الشعب هناك في جمهورية (الواق الواق) في كوكب زحل لديه مؤسسات شبيهه لمؤسسات جمهوريات الأرض! لكن ما حير الزائرين من كوكب الأرض إلي جمهورية (الواق الواق) وأدهشهم مما جعلهم يرفعون حواجبهم ويفغرون أفواههم وتتسع حدقات عيونهم إنهم وجدوا من أول يوم أن ما يجري هناك يكاد يكون صورة طبق الأصل لما يجري في كوكب الأرض! كانوا يتخيلون أنهم في معايشتهم لشعب (الواق واق) سيصيرون مثلهم بعد أربعين يوما، وفقا للمثل العام السائد لديهم (من عاشر قوما أربعين يوما صار منهم!)، فقد كذب أو في أسلوب أكثر تهذيبا لم يثبت شعب (الواق واق) صحة هذا المثل! بل دهش الزوار أكثر، فقد بدا لهم أنهم رأوا هؤلاء الناس من قبل، ويشبهونهم أيضا ( يخلق من الشبه أربعين) ، بل هنا في (الواق واق) (يخلق من الشبه ستين أو سبعين) لكثرتهم! وحتي إنهم يحملون أسماء مماثلة لأسمائهم.
ليس هذا فحسب، بل وجدوا حياتهم ومعيشتهم مطابقة لحياة بعض سكان الأرض! لديهم قري ومدن، عشائر وقبائل، يتزاوجون ويتوالدون، يزرعون ويرعون الماشية، أسواق ومؤسسات، أمنية عسكرية إستخبارات وشرطة، وعدلية قضاء ونيابة، والغريبة وجدوا عندهم (9 طويلة ) وتساءلوا هل يا تري هي مثل التي عندهم تماما؟! كما لديهم مؤسسات مدنية من منظمات وتعليم وصحة. وإن بلدهم شاسعة واسعة وبين أهلها خلافات وحروب لم يسلم منها أي جزء من القبل الأربعة أو الستة وحتي وسطها الآن يسير في ذات الإتجاه أو سار! والأكثر غرابة أنهم وجدوا شوارعهم مليئة بالبشر يتحلقون دوائر دوائر! ولما إقتربوا يستطلعون عرفوا أنهم يتحلقون حول (ستات الشاي ) وسألوا إن كن يعملن بتصاديق من سلطات دولة (الواق واق) أم لا ! إقترب أحد الزوار (الجيلي) من إحدي الحلقات. طلب قهوة ولدهشته كانت بذات النكهة التي كان يتناولها في بلده! هل لديهم بن حبشي أيضا يا تري! تعرف الجيلي علي أحد السكان ( عزام ) ونمت بينهما صداقة .
في إحدي جلساتهم المعتادة لشرب القهوة والشاي (والذي بدا إنه من الصنف الكيني الممتاز!)، حكي له عزام قصة حدثت في مدينتهم عاصمة جمهورية (الواق واق) . قال عزام:
“في إحدى حاميات القوات المسلحة في العاصمة تم تعيين طفل صبي (الغالي) يبلغ من العمر عشر سنوات في وظيفة تسمى (نصف تعيين) ليعمل خادما منزليا أو مراسلة في المكاتب. وقعت حادثة سرقة في متجر التعاون بالحامية حيث فقدت كمية كبيرة من قماش (الدمورية). وثارت شبهات حول الغالي الذي يبدو أنه كان يتردد على المتجر ليشتري الأغراض التي تطلبها الأسر التي كان يعمل في خدمتها. وبناء على الإشتباه خضع الغالي للحبس والاستجواب في وحدة الإستخبارات”.
رئيس الوحدة المقدم (عمر) مخاطبا فريقه بالوحدة: يبدو إنو الولد (الغالي) هو من قام بسحب نسخة من مفتاح التعاون، واشترك مع آخرين لسرقة (الدمورية)، لأنه لوحده لا يستطيع حملها.
المتحري (يحي): حتي الآن سعادتك الولد رافض يعترف بأي شئ ويقول إنه فعلا يدخل التعاون كثيرا وتلك طبيعة عمله، لكنه لا يعرف شيئا عن السرقة!
المقدم عمر: يحتاج الأمر لأستجواب خاص (في ذهنه التعذيب) يقوم به شخص خاص (وإتجه بناظريه نحو حسن)! المهمة هذه أوكلتها إليك يا حسن (الغول) فأنت أفضل من يقوم بها! النوع اللي زي دا لا ينفع معهم الكلام! لا بد من فعل ضاغط!
الغول: حاضر سعادتك.
حسن الغول شخص ضخم الجسم، طويل القامة، مدمن حشيش، سادي يتلذذ ويسعد بتعذيب من يوكل إليه للتحري معه، وعيناه دائما تكسوها الحمرة وتبعث الخوف فيمن يستجوبهم، ودائما ما يحمل معه بعض معداته من العصي والسياط وغيرها من أدوات الترهيب والتهديد والتعذيب! كما إن كرشه الممتدة أمامه توحي كأنه جاء ليأكل ضحاياه لا ليتحري معهم! فيبعث ذلك مزيدا من الخوف والرعب فيهم! وخاصة الأطفال!
دخل الغول إلي الغرفة التي حبس فيها الغالي، والذي جلس متألما حزينا مرهقا علي الأرض علي لحاف خفيف ممزق وبجواره صحن بائس به طعام كاشف غريب اللون لا يمكنك توصيفه أو تحديد نوعه، ولذلك فقد جذب إليه فريق نشط من الذباب! ويبدو إن يد الغالي لذلك لم تقربه، كما أنه فقد شهيته، بسبب حبسه دون ذنب جناه! لم ينم وظل يبكي طول الليل. طلب مقابلة أمه أو أخيه ولم تتم الإستجابة إلي طلبه! المطلوب المزيد من الإذلال والألم معا!
الغول (بعد أن جلس علي الكرسي الذي أحضره معه وقد ملأه حتي فاض): يا الغالي .. إسمك الغالي لكن يبدو إنك رخيص .. عكس إسمك تماما! وأنا إسمي الغول .. أرفع رأسك فوق، عارف أيه يعني الغول؟
الغالي: ( نظر إلي الغول وإلتقت عيونهما وسرت رجفة في جسد الغالي): لا ما بعرف.
الغول : ما بتعرف؟ ورفع سوطه بسرعة وظل يلاحقه به بإنتظام علي كل جسده دون رحمة أو شفقة.
صرخ الغالي ورفع كلتا يديه ليحمي رأسه وتلوي محاولا تجنب السياط، لكنها أبت أو أصر من يحملها إلا وأن تلهب كل جزء من جسمه!
الغول (بصوت عال وعيون يتطاير منها الشرر وفم يذبد): يا ولد مين اللي سرق الأقمشة؟
الغالي (ما زال يبكي ويتألم): والله ما بعرف.
وعادت السياط لما صنعت له ولم ترحم الغالي كما لم يرحمه الغول الذي يحملها!
الغول: إذا ما وريتنا الزول الشال الدمورية ما ح نخليك! ح نقتلك وأمك ذاتها تاني ما ح تشوفها !
الغالي: … (يصرخ ويتلوي .. لم يستطع الإجابة) ..
بنهاية جلسة الإستجواب دخل الغالي في شبه غيبوبة! ولم يصل الغول مبتغاه! أو مبتغي إدارته.
الغول (مخاطبا المقدم عمر رئيسه المباشر): سعادتك، الولد مصر علي رأيه، لم يعترف بأي شئ!
المقدم عمر: حاول معه بكرة، مافي مشتبه غيره! لا بد من مزيد من الضغط عليه حتي يعترف ويرشدنا ويدلنا علي من تعاون معه في السرقة!
الغول : حاضر سعادتك.
في اليوم الثاني عقدت جلسة إستجواب من نوع آخر أكثر إيلاما وإحتقارا! نفذها الغول بمشاركه ثلاثة من زملائه! تم تعليق الغالي من يديه ورجليه على غصن تدلي من شجرة أمام مكان الإحتجاز، وهي وضعية معروفة باسم (الطيارة قامت). الحيوان لا يعلق بتلك الهيئة إلا بعد ذبحه للشواء علي نار مشتعلة! أرادوا له أن يشوي حيا! والنار الآن تلهب كل دواخله وجسمه من أثر الضرب! بكي منها وصرخ ونادي علي أمه ولا مجيب! إنه يتألم جسديا ونفسيا، فجروح سياط الأمس كأنها حدثت لتوها، وها هو الآن يعلق كالخروف ولا يدري ماذا يراد له أو به! ولما كان الغالي ثقيل الوزن إنكسر الغصن الذي علق عليه فسقط على رأسه وفارق الحياة! فكوا وثاق يديه ورجليه من الغصن الذي سقط معه وعليه .. ومددوه علي الأرض جثة هامدة!
المقدم عمر (مخاطبا فريقه الذي أدي المهمة ولا يبدو أنه حزن لما جري!): أرجو القيام بفتح بلاغ إجرائي بالحالة (الوفاة في ظروف غامضة !).
الغول: حاضر سعادتك (الأمر سهل! فمثله حدث من قبل لكثيرين! ويبدو عاديا فهذه ليست أول مرة يقوم بذلك ولن تكون الأخيرة!)
عند الشرطة تم فتح البلاغ الإجرائي بموجب مادة إجرائية تنص علي (في حالة الوفاة في ظروف غامضة يتم إجراء تحري أولي عن سبب الوفاة وملابسات العثور علي الجثمان).
إكتمل التحري سريعا وتم غسيل وتكفين (الغالي) وحمل إلي المقابر علي عجل! وأم صلاة الجنازة عليه القاضي المشرف علي الإجراءآت! وحضرها أفراد من شرطة المباحث يتقدمهم رئيس الفريق المقدم عمر (أقتل القتيل وأمشي في جنازته وأكرمه بالصلاة عليه ودفنه!). وإستضافت المقابر المرحوم (الغالي) في هدوء تام! وأكمل القاضي المهمة بإصدار أمر بحفظ الأوراق لعدم وجود جريمة من واقع الأدلة المتوفرة!
لم يذهبوا بجثمان الغالي إلي المستشفى لإصدار تقرير طبي يحدد سبب الوفاة! لم يحتاجوا لذلك أبدا! ولو إحتاجوا إليه سيصدر تقرير طبي وسيكون غالبا متواطئا مع ما يطبخ أو طبخ! فهو لن يخرج عن ما يجري أو جري في غابة الوحوش هذه في جمهورية (الواق واق)!
والدة الغالي (الحاجة عائشة) أرملة توفي عنها زوجها الذي كان يعمل جنديا، توفي في حرب جنوب دولة (الواق واق) وترك لها ثلاثة أولاد وبنتين ولهم منه معاش جاري أو واقف! كانت لها تربيزة شاي في السوق الشعبي بالمدينة تعينها علي مصاعب المعيشة. إبنها الأكبر (بشير) يعمل جنديا أيضا في حامية أخري غير التي يعمل بها شقيقه الأصغر الغالي. وكان إبنها الغالي يتردد عليها بين الحين والآخر ولكنه تأخر عنها كثيرا بعد حبسه. فقلقت عليه وذهبت إلي الحامية تصحبها إحدي بناتها للسؤال عنه.
عند مدخل الحامية قابلت الحاجة عائشة أحد الضباط ممن يعمل معهم أبنها الغالي، سألته عنه مشفقة وذكرت بأنه لم يزرهم منذ مدة وليس من عادته ذلك! كان الضابط يعلم ما حدث لإبنها لكنه لا يرغب أن يفيدها بما حدث له وهي في الشارع! ودلها أن تقابل رئيس القسم المسؤول عنه في الداخل. وكان الرائد خالد مسؤولا عن الصبية الذين يعملون بالحامية.
الحاجة عائشة: السلام عليكم جنابو خالد ..
الرائد خالد (مرتبكا ومضطربا): وعليكم السلام ورحمة الله ..
الحاجة عائشة: يا جنابو ولدي الغالي ليهو أسبوعين ما جانا، مالو؟ إن شاء الله خير؟
الرائد خالد: .. (صمت قليلا، إرتبك، لم يستطع أن ينظر إليها وزاد إرتباكا) .. في الحقيقة يا حاجة عاشة (عائشة) ولدك الغالي أصابه مرض غريب وتوفي فجأة! ربنا يرحمه!
الحاجة عائشة ( صعقت وصدمت، أصابتها موجة غضب عارمة ممزوجة بحزن وألم حادين عميقين، إنهمرت الدموع علي وجنتيها، تملكت مشاعرها قليلا، وإنفجرت): طيب ليه ما كلمتونا؟! ولا الغالي مقطوع من شجرة؟ ولا كتلتوه؟ برضو كان تورونا! إنا لله وإنا إليه راجعون! حسبي الله ونعم الوكيل فيكم كان تحرقوا قلوبنا! بكت أخيرا وصرخت! إجتمعت حولها بعض المجندات العاملات في الحامية، أمسكن بها وحاولن مواساتها في مصيبتها، هدأت بعض الشئ. قالت لهن (محتجة وهي تبكي): لا يكلمونا بالحاصل ولا يسلمونا الجثمان ندفنه؟! ديل ما بشر! نحنا في جمهورية (الواق واق) في زحل! ما سمعنا بالكلام دا من قبل! إلا من الزوار اللي جاؤا من الأرض! ويملؤون المدينة ويتسكعون في الطرقات! هل وصل أثرهم حتى دوائرنا الحكومية؟ والله دي مصيبة!
ذهبت الحاجة عائشة وبنتها إلي مركز الشرطة لتدون بلاغا بحادثة وفاة إبنها الغالي وتطلب التحري فيها. فوجئت بأن هناك بلاغا مفتوحا بالحالة بموجب مادة إجرائية (الوفاة في ظروف غامضة). تألمت وحزنت أكثر، إكتشفت إن الرائد خالد كذب عليها، فالكل يكذب ولا يقول الحقيقة! وإن وجدها يلوي عنقها!
لجأت بعد ذلك إلي رئاسة الإستخبارات بالحامية، وهي رأس الأفعي التي لدغت الغالي (الخصم والحكم!). هناك قدمت لها بعض المواد التموينية ومبلغا ماليا لتستعين به علي إقامة العزاء علي إبنها. رفضت تلك المنحة وتمسكت بمطالبتها بالتحقيق!
وظلت الحاجة عائشة تتردد على القيادة مطالبة بالتحقيق دون جدوى بل ذكرت إنها بدأت تجد غلظة ورفضا للتعاون معها وتلقت إشارات تهديد بعدم تصعيد الشكوى!
عثر الأستاذ (مجاهد) أحد وكلاء النيابة المنقول حديثا الى دائرة الإختصاص على أوراق البلاغ، وأمر بفتح تحقيق في ملابسات التحري. بذلت جهود حثيثة لإجبار ضابط الإستخبارات المسؤول المقدم (عمر) للتعاون والإدلاء بإفادات من واقع مضابط التحقيق الداخلي في واقعة سرقة الدمورية. ولما فشلت تلك الجهود قام مجاهد بإحالة التحري إلى النائب أو النايم العام مع التوصية بتكوين فريق تحري مشترك بين النيابة العامة والقضاء العسكرى. على إثر هذا الإجراء تم إستدعاء المقدم عمر توطئة للتحقيق معه. وكانت هناك مماطلات وتسويف! بعد فترة ظهر إسمه مترقيا (عميدا) في كشف الترقيات الدوري وإسندت له مهام عسكرية، وعين ملحقا عسكريا بسفارة جمهورية (الواق واق) في إحدى الدول الصديقة.
وإنقطعت الأخبار عن عائشة (أم الغالي القتيل) – يبدو إن التهديدات أدت مفعولها! وليدفن الموضوع بالكامل ويواري الثري كما المظلوم الغالي! وتم نقل إبنها بشير العسكري الذي كان يتولى متابعة الإجراءات مع والدته إلى مناطق العمليات بجنوب جمهورية (الواق واق) في ذلك الوقت.
وقبع ومات الملف في ردهات نيابة جمهورية (الواق واق) وفيه أيضا طويت وسكنت أحزان وآلام الثكلي (الحاجة عائشة) أم الغالي!
عجمان 2025
sayedhalaly23@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم