بين الهامش والصراع: (8-10)

بين الهامش والصراع: دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق على مفترق طرق السلام (8-10)
lualdengchol72@gmail.com
بقلم: لوال كوال لوال

حين نتحدث عن دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، فإن أول ما يخطر على البال هو صور النزاعات والحروب والنزوح، لكن خلف هذه الصورة القاتمة تختبئ إمكانات اقتصادية هائلة كان يمكن أن تجعل هذه الأقاليم ركيزة أساسية في نهضة السودان. المفارقة المؤلمة أن المناطق التي شهدت أعنف الحروب هي نفسها التي تمتلك أكبر الموارد، ما يكشف بوضوح أن جوهر الأزمة السودانية ليس في غياب الثروة، بل في غياب الرؤية العادلة لتوزيعها واستغلالها. في دارفور، على سبيل المثال، تمتد الأراضي الزراعية الخصبة على مساحات واسعة، صالحة لزراعة الحبوب والسمسم والفول السوداني والقطن. كما أن دارفور غنية بالماشية، وتشكل مصدراً أساسياً للثروة الحيوانية في السودان. لكن بدلاً من أن تتحول هذه الثروة إلى قاعدة لصناعة غذائية وتصديرية متطورة، ظلت تُستنزف بطرق تقليدية وتُهدر بسبب غياب البنية التحتية والأسواق المنظمة. الحرب التي اندلعت هناك قطعت طرق التجارة، وأدت إلى نزوح المزارعين والرعاة، فانهار الاقتصاد المحلي رغم إمكاناته. أما جبال النوبة، فهي ليست فقط منطقة زراعية غنية بالذرة والدخن والفول السوداني، بل تحتضن معادن نادرة مثل الذهب والكروم والنحاس. هذه الثروات المعدنية وحدها كان يمكن أن تجعل المنطقة مركزاً للتعدين يدر دخلاً كبيراً على الدولة والمجتمع المحلي. لكن ما حدث هو أن الاستغلال تم غالباً عبر شركات ترتبط بالمركز أو برجال أعمال نافذين، دون أن ينعكس على حياة السكان. بل على العكس، أدت الأنشطة التعدينية غير المنظمة أحياناً إلى تدمير البيئة، وزادت من حدة التوترات بسبب غياب الشفافية في إدارة الموارد. النيل الأزرق بدوره يمثل ثروة زراعية لا تُقدّر بثمن. فالمياه متوفرة عبر النيل وروافده، والتربة خصبة، والإمكانات لزراعة محاصيل استراتيجية مثل الذرة والسمسم والقطن كبيرة. كما أن المنطقة تمتلك غابات غنية يمكن أن تكون قاعدة لصناعات خشبية وورقية. لكن هذه الإمكانات لم تُستثمر إلا في حدود ضيقة، وغالباً لمصلحة مجموعات من خارج المنطقة. يضاف إلى ذلك أن موقع النيل الأزرق على الحدود مع إثيوبيا يمنحه أهمية تجارية واستراتيجية كان يمكن أن تُستغل في بناء علاقات اقتصادية قوية عابرة للحدود، لكن الصراعات الأمنية جعلت هذا الموقع مصدر تهديد أكثر من كونه فرصة. ما تكشفه هذه الصورة أن المشكلة ليست في قلة الموارد، بل في سوء إدارتها. فالحكومات المركزية لم تنظر إلى هذه الأقاليم كمناطق بحاجة إلى تنمية متوازنة، بل تعاملت معها كمخزون للموارد الخام يُستنزف دون عائد عادل. هذا المنطق حوّل الثروة إلى لعنة، إذ أصبحت الموارد نفسها سبباً للصراع. في دارفور مثلاً، ارتبطت النزاعات على الأرض والمراعي بغياب سياسات تنموية عادلة. وفي جبال النوبة، زاد الصراع حول الذهب والمعادن من تعقيد الحرب. وفي النيل الأزرق، كان غياب المشاريع التنموية الكبرى سبباً في شعور السكان بالتهميش والحرمان. لكن الوجه الآخر لهذه المفارقة أن الحل يكمن في تحويل هذه الإمكانات إلى أدوات لبناء السلام. فالتنمية المتوازنة ليست مجرد رفاهية، بل هي شرط أساسي لإنهاء الحروب. إذا توفرت الإرادة السياسية، يمكن تحويل الزراعة في دارفور إلى سلة غذاء إقليمية، والتعدين في جبال النوبة إلى قطاع منظم يعود بالنفع على السكان والدولة، والزراعة في النيل الأزرق إلى ركيزة للاقتصاد الوطني. مثل هذه المشاريع يمكن أن تُحدث تغييراً جذرياً في علاقة المواطن بالدولة، لأنها تمنحه شعوراً بأن ثروات أرضه تعود عليه لا تُنهب منه. إن الحديث عن الإمكانات الاقتصادية في مناطق النزاع يقودنا إلى إدراك أن السودان لا يعاني من الفقر بقدر ما يعاني من سوء التوزيع والفساد والغياب الكامل للعدالة التنموية. فإذا ما تغيرت هذه المعادلة، يمكن أن تتحول دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق من بؤر توتر إلى محركات للتنمية والسلام. غير أن هذا التحول يتطلب رؤية وطنية جديدة، لا تنظر إلى هذه المناطق كأطراف بل كجزء من المركز الوطني نفسه. وفي ضوء هذا الفهم، تأتي الحلقة القادمة لتناقش فرص بناء السلام الشامل، وكيف يمكن أن تستفيد البلاد من هذه الإمكانات في إطار مشروع للعدالة الانتقالية والمصالحة وإعادة دمج المجتمعات، بحيث يُعاد ترميم الثقة بين المواطن والدولة، ويُعاد تعريف السودان على أسس جديدة.

عن لوال كوال لوال

لوال كوال لوال

شاهد أيضاً

حين تتاجر الانتهازية باسم منطقة ابيي: حكاية تسعة آلاف مقاتل من ورق!

lualdengchol72@gmail.comبقلم: لـوال كوال لـوالفي هذه الأيام التي تتناسل فيها الحروب وتضيع فيها الحقائق بين صوت …