بقلم: م. جعفر منصور حمد المجذوب
Gaafar.hamad@gmail.com
منذ قرون طويلة ظلّ المجتمع السوداني أسير ثقافة تقديس الساسة ورجال الدين، على الرغم من أخطائهم الجسيمة التي جرّت البلاد إلى الحروب والانقسامات والفقر. هذه الظاهرة – التي تمثل أحد “المسكوت عنه” في تاريخنا – بدأت مع دولة سنار في القرن السادس عشر وما زالت تتواصل حتى يومنا هذا، لتقف إلى جانب عوامل أخرى كحاجز يحول دون بناء دولة ديمقراطية حديثة قائمة على المساءلة والشفافية.
دولة سنار: البذرة الأولى للتحالف بين السلطة والدين
حين أسس الفونج سلطنتهم في سنار، أدركوا أن شرعيتهم السياسية تحتاج إلى غطاء ديني، فتحالفوا مع الطرق الصوفية والفقهاء. فأصبح السلطان يُنظر إليه كـ”ظل الله في الأرض”، بينما نُظر إلى الشيوخ بوصفهم أصحاب بركة لا يُسألون عما يفعلون. ورغم ما ارتكبته السلطة من مظالم، ظلّ انتقادها يعد خروجًا على الدين والسلطان معًا.
المهدية: السياسة والدين في جسد واحد
مع الثورة المهدية في القرن التاسع عشر، امتزج الدين بالسياسة في جسد واحد. فالمهدي لم يقدّم نفسه قائدًا سياسيًا وزعيمًا دينيًا فحسب بل المهدى المنتظرً، مما أضفى على قراراته هالة من القداسة. وحتى حين أسهمت الأخطاء العسكرية والتنظيمية في سقوط الدولة المهدية، ظلّ خطاب “المهدي المنتظر” وخليفته حاضرًا، يغطي على النقد الموضوعي والعقلاني.
الاستقلال والطائفية: القداسة في ثوب جديد
بعد الاستعمار الثنائي، ورثت بيوت الطائفية الكبرى – الأنصار والختمية – النفوذ السياسي، وأصبحت الديمقراطية الناشئة أسيرة لهذه البيوت. فالزعيم السياسي عند أتباعه “سيد” لا تجوز مساءلته. ولم تقف الظاهرة عند الطائفية وحدها، بل تسللت إلى بقية الأحزاب ومختلف جوانب الحياة، حتى صارت كأنها إرثًا جينيًا في العقول. وهكذا ظلّ السياسي يعيد إنتاج الأزمات نفسها، دون أن يخسر مكانته أو مكانة طائفته، رغم الإخفاق المتكرر في إدارة الدولة.
الإسلام السياسي: الشرعية عبر الدين
مع صعود الحركة الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي، وبلوغها الحكم بانقلاب 1989، بلغت ثقافة التقديس ذروتها. فقد استُخدم الدين غطاءً لحماية نظام قمعي غارق في الفساد. الشيخ حسن الترابي مثلًا ظل مرجعًا فكريًا ودينيًا وسياسيًا لعقود، رغم أن سياساته ساهمت في تقسيم البلاد وإشعال الحروب، وصولًا إلى انفصال الجنوب عام 2011. ومع كل ذلك، كان انتقاده يقابل بالتكفير أو التخوين، مما عطّل أي محاولة لمحاسبة حقيقية.
الحاضر: تكرار الأخطاء القديمة
رغم ثورات 1964 و1985، ثم ثورة ديسمبر ، فإن جوهر المشكلة ما زال قائمًا: تقديس الأفراد. فجزء كبير من المجتمع ما زال يتعامل مع السياسيين ورجال الدين كأنهم فوق القانون، ويعامل زعماء القبائل والطوائف وكأنهم أرباب نفوذ مطلق، فيما يُنظر إلى رجل الدين كوسيط مع الله، حتى وإن تورط في الفساد أو ساند الاستبداد.
النتائج الكارثية
تقديس الساسة ورجال الدين جرّ على السودان نتائج مدمرة، منها:
- غياب المساءلة: فلا أحد يحاسب الزعماء على قراراتهم الكارثية.
- استمرار الفشل: نفس الوجوه تعود رغم تجاربها الفاشلة.
- إجهاض الديمقراطية: لأن الزعيم يُرى كـ”سيد” لا كموظف عام.
- تسييس الدين: مما أفقد الدين دوره الروحي والأخلاقي وحوله إلى أداة للسلطة.
نحو ثقافة جديدة
اليوم، يقف المجتمع السوداني أمام خيار تاريخي: إما إعادة إنتاج أخطاء الماضي، أو تأسيس ثقافة جديدة تقوم على معاملة السياسي كموظف عام، ورجل الدين كصاحب رأي بشري لا قداسة له. التجارب العالمية أثبتت أن التقدم لا يتحقق إلا بالمساءلة، الشفافية، وفصل الدين عن السياسة.
إن تقديس الأفراد كان لعقود طويلة من المسكوت عنه في حياتنا السياسية، لكن معالجة ذلك لم تعد ترفًا فكريًا، بل أصبحت ضرورة وطنية. فإما أن نكسر دائرة القداسة الزائفة، أو نبقى أسرى تاريخ يعيد إنتاج نفسه جيلًا بعد جيل.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم