انعاش الذائقة الفنية
منى عبد الفتاح
11 April, 2009
11 April, 2009
كيف لا
منى عبد الفتاح
في بواكير التسعينات كانت أعداد متزايدة من الشباب تتشبث بالأغنيات القديمة، من بينهم من كان موقفه من تلك الأغنيات يشكل حسب رؤيته "الطريّة" معياراً للعاطفة ومنهم من يحسها أغانٍ تمثل الجمال المطلق ليس إلا. وكان الموقف المُتبَنى بالسماع والاستمتاع لجميل الأغنيات أكثر من ترديدها ومحاولة تقمص حال المغني ودوره ، هو واقع الحال السائد . كانت أغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ فوق النقد والتقليد ،تحيط بها هالة قدسية تجعل من كان سائراً في الشارع يقف عند سماعها ومن كان واقفاً يجلس . وذلك لأنهما جاءا إلى الساحة الفنية بنوع من الفن الراقي الذي ما زال مرتبطاً باسميهما، فقد غنت أم كلثوم للحب والكبرياء ورفعت قيمة الحب والعاطفة بين المحبين إلى أسمى الدرجات، وأسسا كل بمدرسته الخاصة لنوع من الأغاني تميّز برقي المعنى والفكرة إضافة إلى سمو العاطفة وصدقها. أما عن أغاني الحقيبة في فترة التسعينات فقد كانت بالنسبة لذلك الجيل هي مرحلة إعادة اكتشاف من جديد على حنجرة محمود عبد العزيز -كمثال- واحتاجت منا لجهد جهيد حتى ندرك معاني كلماتها المعقدة "خِلِّي العيش حرام"، "أضيع في هواك يا مهفهف حرام".ما زال الكثير من الشباب إلى الآن يحبّون سماع تلك الأغاني بأصوات مطربين آخرين دون أن يقلل ذلك من أهميتها في شيء. أصوات تستعير الزمان مثلما تستعير بعض هوامش المكان فما بقي من مناطق مثل "أبروف والجناين"يخفي كثيراً من الرموز الأصلية للمكان مثلما يخفي ملامح حسناوات ذلك الزمان "يا جميل يا جميل يا سادة" مما يحدث ربكة واضحة في مستويات التطريب التي من المفترض أن تشد السامع إلى التوغل لأقصى درجة ممكنة حتى يتاح له الإطلالة على آثار ما تحمله الأغنية من صفات باقية ورسوم.الآن أقصد "روتانا طرب" بعد أن أكون تذكرت أن ثمة غناءً جميلاً يجب أن يُسمع وبعد أن أكون عقدت العزم ونويت أن استمع لأم كلثوم ، وإذا بي استكثر ساعة الزمن التي سوف أقضيها مستمعة وهي أساساً مخصومة من 24 ساعة ليس فيها من النوم سوى القدر اليسير والبقية موزعة على أعباء الحياة اليومية دون الهوايات .ساعة كاملة دون أن يقطعها رنين هاتف أو تقفز إليها من قناة أخرى أخبار حروب وقتل وتعذيب .اختبار صعب ، ليس على مدى القدرة على التحمل لأن من يحب شيئاً لا يُفترض به أن يكون مجبراً على تحمله ولكنه اختبار على مدى الاستعداد للإحساس بالأشياء كما كانت عليه أو الخوف منها. تراءت لي تلك الصور بعد مرور سنوات على الإنهيار الكبير للذائقة الفنية ، وبعدما صار العثور على مستمع جيد ضرباً من المستحيلات لأن كل المستمعين ضموا أصواتهم عفوياً أو بوعي صريح إلى تلك الأصوات الناعقة .وتحول برنامج ما يطلبه المستمعون إلى ما يردده المقلدون. وما صارت إليه مفاصل الحياة العاطفية من كساح بسبب فوضى الإحساس والتعبير ، وعجز الاندماج فيما يوازي الروحي منه وليس المادي. عند هذه اللحظة تستدركنى الأغنية التي أستمع إليها الآن "غصن الرياض المايد" وهى تجدد اتصالها بعد غياب ، بنفس اللحن الذي أطلقت جناحيها على ضفتي صوت أبوداؤود حيناً من الدهر ليعود النغم من جديد ، يستفيق من الحلم ليأخذ حيزاً من تداعيات الأسئلة السابقة في محاولة لمعرفة سبب نضوب معين الإبداع ، وليضيء على الأقل شيئاً من مسالك الظنون التي تخصبت فيها أغانٍ بلا طعم ولا معنى .