تعيين الولاة المدنيين .. من الرابح و من الخاسر؟
رغم قدم تطبيق الحكم اللامركزي (المحلي) في السودان و الذي إبتدره المستعمر عام ١٩٥١م ، ثم تعمق أكثر في عام١٩٧١م في عهد الرئيس نميري، إلا أن النقلة النوعية الدستورية للحكم اللامركزي / الإتحادي تضمنها دستور ١٩٩٨م و الذي إنبثق عنه قانون ديوان الحكم الإتحادي ٢٠٠١م ، ثم ترسخ الحكم الإتحادي دستوريا بعد إتفاقية السلام الشامل بصدور دستور ٢٠٠٥م الذي نص على لا مركزية الحكم و منح كل ولاية سلطة وضع دستورها الولائي ، و قد دفعت الإيجابيات التي حققها الحكم الإتحادي إلى تعدد الولايات تلبية لرغبات المواطنين و تحقيقا لأهداف و مكاسب سياسية عدة للنظام المعزول.
بناءا على المكاسب التي حققها الحكم الإتحادي لمواطني الولايات ، فقد أصبح إقرار الحكم الإتحادي من البديهيات بعد إنتصار ثورة ديسمبر رغم أنها الثورة الأولى في تاريخ السودان التي تنبثق تحت مظلة الحكم الإتحادي، بل أصرت الثورة أن تمضي في مسيرة الحكم الإتحادي دون وضع إطار قانوني للحكم الإتحادي يكون من صنع الثورة، بخلاف ما نصت عليه الوثيقة الدستورية إجمالا حول لا مركزية الحكم ، و ذلك إعتمادا على الإرث الذي تحقق و التجربة التي ترسخت لما يقارب العشرين عاما منذ صدور قانون ديوان الحكم الإتحادي ، ريثما يصدر قانون الحكم الإتحادي لاحقا حيث لا يزال في طور مشروع قانون.
بناءا على ما ورد آنفا ، فإن الرابح الأكبر من تعيين الولاة المدنيين هي الثورة ذات نفسها بتحقيق شعار مدنية الحكم و تسريع خطى إزالة التمكين في الولايات و بالتالي تمدد و ترسيخ الثورة في الولايات .
الرابح الثاني هم جماهير الولايات و ذلك بتقصير الظل الإداري و مرونة التعامل مع هؤلاء الولاة في تحقيق التنمية و توفير الخدمات الضرورية اليومية للمواطنين بالولايات من صحة و تعليم و نقل ، خاصة أن هولاء الولاة تم إختيارهم من قبل الولايات و من أبنائها و بالتالي هم أدرى بكيفية إدارة شأن ولاياتهم و تلبية رغبات مواطنيها كل في ولايته .
أما الخاسر الأكبر و كنتيجة حتمية مقابلة للرابح الأكبر فهو النظام المعزول بفقدان آخر قلاعه ومراكزه التي ظل محتفظا بها في الولايات رغم مضي أكثر من عام على الثورة ، و ذلك حين تبدأ ماكينات الولايات في طي صحائف النظام المعزول و كنس آثاره في الولايات.
الخاسر الثاني كنتيجة محتملة لتبني الديمقراطية و إقرار الحكم اللامركزي الذي ترتب عليه تعيين الولاة المدنيين هو صراع الهامش و المركز الذي ورثناه منذ نيل الإستقلال و تدثرت به و حملت لواءه كل الحركات المسلحة التي ناهضت المركز في سبيل تحقيق القسمة العادلة للسلطة و الثروة ، و حيث أن الحكم اللامركزي يمنح الأقاليم/ الولايات السلطة الكاملة في إدارة شؤونها الإدارية و المالية بصفة أصيلة لا تفويضية من المركز ، و بما أن الحكومة المركزية / الإتحادية و سلطات الولايات يتم تشكيلها عبر الإنتخابات القومية و الولائية الحرة النزيهة، بالتالي ينقضي أي مسوغ للصراع بين المركز و الأقاليم حول السلطة و الثروة مما تنتفي معه حاجة الأقاليم لممارسة العنف و حمل السلاح ضد السلطة المركزية من أجل التوزيع العادل للسلطة و الثروة.
إستنادا إلى إنتفاء عوامل الصراع بين المركز و الهامش وفق ما سلف بيانه ، ينبغي على حركات الكفاح المسلح التي تفاوض المركز حاليا في ظل هذا الواقع الجديد الذي يجد تأييدا لم يحدث في تاريخ السودان من قبل ، أن تتدارك أمرها قبل أن يسحب البساط من تحت أقدامها ، ذلك أنه في حال نجاح الولاة المعينين في الولايات المعنية بمفاوضات جوبا في نيل ثقة الغالبية العظمى من جماهير تلك الولايات و إستقطاب تلك الجماهير للسلام بمخاطبة قضاياها الحياتية اليومية المتمثّلة في خدمات الصحة والتعليم و النقل و إحداث التنمية بتهيئة الظروف لعودة الحياة في تلك الولايات لسابق عهدها و معالجة قضايا الحواكير و الرعاة و المزارعين في دارفور ما يسهم في عودة النازحين بالداخل كمرحلة أولى إلى مناطقهم الأصلية و توفير الخدمات لهم و بالتالي إغلاق معسكرات اللجوء و النزوح بالداخل و إنهاء مظاهر الحرب و عدم الإستقرار ، عندها لن تجد حركات الكفاح المسلح ما يبرر مشروعيتها في تمثيل جماهير تلك الولايات لتفاوض المركز بإسم تلك الجماهير!!!
جدير بالذكر أن أثر تعيين الولاة المدنيين على المفاوضات التي تجري حاليا في جوبا بين الحكومة الإنتقالية و حركات الكفاح المسلح لم يكن غائبا عن تلك الحركات خاصة الدارفورية منها و على وجه أدق الحركات التي ليست لها مواقع تسيطر عليها ، فقد إشترطت تلك الحركات في إعلان جوبا تأجيل تعيين الولاة و المجلس التشريعي إلى ما بعد توقيع إتفاقية السلام ، و لكن لتجاوز توقيع إتفاقية السلام المدىالزمني المنصوص عليه في الوثيقة الدستورية و كذلك تجاوز كل القيود الزمنية العديدة التي تم تحديدها لاحقا لإكمال اتفاقية السلام ، و تحت تأثير الضغط الجماهيري على الحكومة الإنتقالية لإكمال هياكل السلطة الإنتقالية ، فقد رضخت الحكومة لتعيين الولاة حين وجدت نفسها في حل من إعلان جوبا كنتيجة لتجاوز آخر قيد زمني تم تحديده لتحقيق السلام قبل تعيين الولاة المدنيين، لذا تم تعيين الولاة رغم المعارضة التي أبداها فصيل مناوي و الإشتراطات التي أعلنتها الجبهة الثورية!!
هذا الواقع الجديد في صراع الهامش و المركز الذي أحدثته الثورة ، يحتم على حركات الكفاح المسلح التعجيل في إكمال إتفاقية السلام الشامل و التخلي عن إقتفاء خطى الحركة الشعبية لتحرير السودانبقيادة د. جون قرنق في إتفاقية نيفاشا ، و ذلك بعدم تبديد الوقت و الجهد في مفاوضات و نقاشات تفصيلية حول قسمة السلطة و الثروة ، فالسلطة سواءا الإتحادية أو الإقليمية/ الولائية تحسمها الإنتخابات الحرة النزيهة، كما أن الحرص على المشاركة بالسلطة المركزية بالتعيين خلال سني الفترة الإنتقالية لا يجدي كثيرا في ظل الحكم الإتحادي،ذلك أن السلطة الحقيقية ذات الجدوى بالنسبة للمطالب المناطقية ، بعد إقرار القسمة العادلة بين المركز و الولايات للموارد الإتحادية ، هي السلطة الولائية أكثر من السلطة الإتحادية!!
أما فيما يلي تفاصيل قسمة الثروة فالأمر في ظل الحكم الإتحادي أيضا لا يختلف كثيرا عن قسمة السلطة إذ ينتفي الصراع بالاتفاق على المعايير العادلة لتوزيع الثروة الإتحادية بين المركز و الأقاليم / الولايات ، هذا فضلا عن عدم وجود مورد مالي إتحادي ذي أهمية يبرر الصراع حوله كما كان الحال إبان اتفاقية نيفاشا حين كان السودان ينتج ما يزيد عن الخمسمائة الف برميل نفط يوميا ، أما الآن وبفعل الدمار الشامل الذي أحدثه النظام المعزول ، فالسودان يحمل " قرعته" يتسول العالم أعطوه أومنعوه في سبيل الوفاء بإحتياجاته الضرورية!!! و بالتالي ليس هناك حاليا ما يصطرع عليه ماليا بينالمركز و الولايات ، و من ثم الأفضل أن تكتفي الحركات الدارفورية بما تم الاتفاق على تخصيصه لدارفورمن دعم مالي من الحكومة الإتحادية خلال المدة التي تم الاتفاق عليها ، و إضافة الى ذلك يتم التركيزعلى الدعم الخارجي الذي سوف تسهم في توفيره بعثة الأمم المتحدة UNITAMS
دون إغفال لمسألة تحقيق العدالة الجنائية و جبر الضرر ، تبقى القضية الأهم لحركات الكفاح المسلح هي قضية إعادة الدمج و التسريح لقواتها و التي ستكون أيضا من ضمن صلاحيات UNITAMS . أما قضايا الحكم اللامركزي / الإتحادي الكبرى فهي تدخل في صميم صناعة الدستور المرتقب الذي يهم الوطن بكافة مواطنيه و بالتالي يقتضي مشاركة الجميع دون عزل لأحد أو فرض رأي من أحد.
ختاما ، نتمنى أن يتحقق السلام الشامل عاجلا ليعم الإستقرار ربوع الوطن و لينعم ضحايا الحرب من النازحين و اللاجئين داخليا و خارجيا بالعودة إلى مناطقهم الأصلية و ممارسة حياتهم الطبيعية التيحرموا منها سنين عددا و لاقوا ما لاقوا من عنت و مشقة، و لينعم الوطن الكبير بالرخاء و الرفاه .
عبد الرحيم خلف الله محمد علي
abdulrhim.khalaf@hotmail.com