الوثيقة بعشرة جنيه يا جدعان

 


 

 

غربا باتجاه الشرق


mustafabatal@msn.com

في حوار خاص مع أخي الأكبر فتحي الضو عبرت عن تحفظي على إرفاقه مع مقاله الأخير المنشور على منابر الشبكة الدولية وثيقةً يفترض أنها تكشف جانباً من فساد أحبابي في معسكر العصبة المنقذة، ثم إضافته الى عنوان المقال عبارة (توجد وثيقة فضائحية). قلت له إنني قرأت الوثيقة ولم أجد فيها ما يمكن ان يوصف بأنه (فضائحي). فقط  مجرد خلافات بين مجموعة من المغتربين في دولة عربية وسفير السودان هناك حول كيفية التصرف في مبلغ مالي جمعه المغتربون لخدمة مشروعٍ ما.
ثم إن هذا النوع من النشر لا يليق بمن هو في وزنه وقامته، إذ أنه يشبه ممارسات بعض الطامحين الى الانتشار والذيوع الاسفيري حين يضيفون عبارة (توجد صور)، بغرض التحايل علي القارئين وإغرائهم لتفقد كتاباتهم. وحبيبنا فتحي، حرسته عين المولي، ليس من أولئك، فهو يعتبر في يومه هذا القمر المنير، بل الشمس المشرقة، في مجرّة المعارضة السودانية المهاجرة، أرضاً وإسفيراً.
وكنت كلما خالفت فتحي الرأى في أمرٍ كتبه وحدثته في ذلك حثني علي أن أكتب رأيي المغاير وأنشره. ولكنني أجد نفسي علي الدوام متخاذلاً متردداً، اقدّم رجلاً واُؤخر أخرى، كوني أدرك أن التعرض لصاحبي بالنقد العلني رياضة بالغة الخطر، لا ينهض اليها الا أولي العزم، ولست منهم. فأنا أخشى غضبة أنصار فتحي وحوارييه. وصاحبي هذا له أنصارٌ وحواريون، غلاظ الأكباد، بايعوه على المنشط والمكره، فهم يأكلون النار ذوداً عن شيخهم. بل أن له رجالاً أخياراً صدقوه العهد، يرابطون علي مدار الساعة فوق مداخل الشبكة الدولية ونواصيها، يترصدون كل من تسوّل له نفسه ان ينال الشيخ بكلمة. تماماً كما كان بعض شباب الحركة الاسلاموية، عام انقلابهم الأول، يجلسون القرفصاء علي رؤوس الكباري ومداخل المدن رابضين مترصدين، تحسباً لأى نشاطٍ مضاد. وقد روى أحد أصدقائنا المشتركين أنه رأى في بعض زياراته لشيكاغو حوارياً يرافق فتحي ويحمل له الابريق في حله وترحاله. ولكنني أستبعد ذلك، وأحسبه من الشطط!
قضية الحصول علي الوثائق وترويجها من القضايا التي تستوجب إجالة الفكر وإنعام النظر. والواقع أن جُل  الوثائق التي تجد طريقها الي النشر فتشغلنا وتملأ دنيانا، باعتبارها أدلةً شاخصة علي الفساد واستشرائه ليست نتاجاً لمجهودات التحري والتحقيق الاستقصائي، الذي هو واجبٌ أصيل من واجبات الصحافة كسلطة رقابية. وإنما هي وثائق تسربها، عامدةً متعمدة، في كل صباح، أيدي خفية ضالعة هي نفسها في الفساد حتي حفافي أُذنيها، ووالغة في الآثام حتي أرانب أنوفها. وتسريب الوثائق والمعلومات الى الصحافة بهدف ضرب الخصوم وإضعافهم وسيلة مختبرة من وسائل تصفية الحسابات بين القطط السمان الذين تتضارب مصالحهم ويدب الخلاف في صفوفهم.
وهناك بطبيعة الحال عوامل ودوافع أخري تحيط بعمليات تسريب الوثائق والمعلومات للصحافة، بحيث تجعل منهاً متنفساً لروح الموجدة عند البعض، ومكبّاً لرغبات الانتقام المترتبة على تفاعلات التنافس والمغالبة الدنيوية حول المكتسبات والمواقع السلطوية المُدرة للامتيازات. وذلك فضلاً عن مظاهر الضعف البشري المعتادة كالاستخذاء في مواجهة ذهب المُعز!
أنا شخصيا علي علم دقيق بوقائع تسريب بعض مذكرات سرية ومسودات قرارات رئاسية من مكتب رئيس الوزراء في غضون حقبة الديمقراطية الثالثة الى صحيفة (ألوان) الاسلاموية. إذ أماط الاستاذ حسين خوجلي اللثام عن تفصيلات مبالغ مالية بذلها لزميلي السابق في رئاسة مجلس الوزراء (ش.أ.ح) مقابل تلك الوثائق. ولولا أن حسين أفاض تلك المعلومة طوعاً في مجلسٍ عامر بدار صديقنا المشترك السفير خالد فتح الرحمن، بحضور ثلة ضمت الاستاذ أحمد عبد الرحمن محمد والدكتور خالد التجاني وشخصي وآخرين، ما ذكرتها.  وأعلم من مصادر اخرى أن حسين دفع أيضاً لبعض ذوي الخصاصة من منسوبي الحزب الشيوعي لقاء وثائق سرية. غفر الله لنا وله، ولزميلي السابق المرتشي، وللمعسرين من عيال ماركس.
ينطبق هذا التحليل علي (جُل) الوثائق، لا كلها. ذلك احتراسٌ ضروري يقتضيه العدل وتستحضره الموضوعية. فلا نغفل حقيقة أن هناك نفوساً عفيفة وأيدي نظيفة، روّعتها الأخطاء والخطايا، وزلزل وجدانها الظلم والظلمات، فانفلتت الى عرض الطريق تشهر المعلومات والوثائق، تبتغي الصدع بالحق والشهادة على الناس. وفي الولايات المتحدة يسمون هذا النوع من البشر: Whistle blower أو "نافخ الصفارة"!
أكثر الحقب التي شهدت هزات سياسية واجتماعية كبيرة بسبب الوثائق كانت الفترة الانتقالية التالية لانتفاضة إبريل 1985، حيث أضحت وثائق جهاز أمن الدولة في أعقاب انهيار النظام المايوي مادةً للاحتيال والابتزاز والمكايدة والعبث السياسي. ومما أعان علي تفاحش الأمر أن المجلس العسكري الانتقالي وسّد مهمة حصر وتصفية الجهاز الى رجل شديد الولع بالظهور الاعلامي والدراما والفرقعات الصوتية. وقد قضي عامه كله يوزع التصريحات الملتهبة في شأن الوثائق التي وقع عليها، ويبث الايحاءات، ويستثير الخيالات، ويهيج الشعور العام.
وقد كان رئيسنا المفدى، العقيد آنذاك، عمر البشير، نائباً لذلك الرجل الاستعراضي. وأظنه تعلم فضائل الصبر وقوة الاحتمال من مجاورته إياه، والعمل تحت إمرته عاماً كاملاً!

نقلاً عن صحيفة (الخرطوم)
/////////////////

 

آراء