بين الهامش والصراع: دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق على مفترق طرق السلام (3-10)
lualdengchol72@gmail.com
بقلم: لوال كوال لوال
حين نذكر دارفور، فنحن لا نتحدث عن مجرد إقليم جغرافي في غرب السودان، بل عن فضاء تاريخي عميق ارتبط اسمه بالسلطنة التي قامت هناك منذ القرن السابع عشر وحتى ضمّها قسراً إلى السودان في مطلع القرن العشرين. هذه السلطنة، بما تمتلكه من مؤسسات سياسية وتنظيم اجتماعي متين، منحت دارفور شعوراً خاصاً بالهوية والذاتية. لم تكن دارفور أرضاً مهمشة بالمعنى التقليدي قبل الاستعمار، بل كانت كيانا قائماً بذاته يملك مؤسسات وقوانين وأعرافاً تنظم حياة سكانه، وتربطهم بعلاقات خارجية واسعة امتدت إلى شمال أفريقيا وغربها عبر طرق التجارة والحج. لكن بعد أن دمجها الاستعمار البريطاني في السودان الموحد، تحولت شيئاً فشيئاً إلى هامش سياسي واقتصادي لم تُمنح فيه مكانتها التي تستحقها. منذ الاستقلال، كان تعامل الخرطوم مع دارفور قائماً على فكرة السيطرة لا الشراكة. فبدلاً من أن يُنظر إلى الإقليم بوصفه مساهمًا أساسياً في الكيان السوداني، جرى التعامل معه كخزان بشري للجنود والعمال، ومورد اقتصادي للماشية والزراعة، دون أن يقابله استثمار حقيقي في الخدمات والتنمية. المدارس والمستشفيات نادرة، الطرق معطلة أو غير موجودة، والبنية التحتية ضعيفة. ومع غياب التنمية وتزايد الضغوط السكانية، ظهرت تناقضات داخلية في دارفور بين المزارعين والرعاة، وبين المجموعات المختلفة التي تنافست على الأرض والماء. هذه التناقضات لم تكن بالضرورة قاتلة في ذاتها، لكنها انفجرت حين غاب وجود الدولة كحكم عادل، وحين استُخدمت القبائل أداة في لعبة السياسة المركزية. في بداية الألفية الثالثة، دخلت دارفور مرحلة جديدة من الصراع حين حملت حركات متمردة السلاح ضد الحكومة المركزية، مطالبة بالعدالة السياسية والمشاركة في السلطة والثروة. ردت الدولة حينها بالقوة المفرطة، واستخدمت ميليشيات محلية عُرفت لاحقاً بالجنجويد، الأمر الذي أدخل الإقليم في دوامة من العنف الواسع النطاق. القرى أُحرقت، الآلاف قُتلوا، والملايين نزحوا إلى المعسكرات داخل وخارج السودان. تحولت دارفور إلى عنوان عالمي للأزمة الإنسانية، ووجد السودان نفسه تحت ضغوط دولية وصلت إلى حد مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس الأسبق عمر البشير وعدد من معاونيه. هذه التطورات وضعت الإقليم في قلب السياسة السودانية، لكنها للأسف لم تضع معاناة أهله في قلب الحلول الفعلية. في عمق الأزمة الدارفورية تكمن قضية الهوية. فدارفور، بتنوعها الإثني الكبير بين العرب وغير العرب، كانت دائماً مساحة للتعايش والتداخل الثقافي. غير أن سياسات الخرطوم القائمة على التفرقة والتسليح الانتقائي لمجموعات بعينها جعلت هذا التنوع يتحول إلى انقسام دموي. فكرة “من هو العربي ومن هو الإفريقي” لم تكن شديدة الحدة في دارفور قبل الثمانينيات، لكنها أصبحت لاحقاً سلاحاً سياسياً استُخدم لتفكيك النسيج الاجتماعي. وهكذا تمزق ما كان يمكن أن يكون نموذجاً للتعايش السوداني. رغم كل هذه المآسي، لا تزال دارفور تحمل إمكانات هائلة يمكن أن تكون ركيزة للتنمية في السودان. فهي تمتلك ثروة زراعية ضخمة في محاصيل مثل الذرة والدخن والفول السوداني، إضافة إلى الثروة الحيوانية التي تُعد الأكبر على مستوى البلاد. كما أن موقعها الجغرافي يجعلها حلقة وصل طبيعية مع غرب أفريقيا. غير أن هذه الإمكانات ستظل حبيسة العنف إن لم تُفتح أبواب الاستثمار والتنمية، ويُمنح أهل دارفور الحق في المشاركة العادلة في السلطة. إن النظر إلى دارفور اليوم لا يمكن أن يقتصر على كونها منطقة أزمة إنسانية، بل يجب أن تُقرأ باعتبارها رمزاً لاختلال العلاقة بين المركز والهامش في السودان. ما لم يُعالج هذا الاختلال عبر مشروع وطني شامل يضمن العدالة والمساواة، ستظل دارفور قابلة للاشتعال في أي لحظة. وربما هذا ما يجعلها مفتاحاً لفهم كل صراعات السودان، لأنها تمثل المرآة التي تعكس بوضوح طبيعة الخلل البنيوي في الدولة السودانية منذ نشأتها. هكذا نستطيع القول إن دارفور ليست مجرد ملف من ملفات الأزمة السودانية، بل هي عقدة مركزية في مسار بناء الدولة. إذا وُجد الحل العادل لدارفور، فقد يُفتح الطريق لحل شامل لبقية الأقاليم. وإذا تُركت دارفور في حالة نزيف دائم، فلن يعرف السودان كله الاستقرار. ومن هنا تأتي أهمية الانتقال في الحلقات القادمة للحديث عن جبال النوبة في جنوب كردفان، باعتبارها هي الأخرى نموذجاً لصراع الهوية والموارد في ظل التهميش الطويل.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم