في خضمّ الجدل الذي تشهده الساحة السياسية السودانية مؤخرًا حول إقرار د. النعمان عبدالحليم الأمين السياسي لحزب المؤتمر الوطني بما إرتكبه الأخير من أخطاء وإنتهاكات إبّان حكم الإنقاذ، وما تعرض له بعض منسوبي النظام والحزب من إجراءات قانونية بسبب ذلك، واعتذاره عن تلك الأخطاء والإنتهاكات، يبرز سؤالٌ جوهري :
هل يمكن للإقرار بالخطأ أو الجرم والاعتذار أن يُعدّ بديلاً عن المحاسبة؟ أم أنه خطوة تؤدي إليها؟
إن الإقرار والإعتذار ، في سياقهما الحقيقي والمألوف، لا يعنيان التنصّل من المسؤولية أو الالتفاف على المحاسبة والعقوبة، بل يمثلان في جوهرهما اعترافًا أخلاقيًا وسياسيًا بالخطأ، يمكن أن يكون مدخلًا لتصحيح المسار وبناء الثقة المفقودة بين الدولة والمجتمع. غير أنّ قيمة هذا الاعتراف تظلّ رهينة بمدى صدقه ومصداقية القائمين به، ومدى اتساقه مع مسار العدالة ومقتضياتها.
في تجارب العدالة الانتقالية حول العالم، من جنوب أفريقيا إلى رواندا وتشيلي، لم يُنظر إلى الاعتذار كتعويضٍ عن العقوبة، بل كخطوةٍ مكمّلة لها في سبيل إعادة بناء الضمير الجمعي وترميم النسيج الوطني. فالإقرار بالذنب لا يُفقد العدالة معناها، بل يمنحها بعدًا إنسانيًا أعمق حين يُقدَّم بروح صادقة ومسؤولة.
إنّ المعايير الموضوعية لقبول الإقرار والاعتذار لا تُقاس بمدى قسوة الفعل الإجرامي أو حجم المعاناة التي تكبّدها الضحايا، ولا بعمق الجراح التي خلّفها الحدث في النفوس، بل تُقاس بصدق الدوافع الأخلاقية التي تُحرّك الجاني إلى الاعتراف والإقرار، وبجدّيته في السعي نحو التكفير عن فعله. فجوهر التقييم لا يقوم على مقدار الألم الذي سبّبه، وإنما على النِيّة الحقيقية والغاية الصادقة التي يستهدفها من وراء الاعتذار، وما يقدّمه من أدلّة وشواهد تؤكد صدق اعترافه وتُبرهن على تحوّلٍ أخلاقي وإنساني في سلوكه وموقفه.
إنّ الإقرار بالذنب والاعتذار عنه يجب أن يتمّا وفق صيغٍ شكلية وموضوعية تتوافر فيها الجدية والمصداقية، وأن يعبّرا عن الإرادة الحقيقية للتنظيم وليس إرادة الأفراد. وهذا يقتضي أن يصدر الإقرار والاعتذار من المنصّة الإعلامية الرسمية للمؤتمر الوطني – على سبيل المثال – وأن تتبعهما حملة إعلامية منسّقة ومكثّفة يشارك فيها منسوبو التنظيم على مختلف المستويات، بغية الوصول إلى تصالح وطني يفضي إلى تسوية سياسية عادلة وشاملة.
أمّا بغير ذلك، فإنّ ما يُقال على لسان أفراد – كحديث النعمان في قناة الجزيرة – لا يعدو أن يكون سلوكًا شخصيًا أو أنبوب اختبار يفتقر إلى أبسط المقومات التي تُقنع السودانيين عامة، والقوى السياسية على وجه الخصوص، بالتعامل معه كمبادرة مؤسسية جادّة من المؤتمر الوطني.
إنّ المجتمع الذي يتطلع إلى العدالة لا يمكن أن يرفض الإعتذار الصادق، لكنه أيضًا لا يمكن أن يقبل به بديلاً عن المحاسبة. فالإقرار لا يكتمل معناه إلا حين يُتبع بمسؤولية (accountability) ومحاسبة، وحين تُردّ الحقوق إلى أصحابها وتُصان كرامتهم. عندها فقط، يمكن أن يصبح الاعتذار جسرًا للعبور نحو مصالحةٍ حقيقية وعدالةٍ مستدامة.
نتائج وآثار رفض الإعتراف والإعتذار :
أمّا إذا إفترضنا أن حزب المؤتمر الوطني قرر أن يقدم إعترافاً وإعتذاراً بالصيغة التي تستوفي شروط “الحقيقة والمصالحة” ، وبالصيغة المعتمدة التي تُطلب منه، فإنّ رفض قبول إعتراف الحزب واعتذاره، بتلك الصيغة، في هذه الحالة، ربما تكون له تداعيات سياسية وأخلاقية خطيرة وسالبة. فالإعتراف ، مهما تأخر، يمثل خطوة في مسار المراجعة والمساءلة، ورفضه بصورة مطلقة قد يُبقي جراح الماضي مفتوحةً ويُغلق أبواب المصالحة الوطنية، كما قد يُكرّس مناخ الشك والقطيعة بين القوى السياسية ويُضعف فرص الإنتقال إلى مرحلة جديدة تقوم على التوافق الإعتراف المتبادل بالمسؤولية.
وإذا كان قبول الإعتذار دون محاسبة قد يُفرغ العدالة من مضمونها، فإن التعسف في رفضه سيُبقي البلاد أسيرة منطق الإنتقام والتناحر. ولذلك فالمطلوب هو موقفٌ متوازن يُبقي الباب مفتوحًا أمام الإعتراف المؤسسي الجاد، بوصفه مدخلًا للإصلاح، دون أن يفرّط في حق المجتمع في العدالة والمساءلة.
ولا جدال أنّ الإشتطاط في رفض الإعتراف والإعتذار بالصيغة المعتمدة والمطلوبة ، لا يضرّ بالحزب المعتذر وحده، بل بالضحايا والمجتمع بأسره، لأنه يُفقد لحظة مراجعة النفس والندم قيمتها، ويُضعف فرص بناء ضمير وطني مشترك قادر على تجاوز مرارات الماضي. ذلك أن الإعتراف لا يُقدَّم من أجل الجناة فقط، بل من أجل الضحايا أيضًا، ومن أجل المستقبل الذي لا يمكن أن يُبنى على إنكار الأخطاء أو دفنها في الذاكرة.
في النهاية، إنّ الإقرار والإعتذار – إذا ما أُديّا بصدق – يمكن أن يشكّلا نقطة تحوّل تاريخية في مسار البلاد نحو العدالة والمصالحة. أما رفضهما جملةً وتفصيلًا بدافع الإقصاء أو العزل الكيدي ، فإنه لا يغيّب الماضي فحسب، بل يؤجّل المواجهة معه إلى أجلٍ غير معلوم، ويُبقي السودان عالقًا في دائرةٍ مغلقة من الإنكار والتجاذب السياسي الذي يعطّل مسيرة التحوّل الديمقراطي المنشود.
عبدالله أحمد عبدالرحمن،
محامٍ
14 أكتوبر 2025
abdalla.alkaab@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم