المكالمة الاخيرة لمستر ابراهيم عاشق: وطنهِ الصغير وادي حلفا والتواصل الانساني

 


 

 


     كان يناديهِ  الامريكان العاملين في الحقل الطبي بمستر ابرهيم و كانوا يصفونه بصاحب الوجه المبتسم ذلك  اِبان استشفائه باحدى مستشفيات مدينة مونتري بولاية كاليفورنيا. و قد خلق علاقة لطيفة معهم و كعادته في التواصل الاجتماعي كان يهاتفهم من السودان عقب عودته او يطلب مني التواصل معهم و اهداء  تحياتهِ و سلامهِ. كما عشِق مدينة وادي حلفا عِشقاً فاق حد الوصف وحمِل في دواخله حنيناً و اشجاناً تجاها خاصة لفتر ما قبل غرق وادي حلفا في عام 1964 بمياه السد العالي الذي شيد جنوب مدينة اسوان 20 كلم.
  لا احسب اجترار الزكريات  و الحديث عنها شان خاص في معظم الاحوال , و اهدف الى قيمة التواصل الاجتماعي و العشق المكاني و اهميتهما في ترسيخ محبة انسانية كلنا في حاجة اليها و هذا كان ديدن المستر علي احمد ابرهيم.  الحياة بدون تواصل انساني نقي مثل طعم ماء البحر الاحمر.
برغم مشغوليات وتعقيدات الحياة جبلنا على التواصل الاجتماعي سواء في البيت او العمل او مع الاصدقاء و غيره. بعض الناس تفردوا في ارساء هذه القيمة و احسب ان المستر ابراهيم هو شيخ التواصل الانساني النقي من كل شوائب النفوس. كنت امازحه قائلاً (يا ابوي انت بعد ما نزلت معاش موضوع الزيارت ده كتر و بقت ليك مهنة جديدة و لا شنو يعني) فكان يرد علي بابتسامته الصادقة (شوف يا صلاح ولدي زيارة الناس و الصدقات دي زيها مافي, كل ما تقدر تصدق و زور الناس).
و اذكر ملاحظة قيمة زكرها لي صديقي الدكتور حسن محمد نور الدين عن المستر ابراهيم , قال لي ً عندما كنا نزوركم في بيتكم يا صلاح و نحن مجموعة من اصدقائك انت كان والدك المستر ابراهيم يتونس  و يعطيك اهتمام كانما انا لوحدي و لا يوجد غيريً.
طوال فترة وجودي بامريكا ما انقطع اصدقائي و اصدقاء اخواتي عن زيارة بيتنا بالخرطوم و سبب ذلك هو تواصل المستر ابراهيم معهم في افراحهم و احزانهم حتى ان احد الاصدقـاء و هو محمد عبد الحميد قال مازحا اننا دخلنا هذا البيت كاصدقاء لصلاح (صالح) و الان تغير الوضع فنحن ندخل هذا البيت لاننا اصدقاء المستر ابراهيم.
عشِق مدينة و ادي حلفا بكل خلجات انفاسه و مشاعره رغم ان المدينة غرقت و هٌجر اهالي حلفا الى شرق السودان في عام 1964. و لانني كنت قريباً منه و استمع له باذان صاغية كان يغمرني بسيل عن الزكريات و تشهد العريشة المتواضعة (الراكوبة) امام البيت بذلك.كان يتمنى العودة و الاستقرار في وادي حلفا و قد ترجم هذا الحلم عملياً في انخراطه في تاسيس جمعيات و منظمات تهدف الى تعمير قرى و ريف و ادي حلفا.
رن جرس الموبايل في الساعة الواحدة ظهراٌ بتوقيت كاليفورنيا اي الساعة الثانية عشرة صباحاً بتوقيت السودان في اليوم الاول من يناير عام 2015 و كان المتصل هو المستر ابرهيم و لم استعجب فقد عودني على الاتصالات فكان يتصل بي مرتين في الاسبوع وسبب مكالمته هو تقديم باقات من التمنيات الطيبة بحلول العام الجديد.و لكني استغربت من بعض الحديث لانني لم اتعود عليه فقد قال بالحرف ( ازيك يا ولدي انا عايز اهنئك بالسنة الجديدة و اتمنى لك كل خير و بدعو لك في كل صلاة بالتوفيق و انا راضِ عنك انا راضِ عنك و عاف عنك دنيا و اخرة) أستغربت من ترديده لكلمة راض و عاف!! قلت له( انا كنت بحاول اتصل بك و لكن شبكة الاتصال لم تساعدني فدعني احاول مرة خرى حتى لا تكلف نفسك مصاريف المكالمة) فقال ( ساتكلم و ما تشيل هم على تكلفة الاتصال يا ابني ). كانت المكالمة الاخيرة ..... له الرحمة.....
تلقيت خبر وفاته  بعد 8 ساعة من تلك المكالمة و قد غمرني اهلي الطيبين بمونتري بفيض من المواساة و الحزن النبيل كيف و قد احبوه بكل ما تحمل الكلمة من معنى و قد زرع فيهم الحب المتبادل بصدق خصاله و تواصله معهم من السودان. تمتع بحب الناس و بكاه الاحباب بمونتري كما بكاه ذوي القربي بالسودان. فقد خلق علاقات جميلة مع السودانيين بمونتري كون صداقات خاصة به و كنت ارجع من العمل الى البيت اذا بابي غير موجود و اسال زوجتي عنه فتخبرني انه خرج مع الدكتور عوض او مع علي حسين!!
كان يحسن ابداء الشكر بطريقة صادقة لا يشوبها اي نوع من الشكك و هذا ما قالته لي احدى العاملات في الحقل الطبي ( ان ابيك هذا يحسن ابداء شكر نابع من القلب) كما كان مندهشا للتعامل الانساني الرفيع في المستشفي و منحه بطاقة تامين علاجي  غطت تكاليف بلغت 117000$ . ابان استشفائه في المستشفى جاءه ابن عمه محمد الفاتح سيداحمد (ابو دقن) فقال له ابي ( يا محمد باللله انا الذى نشا في جزيرة  ( شِرقندي) يناديني الامريكان بمستر ابراهيم و كان السرور على محياه فقال له الفاتح انت مستر من السودان بس هؤلاء الناس استطاعوا تقييمك و هناك فشل الناس في مناداتك بهذا التقييم).
هذه الزكريات فيها مواقف جميلة و نبيلة و نحن في امس الحوجة لها و هي قيمة التواصل الانساني النقي و حب الناس بدون مقابل مادي و لكن ستجد المقابل و هو حب الناس لك... لك الرحمة يا مستر علي احمد ابراهيم و يرحمن الله جميعا..
صالح علي ابراهيم (صلاح)
جورجيا- الولايات المتحدة
     

salih.admedibrahim@dliflc.edu

 

آراء