تهمة إستخدام الأسلحة الكيميائية.. منطلق القوة والفتوة

كتب الأستاذ الجامعي د. محمد عبد الحميد
في مشهد درامي يصلح أن يكون جزء مِن فليمٍ ٍ سينمائيٍ عَرَضْ الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على ضيفه الجنوب أفريقي سيريل راموفوزا صوراً ومشاهد فيديو قال أنها (مَقاتِل للبيض الذين تم إغتيالهم بعد مصادرة أراضيهم). بُعَيد ذلك اللقاء الدرامي في المكتب البيضاوي أكدت وسائل إعلام متعددة أن الصور التي عرضها ترمب لم تكن في جنوب أفريقيا، وإنما في الكونغو الديمقراطية. فمن بين الذين ذهبوا لهذا المنحى كاتب العمود الصحفي بمجلة الفورين بوليسي Foreign Policy هاورد دبليو فرنش Howard W. French في مقال له بالمجلة المرموقة بتاريخ ٢٣ مايو ٢٠٢٥م عنوانه
(We Can No longer Dismiss Trump’s Blatant Racism الذى يمكن ترجمته
لم يعد بوسعنا تجاهل عنصرية ترمب الصارخة)
بغض النظر عما يستبطنه عنوان المقال من إيحاء بموقف ترمب العنصري تجاه أفريقيا والأفارقة، إلا أن المقال قد وصل لخلاصة مهمة بأن ترمب تجاوز حد الصلف والغرور للتزوير وتشويه الحقائق.
بذات القدر، وفي نفس الإتجاه التخيلي لدراما المواقف السياسية لا يمكن لأي شخص ومهما أُوتي من سلطان الأخيلة التي تنفذ لأقطار السماوات و الأرض أن يتصور أن يَعرِض ترمب على نتنياهو صوراً لضحايا فلسطينيين لقوا حتفهم تحت وابل القصف الاسرائيلي على خيمهم ولو من قبيل المجاملة والعزاء لأرواح الأطفال الذين لقوا حتفهم جراء القصف الاسرائيلي، فضلاً عن الذين قضوا بفعل الخناق الذي أطبق على منازع الحياة في غزة بالجوع والمسغبة.
كان رئيس جنوب أفريقيا راموفزا يتحدث بلغة دبلوماسية رصينة ومهذبة لم تخلُ من تلميحات ذكية ومفرطة السخرية تؤكد عمق فهمه لتعقيدات العلاقات الدولية وتفضح العقلية المركنتالية للرئيس الأمريكي حينما قال له (ليس لدي طائرة لأهديها لك). كما أكد بذات اللهجة الكارزمية الآسرة أن جنوب أفريقيا في حاجة ماسة لمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في القضاء على الجريمة Criminality والتي لا تقع على البيض فحسب، وإنما يعاني منها مجتمع جنوب أفريقيا بأسره.
في ذات أسبوع الأحداث العاصفة أصدرت الإدارة الأمريكية قرارا بفرض عقوبات على الجيش السوداني بدعوى إستخدامه للسلاح الكيميائي… وقد ثارت على الأثر نقاشات مطولة وحامية وسط السودانيين حول هذا القرار… وقد كان من اللافت في القرار أنه موروث من عهد إدارة بايدن، التي لم يترك ترمب أي فرصة بمناسبة وبدون مناسبة إلا وأمطرها بالنقد والتقريع المرير، مؤكدا أنه لو كان في الحكم لما حدثت تلك الأحداث وتمزقت أركان الكون بالحروب، ويقصد دائما الحرب الروسية – الأوكرانية وأحداث السابع من أكتوبر في إسرائيل، بينما يغض الطرف تماماً عن المحرقة التي تجري في السودان.
على عموم الأمر، يمكن الزعم بأن الإدارة الأمريكية الحالية أو المنصرفة لم تعطِ أي أدلة أو شواهد على الإتهام بأن الجيش السوداني قد إستخدام الأسلحة الكيميائية في حربه الراهنة ضد قوات الدعم السريع. فقد تركتْ أفق النقاش والسجال يدور حول مواقف مسبقة طبقاً لحالة الإنقسام التي إعترت الوسط السياسي السوداني منذ إندلاع الحرب. وأدخلت الخلق في أتون متجدد من الإتهام والنفي وهو توجه خبيث في ذاته.. فتوجيه الإتهامات بإستخدام الأسلحة الكيميائية على خطورته، لا يتم تقريره بهذه الصورة الفجة والإدعاءات المرسلة في الهواء، وإنما يقوم على شواهد موضوعية تعرض نوع الأسلحة وأثرها المترتب على البشر والبيئة، ودرجات الإستخدام من تكرار و نطاقات جغرافية، وأنواع الأسلحة.. فالاسلحة الكيميائية يمكن أن تشتمل على طيف واسع من المواد حتى المشتقات البترولية العادية والغازات التي تُستخدم عادة في السلم يمكن أن يكون لها إستخدام مزدوج في تصنيع وإنتاج الأسلحة الكيميائية بغرض إيقاع الأذى والقتل. هذا فضلاً عما تورده منظمة حظر الأسلحة الكيميائية OPCW من تقارير وهي منظمة ذات صبغة مستقلة يمكن أن يعتد برأيها في موضوعات تتصل بمجال عملها المباشر.
الواضح من سياق مجريات الأحداث أن أمريكا لم تكلف نفسها عناء تقديم تلك الأدلة في إتهامات خطيرة بمستوى إستخدام أسلحة تصنف ضمن أسلحة الدمار الشامل.. كما أنه يمكن إستدعاء الذاكرة في هذا الشأن لحدثين مهمين في السياق الكلي للتحليل للوصول لما يمكن أن يطمئن له الضمير الحي بأن إدعاءات أمريكا في هذا الشأن تقع ضمن مما لا يُعتد به إنسانياً وأخلاقياً وهما حادثتي قصف مصنع الشفاء في الخرطوم بحري على عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون. والإتهامات الجوفاء والكذوبة التي ساقها بكل ثقة كولن باول وزير خارجية أمريكا الأسبق في إدارة بوش الجمهوري أمام مجلس الأمن الدولي أن العراق يمتلك أسلحة نووية، ومن ثم تم الإعتداء على كلا البلدين من منطلق القوة والفتوة.
د محمد عبد الحميد

شاهد أيضاً

مرآة ذهنيتي على بندقية الوطن: الجيش السوداني في معادلة الشرق الأوسط

زهير عثمان zuhair.osman@aol.com هذه مقاربة فيها الكثير من الخيال المجنون، الذي ساقني إليه التأمل العميق …