فرص بناء شبكة علاقات ثقافية تساهم في اصلاح ما أفسدته الأنظمة أو عجزت عن انجازه . غير أن هذا التدافع للدراسة لم يتم الاستثمار فيه بغية تكريس فهم معرفي عميق متبادل. فمصر استعصمت بدور الاستاذ دون بذل أي جهد من أجل محاولة فهم الواقع الثقافي السوداني.بل ربما ليس مبالغة القول بانها تجهل مقومات الثقافة السودانية.كذلك ليس من منطلق الإدانة أو الرجم القول أن ذلك يحدث من منظور استعلائي.فباستثناء ماكتب رجاء النقاش عن الطيب صالح لا تكاد الذاكرة الثقافية السودانية تحتفظ بمساهمة مصرية لحهة التنوير بالثقافة السودانية.! على المستوى نفسه لا يوجد صدى لجنوب الوادي في أجهزة الاعلام المصرية. وحده عبد الله حمدوك المسؤول السوداني جرأ على تذكير المصريين وهو بينهم على حتمية( الحوار في شأن المسكوت عنه ) بغية تنقية الأجواء .لعلها خطيئة لم تمر دون محاسبة!.

نقلا عن العزبي الجديد
aloomar@gmail.com

عن عمر العمر

عمر العمر

شاهد أيضاً

ذهنية حداثية لمقاربة الرباعية

بقلم عمر العمرaloomar@gmail.com بمنطق البيئة الاقليمية لتأمين السلام عبر التفاوض،فإن مبادرة اللجنة الرباعية تشكل مدخلاً …