تحولات النخبة العربية: من التبعية للغرب إلى فكر المقاومة والوحدة (1979–2025) (١-٣)
د. عمرو محمد عباس محجوب
القسم الأول: من 1979 إلى ما قبل طوفان الأقصى — زمن التبعية والاغتراب: سقوط اليقين الأمريكي في الوعي العربي
حين قال أنور السادات في أواخر السبعينيات إن “تسعة وتسعين في المئة من أوراق الحل في يد أمريكا”، لم يكن يعبّر عن موقفٍ شخصيٍّ بقدر ما كان يعلن عقيدة سياسية جديدة للنخب العربية الحاكمة والمثقفة في آنٍ واحد. فقد لحقها الانخراط في اتفاقية كامب ديفيد والتخلي عن المشروع الوطني العربي. كانت تلك الجملة المفتاحية بمثابة تحوّل ذهني عميق: نقل مركز الفعل من داخل الأمة إلى خارجها، ومن الإرادة الذاتية إلى الاعتماد على القوة الأمريكية بوصفها “الضامن الوحيد للاستقرار والسلام والتقدم”. ومنذ تلك اللحظة، بدأت مرحلة يمكن تسميتها بـ “عصر الوكالة الفكرية والسياسية”، حيث أصبحت النخب العربية، بدرجات مختلفة، تعبّر عن الغرب أكثر مما تعبّر عن مجتمعاتها.
بين عامي 1979 و1991 تبلورت منظومة نخبوية عربية جديدة نشأت في ظل ثلاثة تحولات كبرى: خروج مصر من الصراع العربي–الإسرائيلي بعد اتفاقية كامب ديفيد. انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما مثّلته من صدمة أيديولوجية للنظام العربي الرسمي. توسّع النفوذ الأمريكي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتحوّل العالم إلى نظام أحادي القطب.
في هذه الحقبة، تَكَوَّنت في العواصم العربية نخبٌ سياسية وإعلامية واقتصادية تدور في فلك واشنطن، تحت شعارات “السلام”، “الانفتاح”، و“الليبرالية الجديدة”. كانت النخبة ترى في نفسها “حلقة الوصل” بين شعوبها والعالم الحديث، لكنها في الحقيقة تحوّلت إلى وسيط تابع يروّج للسياسات الأمريكية في الاقتصاد والأمن والثقافة.
ترافق هذا التحول مع تفكك الفكرة القومية التي حكمت الوعي العربي منذ الخمسينيات. فبعد هزائم 1967 و1973، أصبح الخطاب السائد هو الواقعية السياسية بدل الحلم الوحدوي، والتنمية الاقتصادية بدل التحرر الوطني، والسلام بدل المقاومة.
تراجعت لغة “الأمة” لصالح لغة “الاستقرار”، وتحول المثقف العربي من حاملٍ لمشروع حضاري إلى موظف في مؤسسات الدولة أو الإعلام، يبرّر سياسات لم يصنعها هو.
عصر الوكالة الثقافية والسياسية (1990–2020): مع دخول التسعينيات، رسّخت الولايات المتحدة هيمنتها عبر ما يمكن تسميته بـ “العولمة السياسية والثقافية”.
لم تعد السيطرة أمريكية بالسلاح فقط، بل بالفكر والإعلام والتعليم والاقتصاد.
وظهرت في كل بلدٍ عربي طبقة جديدة من النخب: خبراء، أكاديميون، إعلاميون، ومستشارون تموَّل مؤسساتهم من الغرب أو من الأنظمة المتحالفة معه وانتشرت مراكز الأبحاث التي تكرّر خطاب “الاعتدال” و“الواقعية” و“الحوار الحضاري” كأدوات لنزع جوهر الصراع ووتَشكَّلت ثقافة تُقاس فيها شرعية النخبة بمدى قبولها في العواصم الغربية لا في الشارع العربي.
هكذا ولدت نخبة معولمة الهوية: تتحدث بلغة الغرب، تفكر بمنطقه، وتتبنى منظومته القيمية، دون أن تشعر بتناقض بين انتمائها العربي ومصدر شرعيتها الخارجي. تلك النخبة كانت ترى أن المشروع الغربي – رغم عيوبه – هو الطريق الوحيد إلى “الحداثة”، وأن مقاومة إسرائيل أو أمريكا عمل عبثي أو أيديولوجي لا يتفق مع منطق العصر.
المثقف بين الدولة والسوق: تحييد الوعي الشعبي: في تلك العقود، تراجع دور المثقف المستقلّ الذي يقاوم السلطة أو يستنهض الوعي الجمعي.
أصبحت الدولة الحديثة هي الراعي الحصري للثقافة، عبر وزارات الإعلام والتعليم والجوائز والمهرجانات.
ثم جاء السوق الإعلامي في الألفية الجديدة ليحوّل المثقفين إلى “صنّاع محتوى”، والكتّاب إلى “خبراء رأي”، لا إلى مفكرين. ونتيجة ذلك تم فُصل الوعي العربي عن قضاياه المركزية (فلسطين، الاستقلال، العدالة الاجتماعية) وتحوّلت النخبة إلى حارس للواقع القائم بدل أن تكون ناقدة له. حتى الإسلام السياسي، الذي ظهر كمشروع مقاوم في الثمانينيات، دخل بعد الربيع العربي في حالة تدجين وانقسام، بعضها بالسلطة وبعضها في المنافي، فانكسر التوازن بين المقاومة والحداثة. يمكن تلخيص المشهد قبل 2020 بعبارة واحدة “نخبة بلا مشروع، وشعوب بلا صوت، وعالم عربي بلا بوصلة.”
مع تطور مقدمات التحول فان الشروخ في جدار الهيمنة بدأ يتصدّع تدريجيًا مع الأزمات الكبرى: الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وما كشفه من وحشية المشروع الأمريكي. الأزمة المالية العالمية 2008 التي هزّت أسطورة الكفاءة الغربية. ثم موجة الربيع العربي 2011 التي أعادت إلى السطح فكرة الإرادة الشعبية والتحرر الذاتي، رغم ما أعقبها من قمع وانتكاسات.
في هذه المحطات ظهرت بوادر نخبة جديدة من الجيل الشاب: كتّاب، صحفيون، ناشطون، ومفكرون بدأوا يشككون في كل المسلّمات القديمة — في معنى “الاستقرار”، و”التحالف”، و”العقلانية السياسية” التي كانت تغلف الخضوع للغرب. كانت هذه النواة الفكرية الجديدة تبحث عن شرعية داخلية لا خارجية، وعن “مشروع حضاري مستقل”، وإن لم تمتلك بعد الأدوات السياسية الكاملة لتجسيده.
عشية طوفان الأقصى (2023) كان العالم العربي يعيش لحظة توهّم استقرار: أنظمة مطبّعة، نخب مؤمركة، إعلام مشغول بالاستهلاك، واقتصادات مربوطة بالدولار والنفط والسوق الغربية. لكن تحت السطح كانت تتراكم نذر الانفجار الحضاري فقد تهاوت أسطورة إسرائيل كقوة لا تُهزم، وتراجعت مكانة أمريكا في وعي الجماهير، بينما تصاعدت القوى الشرقية (الصين، روسيا، إيران) لتعرض نموذجًا جديدًا للندية.
كان ذلك إيذانًا بأن “99% من الحل” لم تعد بيد واشنطن، بل بدأت تتوزع بين الشعوب، والمقاومات، والتحالفات الجديدة. ومع اندلاع طوفان الأقصى، انهار آخر حائط نفسي يفصل النخب العربية عن شعوبها، وبدأت مرحلة جديدة من إعادة التشكل الفكري والسياسي.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم