بوليفار: جدلية الثورة والدولة

 


 

 

aaliraqi.aa@gmail.com

شاهدت خلال عطلة العيد وما بعدها مسلسل بوليفار ، وهو دراما تاريخية من إنتاج كولومبي تحكي قصة رمز تحرير أمريكا اللاتينية سيمون بوليفار.
وسيمون بوليفار 1783- 1830 ظلت سيرته محل تجاذب المادحين الذين يرفعونه لدرجة القديس والقادحين الذين يعتقدون أنه مجرد طاغية وديكتاتور ، ولذا هدف المسلسل وفقا لمنتجيه لتقديم بوليفار كإنسان يحب ويكره ، يرضى ويغضب ، وفي ثنايا هذه المشاعر الإنسانية المتضاربة نتلمس قصة تحرير أمريكا اللاتينية من الاستعمار الاسباني.
ولد سيمون لأسرة من ملاك الأراضي الزراعية الكبيرة جوار كاراكاس - فنزويلا ، ونشأ محبا للحرية والانطلاق فلم ينتظم في فصول دراسية معروفة إلا على يد أحد المدرسين المثقفين بكراكاس والذي وضع البصمة الأولى في تكوين سيمون قائد التحرير وذلك أن هذا المدرس كان ناشطا في حركة التحرير وعبره تشرب بوليفار قيم الحرية والمساواة والتفكير النقدي.
يقدم المسلسل في سرد ممتع التطورات التي شكلت حياة سيمون بدءا من وفاة والدته ورعاية خاله للأسرة وتضارب المصالح والرهق اليومي ما بين الدراسة ومتابعة أخبار القمع للثوار الذي مارسته السلطات الاسبانية.
يصنف الاحتلال الاسباني بأنه الأطول والأقسى في التاريخ الوسيط والحديث ؛ وهو استعمار بدأ مباشرة عقب رحلات كولمبوس لاكتشاف الدنيا الجديدة منتصف القرن الخامس عشر حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر . في خلال هذه الفترة الطويلة نشأت مجموعات مصالح وارتباطات تجارية ضخمة بين الإقطاعيين / ملاك الأراضي والسلطات الاستعمارية ، وقد أبرز المسلسل هذه الشبكات وكيف تعاملت مع حركة التحرير عند إندلاعها وبعد إنتصارها.
إنتقل سيمون للدراسة في اسبانيا وهو إبن سبع عشر سنة ومنها زار فرنسا عدة مرات أبان حكم نابليون بونابرت ، وقد شكلت هذه المرحلة النقلة الثانية في تكوينه الفكري والثوري. يسهب المسلسل في رصد حياة بوليفار في اسبانيا ومحيط علاقاته وأساتذته وقصة زواجه من ماريا تريزا واصطحابها لموطنه في فنزويلا . شكلت الوفاة السريعة لزوجته المحطة الثالثة في حياته ؛ فبدلا من البقاء كمالك أرض ومستثمر ترك سيمون كل شئ وسافر لفرنسا متنقلا بين صوالينها الأدبية والفكرية ومراقبا للحركة الفكرية و نابليون الذي كان يبسط سلطاته الامبراطورية شيئا فشيئا.
خرج سيمون من فرنسا وهو عازم على بدء حركة تحرير أمريكا اللاتينية ، يرصد المسلسل بدايات الاتصالات بالنجاحات والاخفاقات وشبكات المناصرين والجواسيس والأعداء . وبعد عدة محاولات فاشلة ينجح بوليفار في بناء جيش التحرير وينطلق في معاركه مع أقوى جيوش العالم في ذلك الوقت.
طبق بوليفار مبادئ حرب العصابات لتجنب المواجهة المباشرة للجيش الاسباني الكبير جيد التسليح ، وقد كان واعيا للحظة التاريخية التي تعيشها حركة الاستعمار نهاية القرن الثامن عشر والتي من أبرز ملامحها صعود بريطانيا على حساب اسبانيا ، ولذا كثف من اتصالاته ببريطانيا طالبا الدعم والمساندة ، فأرسلت فيلقا بقيادة لواء من الجيش البريطاني وكثير من الأسلحة أعانت جيش التحرير في معاركه الحاسمة والتي انتهت بتحرير كولومبيا.
يؤكد المسلسل باستمرار على أن هدف بوليفار كان أمريكا لاتينية موحدة بعد طرد المستعمر ، ولذا ما أن دخل بوغوتا - كولومبيا حتى انتقل لتحرير فنزويلا وبيرو والاكوادور وذلك بجيش قوامه جنود من كل هذه الدول.
يعالج المسلسل بأسلوب درامي شيق قضايا فكرية وسياسية بالغة التعقيد ومن ذلك:
• اختبار العدالة الاجتماعية وإذارة الدولة: فبالرغم من أن العدالة الاجتماعية كانت واحدة من شعارات التحرير إلا أن الثوار عندما تحولوا لرجال دولة تصرفوا كما كان يتصرف أسلافهم بدعاوى الإدارة الجيدة وحسن التصرف في الموارد وإحكام الضبط والربط ؛ وهنا يبرز المسلسل حادثة همبرتو جندي جيش التحرير والذي لم يجد عملا ولا مأوى ولا محسنا في بوغوتا ومن شدة جوعه حاول سرقة بعض قطع الخبز من إمرأة فقبض عليه وحوكم بالسجن ثلاث سنوات . و نرى الجدل الذي دار بين دعاة الضبط والاحتكام للقانون ( وللمفارقة فهو قانون اسباني ) ويتزعمهم نائب الرئيس سانتدر ودعاة تقديم الرعاية والاحترام اللازم لأبطال التحرير.
• اختبار التمثيل : ففد كانت مؤسسات التشريع ( الكونغرس ) قائمة خلال فترة الاستعمار ويشكل ملاك الأراضي والاقطاعيبن النسبة الأكبر فيها ، وعندما نجحت الثورة استمرت هذه المؤسسات بدعوى تمثيلها للمجتمع المحلي !!!
ياختبار المؤسسية : وهذا كان واحدا من أعمق الخلافات بين بوليفار ونائبه ؛ فبينما يرى سانتدر الالتزام الصارم بالمؤسسات وترانبيتها ينتقد بوليفار هذا الأمر ويصفه بالتكلس البروقراطي.
• الجدل حول المؤسسات سواء الخدمة المدنية أو الكونغرس ، فالأولى شغلت بالأصدقاء والمحاسيب مع استبعاد كوادر جيش التحرير ، أما الثانية فظلت بيد الاقطاعيين وملاك الأراضي.
• جدل الأممية والقطرية : فبالرغم من أن بوليفار كان مشروعه أمريكا موحدة إلا أن البلدان التي حررها سرعان ما بدأت تتساقط بالانفصال من هذا الحلم ، وأول الذاهبين كانت بيرو ثم بوليفيا ( وهي أخذت اسمها من إسمه ) ثم فنزويلا والاكوادور ولم تبق إلا كولومبيا ، وقدم المسلسل بتقنيات درامية ممتازة دفوعات الأطراف وسيادة معسكر الدولة القطرية . ويشدك مشهد خروج بوليفار من بوغوتا بعد تنحيه في قلة من أنصاره تلاحقه صيحات الشعبويبن : ( أخرجوا من أرضنا ... لا نريد حروبكم ).
يبرز المسلسل التحولات التي تتم للثوار عند انتقالهم لبناء دولة ، وذلك أنهم يفاجأون بمطلوبات عاجلة لإدارة الشأن العام فإن هم انخرطوا فيها مباشرة دونما تبصر فارقوا مبادئهم وأحلامهم. وليس ذلك تخوينا بل وعيا لطبيعة جهاز الدولة ، فالدولة الحديثة تستبطن محمولا معرفيا يكره التقليدي / المحلي ويصنفه رديفا للتخلف ، ولذا توضع الخطط لتحويل التقليدي لحديث لا لدراسة وتوظيف التقليدي وادماجه كعنصر فاعل في النهضة .
وينجم عن هذا التحيز استبعاد هذه المجنمعات من الخطاب العام والإعلام فصورتها لا تشرف المجتمع الحديث!!!
تداعت هذه الخواطر العجلى عند مشاهدتي المسلسل وفي البال أمنية أن نرى عملا كهذا يوثق لسيرة أبطال التاريخ السوداني.

 

آراء