أحمـد المعتصــم: أديبٌ مُنقّـبٌ وسـفيرٌ مثابـر

 


 

 

أقرب إلى القلبِ

(1)
لمَّـا حدّـثني صديقي العزيز البروف محمد مهدي بشرى عن حلول ذكرى رحيل صديقنا الأديب السفير أحمد المعتصم الشيخ في فبراير 2023م . جلسنا معا وبينــنا كـريمــة الرّاحــل وتفاكرتا عن الملامح التي سنسعى لإجلائـها في ذكرى ذلك الرحيل. على أن ظروفا طرأت حدت بنا لتأجيل الاحتفاء بتلك الذكرى خاصة وأن رحيل السفير أحمد كان قد تزامن مع اشتداد الجائحة ، فحرم أكثرنا من المشاركة في تشييعه. لكن كان القدر لنا بالمرصاد، إذ التأجيل أفضى بنا إلى الأيام الصعبة التي شهدت بداية الحرب المدمّرة .
برغم الظرف القاهر الذي تعيشه البلاد ، وهي تكاد تشرف على فناء وانهيار، لكن لا أجد حرجاً في أن نتنفّـس قليـلاً لنتـذكر كبار الرّاحليـن، ونقول ما يرضي الضمائر في تذكّر مناقبهم ، فقد كانوا هم من ثمرات هذه البلاد الآيلة إلى سـقوط، وبذلوا في حيــاتهم وســـع ما بأيديهم للحفاظ عليه وحماية تاريخه.
إن أحمد المعتصم الشيخ هو واحد من هؤلاء. .

(2)
توافـقـنا - بروف مهــدي بشرى وأنا وكريمة الرّاحل- أن أتولّـى الحــديث في ذلـك الاحـتـفاء الافتـراضي، عن الجانب الذي عرفت فـيه الرّاحل أحمد وعن دبلوماسيته ، بحكـم زمالتي الحميمة ضمن دفعـة واحدة تدرّجـنا في درجـاتها حتى بلغــنا درجــة السّـفير. مالَ صديقي البروف مهدي بشــرى لأن يتناول سـواي منجزات الرّاحل العــزيز فـي الأدب والتاريخ والترجـمة.
لكنّي رأيتُ ثمّة علاقة لازمة بين السّفارة والترجمة ، بل والأدب عموما. أتذكر إطلالة للرّاحـل علي المــك في منتصف سنوات الثمانيـنات من القــرن الماضي، على لفـيـفٍ مــن الدبلوماسيين ، حين دعاه المغفـور له السفيرالأديب عبد الهادي الصّـديق، لـنـدوة في وزارة الخارجية. تساءَل الرّاحل علي المــك في حديثه ذلك اليـوم، عن الصلة بيـن صنعة التـرجمة وصنيع السّـفارة . لكنّهُ قبل أن يُجيب، آثر أن ينقل عن الرّاحل جمال محمد أحمد، قوله، وهو يُحدّث عن أسلوبه في الترجمة :
(يحملني هذا الذي أقولُ عن أسـلوبي في الترجمة إلى الظنِّ بأنّ المُترجم والسَّـفير كليهما ، إنْ كبتْ حرية اختياره ، فقـدَ طريقه لمبتغاه. مقام الرّجلين في السّـفارة والترجمة ، أوسع قدرة مِن حرية اختيار الوسائل . سيرميني البعضُ بالإسرافِ لأني أقابل بين مقـامِ السّـفير وهو كبير ذو خطر وشأن، ومقام المُترجم، وأكثر الناس لا يعرفون لعلمه مقاما ذا ذكر. . )
ثم يمضي علي المك ليقول معلقا ومضيفاً على قول الرّاحل جمال:

(. .إنّ المُترجم سـفيرٌ . سَـفيرٌ هو من طرازٍ آخر . هو مبعوثُنا إلى اللغاتِ الأُخر. يعود إلينا بجواهرِها وبلآلئها الباهـرات . . ) . انتهى قول علي المك ، وهو كلام مُبين ، وقولٌ سديد دون شك. .)

(3 )
حيـنَ اطلعـتُ على السِّـفر الأكاديمي الذي أنجـزه الأمريكـي "سـبولدينق" منذ أعــوام الثمانينات، وأخرجه مُتَرجَماً إلى العربية صــديقنا الباحث المنقّب الدؤوب د.أحمد المعتـصــم الشــيخ، أيقـنـتُ صواب ما ذهــب إليه المُعـلـمان الكبيران جـمال محمد أحمد وعلـي الـمــك.
إنّ أحـمد المعتصم لهُـوَ المترجــمٌ المُنـقـب والأديب النحــرير، مثلما هو الدبلوماسي المُثابر والسّـفيـرٌ القديـــر.
عرفتُ أحمدَ وقتَ أن جمعتنا وزارة الثقافة والإعلام أوائل سنوات السّبعينات من القـرن الماضي، فقد سبقني إليها وجئنا بعده إلى مصلحة الثقافة التي رعاها صاحب الريشة العبقرية ابراهــيم الصـلحي ، ولا تســألني إلى أين انتهى الأمر بتلـك المصلحة في سنوات التســعينات وما بعدها، في تلكم السنوات الكالحة السّـواد. .
كنتُ أقول إنّي عرفتُ الرّاحل أحمد، وعرفت شـغفه بالأكاديميات كما بالأدب ، وما أشبع نهمه فيهما في تلكم المنعطفات الدبلوماسية التي عركها لســــنوات طــوال وهي التي جمعــتـنا أغلـب عُـمـرينـا معـاً فــي وزارة الخارجـية. حـقّــق الرّاحــل أحـمــد ودرَسَ وتـدارسَ وألّــف وكتـبَ وترجــمَ، فـنال من الدرجات العلمية فـي الترجمة وفي التاريخ ، فانقـادت إلـيه درجـــة الدكتـوراة عن استـحقاقٍ وعن جــدارة. لكـن من غرائب الأمــور الإدارية فـي وزرة الخارجية، أنّ صديقنا أحمـد المعتصــم لم تلتفت إلى مقــدراته في الأدب والتـاريخ والترجــمــة، وزارة الدبلوماسية، تلك التـي عرفت دبلوماسيين وأدبــاء كبــار ذوي صيت، مثــل محمد عثمان يس وجمال محمد أحمد وصلاح أحمد ابراهيم وصلاح أخمد وعبدالهادي الصّــديق دار صلـيــح وأضرابهم. وإنّي أحدثكم في هذا المقام عـمّا قال كلٌّ مِن جـمال وعلـي المــك عن عـلائــق الترجمات بالسّفارات، وكيفَ أنّ المُترجـمَ هـوَ ســـفيـرٌ بيـن اللغـات، لا يقل سموّاً عن سفراء السفارات. .

(4)
ليـسَ ذلك وحده الذي عاناه صديقي الرّاحل أحمـد ، والذي ظلَّ ينتقل من سفارة سودانية إلى أخرى، وما غَـنَم خلال تسـفاره ذاك ، إلا مخطــوطاته الأدبيــة وترجمــاته، يحتـقـبـهــا معه فــي جـولات مَهمّـاته الدبلوماسـية بين سـفارة وأخرى، من بلجيــكا إلى أديس وإلى بكين. لكنْي عاصرتُ كذلـك، كيفَ عانَى صــديقي أحمد من عسْـفٍ ومضــايقاتٍ ومكـايدات فــوق التحمّل من بعض قـيادات تولتْ أمـر وزارة الخارجية في زمان غريب الملامح وتغـوّلـت على إدارتها في تلك السّــنوات الكالحة السّواد . قصيروا البصـر والبصيرة منهم ، وأكثرهـم لــم يتسع نظره ليـدرك أنّ الدّبلوماسية، هي في طبيعتها تواصلٌ مع الآخر، لا انعزال عـنه، وأنّها جهــدُ توافُـقٍ لا رسـاليةُ اختــلاف. وما سـلم المهنيون من الدبلوماسيين من شــيءٍ من حسد لحق بهم ممّن حولهم وممن لم يكونوا أصلاء في تلكـم المهنة الحسّـاسة. . ما ذكّــرني ذلك إلا مـا نُقـل عن العــلامة الرّاحــل عبدالله الطيّـب- وهو من الأساتذة الأجلاء الذين علموا الحرف والعلم لصديقنا الراحل ابن المعتصم، كون الحسد خصلة من الخصال التي شاعت ولا تمتدح عند الكثير من السودانيين ، إذ الحسـد وهو الشــرّ الذي خصّص له ســبحانه وتعــالى آيات بيّنات جـليّات ونهـانا عنـه. .

(5)
لمستُ شيئاً من ذلك قد عرض لصديقي الرّاحل في عمله الدؤوب والمخلص في وزارة الدبلوماسية ، فرأيت من تعـمّــد الإنقـاص من أقـدار الناس ومن بعض زملائه الذين استوطن الحسد أفــئــدتهم ليخصّوا ابن المعتصم بشيءٍّ كثـيـر منه. حزنتُ إذ رأيت أحمـد لا يأبه لما تقصَّـده بشـرٍّ من أناس في قـيادة الوزارة ، غير أنه واجه ذلك العـنـاء والعنـت، بما مـلّـكــه الـله مــن خصـلتـيـن، هـُمـا الـتـواضـع فـي إبـاء، والسّـخرية فــي مَحـبّـة، فما حمل ضغينة على مَن ظلـمه ، أو سعى لعونٍ في ذلك من شقيقه الأكبر وهوســفير ذو مكـانة في وزارة الدبلوماسية، لكن قــد كـفـاهُ ابتسـامُهُ السّـاخر على مَن جهل قـدره، فنـام غرير العين هانيها كنوم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، في الشعر الذي نظمه فيه أمير الشعراء . .
لم يبلغ أحـمـد درجة السّـفير ليدير علاقات السودان في إحدى سفارات البلاد، وقـد رأى الناس الأقـلَّ قـدرة يتولونها قـبـله، والأكثر جهلاً بالـلغــات من دبلوماسـيين جاء بهـم التمكيــن الباطل، يعملون في البلدان الأجنبية برفقتهم مترجمون يعينونهم. وكلنا نعرف ما لأحمـد من حِـذقٍ ومن حِنكةٍ في الدبلوماسية، كما في اللغات وقـد نال درجــة أكاديمية عالية في الترجمة. فإنْ بلغ أحمد درجة السفير وهو يســتحقها، لكان ذلك كســباً للســودان قبل أن يكون كـسـباً شــخصياً لـه، لكن شــاء القـدر أمراً صيّـرَ من أحمــد المعتصم ســـفيراً بالتوصيف الــذي ارتضـاهُ الرّاحلان الجليــلان : جمـال وعلى المـك، فـقـد صـــار أحمد ســـفيـراً بين اللغــات، ورســولاً من رسل الحضـارة. لـذا تجـدني أفارق قول معلمنا جمال محمد أحمد، كون مقـام السّـفير كبيـراً ذا خطرٍ وشأن، وأكثر الناس لا يعرفون لعـلـم المترجـم مقاماً ذا ذكـر، فأقـول هنا لـقـد عرفتنا عند أحمـد أن مقدراته الأكاديمية والأدبيـة، منحته من العظمة والتقدير بأكثر مما كانت سـتمنحه له الـوظيـفة الدبلوماسـية، وإن استحقها وحجبها عنه قصيروا البصر والبصيرة. . .
رحـم الله السـفير الرّاحل أحمـد المعتصم الشيخ. .
جمال محمد ابراهيم
فبراير 2023

 

آراء