المد التاريخي السياسي السوداني هو أسوأ مد سياسي حدث ومازال يحدث في كل بقاع الأرض على قياس كل الانظمة منذ نشوء أول عمل سياسي ، وذلك لأن الحكّام الذين ولّوا علينا لم تأتي بهم جماهير الثورات بل نزوات الأحزاب المستعبدة والمستعمرة من الخارج ومع العلم بأن الأحزاب السياسية هي صوت الغرب وليس صوت الشعب ، الأحزاب هي القاعدة السياسية التي تتحكم بها الدول الخارجية ومع المعونات المالية تأتي القرارات السياسية ، لقد كان مفهوم الاستعمار الحديث هو عبر الهيمنة على دولة ما دون تدخل عسكري مباشر بل بالهيمنة والحظر على الاقتصاد او عبر القروض وشركات الاستثمار العالمية مع حبكة التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاعلام (الاستعمار المقنع) لكنها أصبحت طرق مكشوفة لذلك استبدلت بالأحزاب و بالحركات المسلحة وقوانين حقوق الإنسان وحق تقرير المصير للأقليات ووضعوا قبلها النهج أي القانون الدولي الذي يحمي حقوق الإنسان بل وأصبح (واجب) المجتمع الدولي التدخل وحماية الشعوب ما من شأنه أن يهدد أمنها واستقرارها في زمن السلم والحرب.
معطيات أخرى زار الرئيس التشادي إدريس ديبي الخرطوم في 18 يناير 2019 في طريق عودته من «أثيوبيا» الى «تشاد» والتقى البشير ، ثم زار «نتنياهو» تشاد في 20 يناير 2019 أي بعد أقل من يومين من زيارة الرئيس ديبي للسودان ، وكتب نتنياهو على تويتر " أغادر البلاد الآن الى تشاد لتحقيق إختراق دبلوماسي تاريخي وهام آخر" وفي يوم 21 يناير 2019 أصدرت وكالة "بلومبرج" الأمريكية تقريرا حول العلاقات الإسرائيلية السودانية المحتملة دلالة على ما سيحدث وهو: قد أعطى السودان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الضوء الأخضر للتحليق فوق جنوب السودان في رحلة عودته من تشاد في خطوة غير مسبوقة وصفها قائد الطائرة ب "التاريخية" رغم ان الطائرة لم تحلق فوق المجال الجوي السوداني الا ان تحليقها فوق جنوب السودان الذي يخضع مجاله الجوي لسلطات الطيران المدني في الخرطوم في حد ذاته نقطة تحول كبيرة كونها المرة الأولى التي تسمح فيها السلطات السودانية لطائرة اسرائيلية بالمرور فوق هذا المجال.
زار الرئيس إدريس ديبي الخرطوم مرة اخرى والتقى البشير في 4 أبريل 2019 اي قبل أسبوع واحد من عزل البشير في 11 أبريل وفي هذا دلالة واضحة على ان التسوية قد تمت اي بحفظ البشير من شر البلية السياسية القادمة على البلاد (في وجهة نظر البشير) ، اي المدنية أي الضمان بسلامته بل وإخراجه لاحقا من السجن كما فُعِلَ مع حسني مبارك ، وذلك على أن تقوم البلية السياسية الجديدة لاحقا بمراضاة اسرائيل اي السماح بتمرير حق تقرير المصير اي الإنفصال.
مبادئ سياسية مغلوطة .. حق تقرير المصير ، الديموقراطية .. ماذا يعني حق تقرير المصير لإقامة دولة لشخص لا يعرف حقه في الحياة كإنسان ؟ أي ليس له مأوى وليس له غذاء وماء صالح للشرب ! شخص لا يعرف القراءة والكتابة وان عرفها لا يعرف كيف يطالب بحقوقه ! مأساة الإنسان هو تغيب عقله عن الحقائق وهذا ما نجح فيه الإعلام والعالم الغربي بمعنى ماذا انتفع إنسان جنوب السودان بفكرة ان تكون له دولة ذات سيادة جنوبية ؟ إنه استعمار آخر ليس أكثر من ذلك ! لم ينتفعوا شيئا وما زالت الصراعات المسلحة قائمة وزادت حدة الخلافات بين القبائل الجنوبية على نصيب كل منها وعلى أحقية كل قبيلة بالسلطة والثروة وهذا ما سيحدث ان تم فصل دارفور.
ولو سألت جنوبيا عن مدى رضاه من حق تقرير المصير وبما تحقق له وبما كان يظن أو يرجوه من دولته الوليدة وما جناه حقا ؟ سيجيبك بفلسفة على مستوى راقي وعميق جدا سيقول لك لقد كُنّا في السودان بشرا تنقصنا بعض الحقوق عن الشماليين ، لكن الان في جنوب السودان أصبحنا نحن والماشية قطيع واحد. والمعنى أنه لم ولن تستطع حكومة وسلطات جنوب السودان بالتفريق في التعامل الذي ما بين الماشية وما بين الإنسان الجنوب سوداني ، وذلك لانهم لم يمارسوا الديمقراطية لم يتعلموا كيف يعبّروا عن آراءهم وحقوقهم ، ولم يمارسوا مفهوم الدولة والمؤسسة والفرد والجماعة ودور كل منها في «إنشاء كيان قائمة بذاته» «بهوية واحدة» معينة «للجميع» باستحقاقات وواجبات. لم يتعلموا لغة التخاطب بل مازالت لغة من له سلاح اكبر هو الذي معه الحق ولذلك أقدم نصحا لكل إنسان سوداني من إقليم دارفور لا تستمعوا لوعود الساسة بأن الدولة الجديدة ستكون أحسن حالا وأن الديموقراطية التي لا يعلم أي سياسي حتى الان تعريفها سوف تجدي نفعا ، فإن داء السلطة ليس له دواء بل هو داء واحد ما بين كل الرؤساء. ، ديموقراطية الساسة تنجلي أعمق صورها في الانتخابات ، حين يفرضوا عليك ثلاث مرشحين ، اثنين منهم لم يرشحوا أنفسهم بل تم الدفع بهم بينما الديموقراطية الحقيقية هي ان لا تضع أسماء لأي كان ، بل تجعل الإرادة الشعبي هي من تختار مرشحيها ولا تحدد لهم وتسمي لهم من الاول شخصيات معينة ، فهنا سقطت الديموقراطية ، حين تفرض الأحزاب المسيسة خارجيا والمشتراة دوليا علينا أشخاص معينون مسبقا و منتخبون جدلا.
إن ما أتبعه البشير من سياسة طيلة ثلاثون عاما كانت موضوعة له بحيث عليه التنفيذ فقط وحتى التغيير السياسي الذي أدى الى قدوم البشير إلي السلطة كان موضوعا أيضا ، وهي المساومة ، لا يأتي أحد الى السلطة السياسية بالصدفة ، بل عن طريق المساومة ، لكي تملك الملك عليك بفصل الجنوب وهو ما أداه البشير جيدا وذهابه من الحكم ودخوله الى السجن أيضا هناك مساومة لكي يخرج من السجن سالما ، كما حدث تماما مع حسني مبارك ووريثه السيسي وبالفعل حين شرع السيسي بإخلاء سيناء أُخرج مبارك سالما غانما وهو يمتلك في سويسرا مبالغ لا حصر لها.
فلا توجد نبوة في السياسة فكل حدث يجري التخطيط له مسبقا وبأدق التفاصيل فنحن لا نملك سياسة حرة في دولنا العربية والأفريقية خاصة وهذا ما وضحه روتشيلد في القرن السادس عشر حين قال (إن الحرية السياسية ليست إلا فكرة مجردة ولن تكون يوما حقيقة واقعة) ويضيف الكاتب ((يستنتج من ذلك ان كل ما يقتضيه الوصول الى السلطان السياسي هو ان يبشر شخص ما او هيئة ما بالتحرر السياسي بين الجماهير ، حتى اذا آمنت الجماهير بتلك الفكرة المجردة ، قبلت ان تتنازل عن بعض امتيازاتها وحقوقها دفاعا عن تلك الفكرة ، ويستطيع المتآمرون ان يستولوا على هذه الامتيازات والحقوق)) .. وهذا بالضبط ما يحدث حين اعطى القانون الدولي حق تقرير المصير للشعوب واسميه انا (الاستعمار بحكم القانون) وهذا بالضبط ما فعلته قوى الحرية والتغيير، اي لكي تملك الملك في السودان عليها ان تعمل على فصل إقليم دارفور وإلا لماذا لم يدخلوا الجبهة الثورية منذ البداية إلى السيادي ؟ لأنهم يتبعون نهج واضح وبيّن وضِع لهم وما عليهم الا بالتبشير بالحرية السياسة وهذا ما قد تم من قبل الذراع اليمنى لقوى الحرية والتغيير (اي المهنيين) بالترويج لفكرة الحرية ، وبذلك استجابت الجماهير ونزلت الى الشارع وأصبحت ثورة ونالت قوى الحرية والتغيير سلطتها ، بحكومة كاملة لها ، وب ثلثي مقاعد البرلمان ، كل هذا مقابل أن يبشروا بالحرية لغرب السودان. سيقول قائل بان مفاوضات السلام ستثمر اتفاقا حقيقيا ! نعم ستثمر مفاوضات السلام وسيوقع عليها أغلب الحركات المسلحة ، لكن على المدى البعيد لن تثمر إلا مزيدا من الانشقاقات و هناك أمر جلل اخر وهو عندما دافع قرنق بحركته في الجنوب كانت حركة موحدة لكن الان اصبحت ثلاث حركات في دارفور ! لماذا ؟ بينما هنالك حركتان فقط في كل من النيل الأزرق وجنوب كردفان أي الحركة الشعبية شمال جناح بقيادة مالك عقار وجناح اخر بقيادة عبدالعزيز الحلو والان هناك مفاوضات سلام تقدم بها سلفاكير لجمع الفصيلين مرة اخرى لتكون حركة واحدة بينما دارفور بها ثلاث حركات مسلحة ، أليس شيئا غريبا ؟ فإن الدروس المستفادة من التاريخ توضح ذلك تماما ، حينما أراد قرنق التراجع عن فكرة دولة جنوب السودان (وذلك دون التراضي مع حكومة الشمال) ومضى في سبل تحقيق السلام والوحدة قُتل وهذا ما صرحت به زوجته ريبيكا حين قالت (نعم كانت الأحوال الجوية سيئة لكن ليست سيئة كي تسقط طائرة رئاسية) بمعنى انه اغتيل لأنه عندما أعترض وحاول تعديل مسار التوظيف الإسرائيلي لصالح الجنوبين تم اغتياله بالتنسيق مع أوغندا ، وقد أثبتت ذلك التحقيقات ففي طريق عودته من زيارة لأوغندا بطائرة تتبع للقوات الأوغندية بمطار عنتيبي في أوغندا تم إفراغ الوقود منها ولم يتبقى الا القليل تسمح الطائرة بالاقلاع والوقوع داخل الحدود السودانية كي تلصق التهمة بأنها من تدبير حكومة السودان ، وذلك لأنه رفض توجيهات اسرائيل بان يعمل على انفصال الجنوب ، حتى ان مسؤولين إسرائيل قالوا له (بأن المساعدات التي تلقاها طيلة سنوات الحرب كانت بهدف انفصال الجنوب) اي لن تجازف إسرائيل بوضع ثقتها كاملة في فصيل مسلح واحد ، حتى ان أراد هذا الفصيل الوحدة يكون هناك فصيل آخر يؤدي مهامه على وجه الدقة.
إليكم ما سيحدث سوف يوقع اتفاقية سلام شامل بين الحكومة السودانية وبعض الحركات المسلحة -ليست كلها ستوقع- ستستمر العدائيات بما أن هناك فصيل لم يوقع بعد ، وسيرد الجيش السوداني دفاعا عن أرضه اولا ومن ثم دفاعا عن حقه المشروع وسيقتل بعض الجماعات المسلحة ، ثم يذاع نبأ في جميع المحطات التلفزيونية بأن السودانيين في اقليم دارفور مازالوا يتعرضون لتصفية عرقية واضطهاد لا مثيل له وسيتم إدانة السودان مجددا بجرائم الحرب والابادة وذلك كي يتفاوض الساسة مجددا بين الذين في الخرطوم وبين الذين في دارفور وباريس ويضعون حق تقرير المصير مجددا كخيار لحل ومعالجة جذور الأزمة -كما يحدث الان- من ثم يتم التصويت مجددا وتخرج النسب ذات الطابع السيادي الجديد ب 98.99% صوتوا بالانفصال ومن ثم ترفع رايات السلام والمحبة في كل مكان وينقسم إقليم دارفور ويصبح عبدالواحد محمد نور او نائبه او غيرهما رئيسا قمعيا بغير مقارنة وستتم التصفية العرقية الحقيقية للأقليات التي لا تنتمي ل عبدالواحد محمد نور التي لا تعرف نور ولا هو يعرفهم .. انه عمل الموساد عمل منظم دؤوب لا ينقطع بينما العرب نائمون وحين افاقوا لا يكلّوا من المجادلة والنقاش عن حرية المرأة والمساواة في الحقوق والتمييز الإيجابي ..
وماذا تنفعل الحريات لاشخاص لا يعرفون معنى وجدوى الحرية ؟ ولا يعرفون كيف يستخدموها؟
هناك فرضيتان لا ثالث لهما الاولى انقسام الحركات المسلحة الى جبهتين ، جبهة تقاتل داخل دارفور ، ستمتنع عن الاتفاق مع حكومة السودان وجبهة تقاتل خارج دارفور (النيل الأزرق وجنوب كردفان) ستتفق مع حكومة السودان أما الفرضية الثانية ستتفق كل الحركات المسلحة التي تقاتل داخل وخارج دارفور ما عدا حركة عبدالواحد محمد نور ستمتنع وتدعو للتصعيد ، وفي كلا الحالتين المغذي واحد الدعوى الى تحقيق تقرير المصير لاحقا.
لا توجد في السياسة روح وطنية توجد روح سلطوية وهناك قاعدة وحيدة في السلطة هي التسوية السياسية ، وقد تمت.
وحين قال جورج أورويل (إن القومية هي أسوأ عدو للسلام) لأنها تعطي الحق للقوم على حساب الوطن ، لانها تُعلي من القوم فوق الوطن ،لذلك القومية هي وسيلة لحماية «طريقة شعب ما في الحياة» اما الوطنية فهي وسيلة «لحماية كل الارض لكل الشعوب التي بها» ان لم نتخلى عن القومية سوف يتحلل الوطن ولن يبقى لنا سودان نعيش فيه.